ربما يلاحظ البعض الفرق بين ملابس الإكليروس (رجال الكنيسة) في الشرق والغرب.. فبينما نجدها سوداء في إكليروس الشرق، نشهدها بيضاء في إكليرس الغرب (الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأسقفية)!!
لا تتعجب.. ولا تظن أن هذا الوضع هو القائم منذ نشأة المسيحية..
تعالى معي عزيزي القارئ لنتعرّف عل أصل هذا الموضوع من كتب التاريخ..
يقول القس منسى يوحنا في كتابه "تاريخ الكنيسة القبطية" عن مجمع نيقية عام 325م: "كتب قسطنطين منشوراً يستدعي فيه جميع أساقفة المملكة للإجتماع في مدينة نيقية، فلبّى الدعوى حالاً 318 أسقفاً من كل أقاليم العالم المسيحي ما عدا القليل، والأكثرون منهم كانوا قد إعترفوا بألوهية سيدنا يسوع المسيح وتعذّبوا لأجل ذلك في زمن إضطهادات الوثنيين.. وكان المجمع مكتظاً بعدد عظيم من الذين أتوا غيرة على لاهوت المسيح، ومنهم من أتوا بغيّة الفُرجة لعلمهم بأهمية المجمع الذي ضم ممثلي كنائس العالم للبحث في أهم المسائل، وبلغ عدد جميع المشاهدين نحو الألفين كان بينهم بعض الفلاسفة الذين لم يُسمح لهم بالدخول بل كانوا يقابلون الأعضاء في الخارج ويناقشونهم.. وكان الشمامسة لابسين رداءً طويلاً والأساقفة والكهنة برنساً كبيراً من الصوف، وكلها من اللون الأبيض.. أما مكان المجمع فكان في الساحة الوسطى في القصر الملوكي، ودخل بعض موظفي البيت الملوكي ورجال البلاط وعدد من الأسرة المالكة.. ورام قسطنطين أن يحضر المجمع لكي يزيده شرفاً فقط لأنه قال للآباء (إن الحُكم على قضايا الإيمان لا يختصّ بسلطة ملك بل إنما خصّه السيد المسيح بالأساقفة فقط)، ودخل الظابط الذي يتقدّمه فوقف الجميع ثم دخل هو ماشياً الهوينا ووُضع في الوسط كرسي من ذهب له فأبَى أن يجلس عليه وجلس في آخر المجمع ولكن الأساقفة أشاروا عليه أن ينتقل من مكانه ويجلس في الموضع الذي أُعِدَّ له ففعل..
وبعد أن إنتهى المجمع من أعماله أولَم قسطنطين لأعضائه وليمة عظيمة في بدء السنة العشرين لمُلكه، فإجتمع الآباء الروحيون على مائدة الملك، ويقول أوسابيوس المؤرخ (أن إجتماع آباء الكنيسة في سلام وصفاء -بملابسهم البيضاء- بهذه المأدبة الفخيمة كان يشبه صورة ملكوت المسيح، وقد تجلّى هذا المنظر أمامي كحُلم أكثر منه حقيقة).. وكان الإمبراطور يحادث ضيوفه بكل بشاشة ثم ألقى عليهم خطاب الوداع ناصحاً إياهم بإلتزام خطة السلام، وبعد ذلك وزّع عليهم الهدايا وسلّمهم الأوامر إلى حُكّام البلاد التي هم تابعون لها آمراً هؤلاء الحُكّام بأن يوزّعوا على الكنائس كل سنة مقدار من الحنطة لمؤونة رجال الإكليروس والأرامل والعذارى والفقراء التابعين للكنائس، ثم طلب منهم البركة وأعدّ الركائب لعودتهم إلى أوطانهم فعادوا إليها بسلام".
هذا عن الأساقفة والكهنة والشمامسة..
وأما عن الرهبان..
فيقول القمص يوسف أسعد في كتابه "الرهبنة" عن الزيّ الرهباني القبطي: "كان الأنبا أنطونيوس الكبير أب جميع الرهبان يلبس قميص من جلد الغنم، فوقه مسحاً من الكتّان، وكان يلبس قُلُنسُوَة لغطاء رأسه من الوبر، وكان يمسك بيده عكّاز على شكل حرف t، وعند نياحته أوصى بجلد الغنم ومسح الكتّان للبابا أثناسيوس وبغطاء الرأس للأسقف سيرابيون تلميذه، والعكّاز إلى أنبا مقار (مكاريوس) الكبير.. وإنتقل هذا الزيّ الرهباني إلى من بعده من الآباء.. أما عن لون الزيّ الرهباني فقد سمعنا من الأنبا دانيال قُمّص شيهيت (من آباء القرن السادس الميلادى) أن رهبان شيهيت إنحدروا إلى الإسكندرية وهم بملابسهم البيضاء للإحتفال بجنازة مرقس، كما نسمع عن الرهبان الذين خرجوا لإستقبال الأنبا بنيامين البطريرك عند تكريس كنيسة أنبا مقار كانوا يلبسون ثياباً بيضاء وفي أيديهم سعف النخل".
(أنظر أيضاً كتب: "دراسات في تاريخ الرهبانية والديرية المصرية" لد. حكيم أمين، و"كنائس وأديرة مصر" لأبو صالح الأرمني، و"قصة الكنيسة القبطية" لإيريس المصري، "الرهبنة في عصر أنبا مقار" عن مخطوطة رقم 18 سير بدير أنبا مقار).
ولكن متى حدث التغيير في ملابس الإكليروس؟
حدث ذلك في أيام الحاكم بأمر الله – الخليفة الفاطمي (996- 1020م)
يقول القس منسى يوحنا في كتابه "تاريخ الكنيسة القبطية" نقلاً عن المقريزي:
قال المقريزى يصف قساوة الحاكم وتجبّره "وتشدد على النصارى وألزمهم بلبس ثياب الغيار وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من عمل الشعانين وعيد الصليب والتظاهر بما كانت عاداتهم فعله في أعيادهم من الإجتماع واللهو، وقبض على جميع ما هو محبس على الكنائس والديارات وأدخله في الديوان، وكتب إلى أعماله كلها بذلك وأحرق عدة صلبان كثيرة ومنع النصارى من شراء العبيد والإماء وهدم الكنائس التي بخط راشدة ظاهر مدينة مصر وأخرب كنائس المقس خارج القاهرة وأباح ما فيها للناس فإنتهبوا منها ما يجلّ وصفه وهدم دير القصر وأنهب العامة ما فيه، ومنع النصارى من عمل الغطاس على شاطئ النيل بمصر وأبطل ما كان يُعمل فيه من الإجتماع للهو، وألزم رجال النصارى بتعليق الصلبان الخشب التي زنة كل صليب منها خمسة أرطال في أعناقهم، ومنعهم من ركوب الخيل وجعل لهم أن يركبوا البغال والحمير بسروج ولجم غير محلاة بالذهب والفضة بل تكون من جلود سود، وضرب بالحرس في القاهرة ومصر وأمر أن لا يركب أحد من المكارية ذمياً ولا يحمل نوتي منهم أحداً من أهل الذمة، وأن تكون ثياب النصارى وعمائمهم شديدة السواد، وركب سروجهم من خشب الجميز، وأن يعلّق اليهود في أعناقهم خشباً مدوراً زنة الخشبة منها خمسة أرطال وهي ظاهرة فوق ثيابهم، وأخذ في هدم الكنائس كلها وأباح ما فيها وما هو محبس عليها للناس نهباً وإقطاعاً فهُدمت بأسرها ونهب جميع أمتعتها وأقطع أحباسها وبنى في مواضعها المساجد وأذّن بالصلاة في كنيسة شنوده بمصر وأحيط بكنيسة المعلّقة في قصر الشمع، وأكثر الناس في رفع القصص بطلب كنائس أعمال مصر ودياراتها فلم يردّ قصة منها إلا وقد وقّع عليها بإجابة رافعها لما سأل فأخذوا أمتعة الكنائس والديارات وباعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك وتصرّفوا في أحباسها، ووجد في كنيسة شنوده مال جليل ووجد في المعلّقة من المصاغ وثياب الديباج أمر كثير جداً إلى الغاية، وكتب إلى ولاة الأعمال بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والديارات فعمّ الهدم فيها من سنة ثلاث وأربعمائة هـ (1013م) حتى ذكر ما يوصف به في ذلك أن الذي هُدم إلى آخر سنة خمس وأربعمائة هـ (1015م) بمصر والشام وأعمالهما من الهياكل التي بناها الروم نيف وثلاثون آلف بيعة ونهب ما فيها من آلات الذهب والفضة وقبض على أوقافها وكانت أوقافاً جليلة على مبان عجيبة، وألزم النصارى أن تكون الصلبان في أعناقهم إذا دخلوا الحمّام وألزم اليهود أن تكون فى أعناقهم الأجراس ثم ألزم اليهود والنصارى بخروجهم كلهم من أرض مصر إلى بلاد الروم فإجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة وإستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أُعفوا من النفي، وفي هذه الحوادث أسلم كثير من النصارى" (المقريزى، الخطط، جزء 4)..
ويستكمل القس منسى يوحنا واصفاً وموضحاً أسباب إضطهاده للنصارى قائلاً:
ظهر في أيامه مسلم متمذهب يدعى "ضرار" سنَّ شرائع كثيرة منها تعظيم يوم الجمعة والإحتفال بالأعياد والتعويض عن الحج بمكة بزيارة مقام طالب باليمن وأباح الزيجة بين الأخ وأخته والأب وبناته والأم وأبنائها فإرتاح الحاكم لهذه الديانة الجديدة. ويُظن أنه كان معتوهاً إذ كان يصعد كل صباح منفرداً إلى جبل المقطّم حيث إدّعى أنه يناجي الله كما كان يفعل موسى. وبعد أن كان أشد نصيراً للديانة الإسلامية نادى جهاراً بمقاومتها وإقامة ديانته الجديدة مكانها فإحتقرته الرعية ولم تعد تعبأ بمدّعياته فعاد إلى نصرة الإسلام وإضطهاد النصارى..
قيل أن السبب الذي هيّجه على المسيحيين هو أنه في أثناء إدّعائه الألوهة وضع دفاتر في مراكز الحكومة الأربعة وهي القاهرة ومصر القديمة والفسطاط وبابيليون لتسجيل أسماء الذين يعتنقون آراءه الباطلة ستة عشر ألف نفس لم يكن بينهم مسيحي واحد، فنقم على النصارى وأمر بحرق مدينتهم بابيليون فحُرقت وسٌُلبت أمتعتها ونهى عن بيع الذبيب حتى لا يتيسّر للأقباط إتمام السر المقدّس وهجم على بيوت التجار وجمع ما كان موجوداً منه وأحرقه بالنار وكان في الجيزة كروم كثيرة فأرسل إليه أعوانه فقطعوها وخربوها عن آخرها..
وإستمر إضطهاد الحاكم تسع سنين كانت الثلاثة الأخيرة منها أشد هولاً إذ أمر بإبطال العبادة في جميع الكنائس إلا في الأديرة الكائنة بالجبال فكان الشعب يرشون حكّام الأقاليم ليسمحوا لهم بممارسة شعائر العبادة في البيوت سراً ومن ثم صار الأقباط يقدّسون ويتناولون الإفخارستيا سراً. فهال الحاكم عدم تنفيذ أمره بالدقّة، وضيّق على القسوس وقتل منهم عدداً عظيماً وهرب كثير منهم إلى الأديرة البعيدة فتتبعهم وقتلهم، وأكره كثيرين من النصارى على الإسلام فأسلم منهم عدد عظيم ولكن كثيرين جاهروا بالإيمان ولم يخشوا بطش الخليفة منهم الشماس بقيرة أحد رؤساء كتّاب الديوان فهذا إستعفى من خدمته وحمل الإنجيل على صدره وسار به إلى السراي وإعترف قدّام الخليفة بالمسيح فقيّده وطرحه مع جماعة في السجن ثم عفا عنهم وأنالهم الحريّة فجالوا يثبّتون إخوتهم على الإيمان.
وإستمر الحاكم يفتك بالأقباط فتكاً ذريعاً، حتى أتاح لهم الحظ براهب يُدعى بيمن كان قد أسلم، فلما رأى أن كثيرين صُرِّح لهم بالرجوع إلى دينهم وقف في طريق الحاكم هو وجماعة ممن أسلموا معه ولما مرّ بهم صرخوا قائلين "أيها الملك مرنا أن نعود إلى ديننا أو إذبحنا فإننا لا نطيق أن نبقى مسلمين" فسمح لهم بذلك وكتب لهم مرسوماً وأمر أن لا يتعرّض لهم أحد بمكروه، ثم قرَّب إليه الراهب المذكور وأعطاه إذناً ببناء دير خارج مصر على إسم الشهيد مركوريوس وهو المعروف بدير شهران ودير العريان الآن فسكنه مع بعض الرهبان، ومن محبة الحاكم لبيمن صار يتردد على هذا الدير ويأكل ويشرب مع الرهبان ويظهر إستعداده لإجابة طلباتهم فطلبوا منه إرجاع بطريركهم المنفي فأرجعه وسلّمه أمراً بفتح الكنائس المغلقة التي أمر بهدمها وإعادة ما نُهب منها وردّ أوقافها كما كانت - وهو الأنبا زخارياس البطريرك 64 الذي أقام عشرين سنة على الكرسي المرقسي، منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله تسع سنين، إعتقله منها ثلاثة أشهر، وأمر به فأُلقي للسباع هو وسوسنة النوبي فلم تضرّه.
ويذكر كتاب "تاريخ الكنيسة القبطية – إصداركنيسة رئيس الملائكة ميخائيل ومارمينا بستاتين أيلاند بنيويورك":
قبض الحاكم على زمام الأمور في البلاد وهو دون السادسة عشر من عمره، وأخذ يصدر تعليمات ومراسيم تثير الدهشة والأسى والضحك في وقت معاً، ومهما قيل في تبرير هذا التصرّفات فإنه من الواضح التضارب الشديد وعدم الإستقرار الفعلي فيها..
أخذ إضطهاد النصارى في عهد الحاكم بأمر الله يزداد عنفاً يوم بعد يوم، وأول من إستشهد له هم موظفو الدولة حيث فصل عدداً كبيراً منهم ولم يترك إلا الذين إتّضح له عدم إمكان الإستغناء عنهم لخدمتهم.. ثم أصبح الإضطهاد عامّاً سنة 1004م وصبّ الحاكم غضبه على النصارى فأمرهم أن يصنعوا ملابس تميّزهم عن سواهم.. وفي سنة 1008م فرض الحاكم قيوداً أخرى على الزيّ، ومنع أثرياء الأقباط من إمتلاك العبيد وإستخدام المسلمين، وأصدر في نفس العام أمره بهدم كنائس القاهرة ونهب كل ما فيها.. كما صبّ جام غضبه على المسلمين السنيين -حيث كان على المذهب الشيعي الفاطمي-.. ولما علم بأن النصارى يطوفون خارج أسوار كنيسة القيامة بالقدس أثناء الإحتفالات الدينية وخاصة يوم أحد الشعانين وفي عيد الفصح، أمر بهدم الكنيسة، وكان لهذا الإجراء الأخير دوياً هائلاً ووقعاً سيئاً جداً لا في الشرق فحسب بل وفي الغرب أيضاً، وكما يقول أحد المؤمنين الغربيين تعليقاً على ذلك "بكى المسيحيون جميعاً"، ونعتقد أن تصرّف الحاكم بأمر الله في هدم كنيسة القيامة كان أحد الأسباب الرئيسية لقيام الحروب الصليبية، وتقول الرواية أن الكاتب الذي نسخ هذا الأمر الخاص بهدم الكنيسة كان نصرانياً نسطورياً يُعرف بإبن شيرين وأنه من شدة الحزن مات كمداً بعد أيام قليلة (جاك تاجر، أقباط ومسلمون، عن إبن إياس، بدائع الزهور في واقع الدهور).. وفي عام 1009م صدرت أوامر مشددة تقضي بإلغاء الأعياد المسيحية ومنع الإحتفال بها في أنحاء البلاد، وصودرت أوقاف الكنائس والأديرة لحساب بيت مال المسلمين (د. قاسم عبده قاسم، أهل الذمّة في مصر- العصور الوسطى)، ومنع أيضاً ضرب النواقيس كما نُزعت الصلبان من قباب ومنارات الكنائس، ووصل به الأمر إلى أن طلب من المسيحيين الأقباط أن يقوموا بمحو وشم الصليب من أيديهم.. وفي سنة 1011م صدر الأمر أن يعلّق النصارى حول أعناقهم صلباناً من الخشب طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال.. وفي سنة 1013م صدر أمر بهدم وسلب الكنائس والأديرة الموجودة بالأراضي المصرية بدون إستثناء، ويُقال أن عدد ما هُدم من الكنائس والأديرة في ذلك الحين ثلاثون ألفاً (أقباط ومسلمون)، وخيّر الحاكم الأقباط بين إعتناق الإسلام أو الخروج من مصر (أهل الذمّة في مصر)..
ومما زاد الحالة سوء ووحشية، الرعاع والسوقة - الذين فى حقد وشماتة أخذوا ينفِّذون إرادة مولاهم الحاكم بأمر الله، فلم يهدموا الكنائس فقط بل محوها محواً كاملاً، ووصلت بهم ثورة الإنتقام إلى نبش قبور النصارى وإستخراج عظام الموتى لإستخدامها وقوداً للحمّامات..
ومن قبيل التحقير الأدبي أصدر الحاكم أمراً إلى المكاريين والنوتية بأن يرفضوا نقل الذميين.. وأخيراً وضع الحاكم أهل الذمّة بين أمرين: إما الموت وإما الإرتداد عن دينهم، وكانت النتيجة أن أسلم عدد كبير، بينما هجر البعض دورهم سراً ولجأوا إلى المناطق التابعة للإمبراطورية الرومانية، وهناك فريق ثالث أخفوا إيمانهم وكانوا يجتمعون في أماكن خاصة أخفوا بها الأواني المقدّسة التي أفلتت من المصادرة والنهب والسلب (أقباط ومسلمون)..
ويصف لنا المؤرخ يحيى بن سعيد الأنطاكي المتوفى سنة 1066م وبدأ كتابة تاريخه بعد إختفاء الحاكم بأمر الله بفترة وجيزة- مشهداً وقع بالقاهرة سنة 1012م ويدل على مدى اليأس الذي ملك قلوب الأقباط إزاء إضطهادات الحاكم الوحشية الجنونية: "إجتمع سائر من بمصر من الكتّاب والعمّال والأطباء وغيرهم مع أساقفتهم وكهنتهم وتوجّهوا إلى قصره وكشفوا عن رؤوسهم في باب القاهرة ومشوا حفاة وباكين مستغيثين إليه، فأنفذ إليهم أحد أصحابه وأخذ منهم ورقة كانوا قد كتبوها يلتمسون عفوه عنهم وإزالة سخطه، فأعاد إليهم الرسول وردّ عليهم رداً جميلاً" (الأنطاكي - عن أقباط ومسلمون)..
ولا بد أن نشير إلى الضربة القاسمة التي تلقّتها اللغة القبطية على يدي الحاكم، فقد أصدر أوامر مشددة بإبطال إستخدام اللغة القبطية نهائياً في المنازل والطرقات العامة ومعاقبة كل من يستعملها بقطع لسانه، وضيّق على الأولاد والبنات والسيدات بالبيوت بالأمر بقطع لسان كل سيدة قبطية تتكلم القبطية مع أولادها وأطفالها، وكان الحاكم في موقفه من اللغة القبطية قدوة لبعض الحكّام الطغاة الذين جاءوا بعده..
أخيراً بعد أن سفك دماء ذكيّة كالأنهار، وبلغ عدد من قتلهم ثمانية عشر ألف إنسان، وبعد أن إدّعى الألوهية، عاد وأظهر سماحة نحو الأقباط (سيرة الأنبا زخارياس البطريرك 64، تاريخ البطاركة)..
أما عن نهاية حُكم الحاكم فإن الغموض يكتنفها، لقد إختفى فجأة بعد أن شوهد يقصد جبل المقطّم.
أخيراً بعد سرد هذا التاريخ الأليم والمظلم الذي عاش فيه أجدادنا المصريون، بقى لنا أن نقول:لم يتحمّل أقباط مصر من الإضطهاد منذ دخول العرب مصر، أكثر ولا أسوأ مما تحمّلوه في عهد الحاكم بأمر الله، كما يذكر المؤرخون..
فهل سيعيد التاريخ الحديث تلقيب هذا الطاغية باللقب الذي يليق به وهو "الحاكم بأمر إبليس"؟!
وهل سينصف التاريخ الحديث الأقباط ويعيد إليهم كافة حقوقهم المسلوبة؟!
وهل سيعطيهم التعويضات التي ترضيهم عن كل ما إجتازوه من إضطهاد وظلم عنيف عبر قرون طويلة؟!
وهل سيعيد الإكليروس ورهبان الشرق حريّتهم في إرتداء الملابس البيضاء كسابق عهدهم؟! والتي يقتصرونها الآن على ممارسة شعائر الليتورجيا داخل الكنائس؟!
إن لم يفعل البشر، فحتماً سيفعل الله..
"ولما فُتح الختم الخامس رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم، وصرخوا بصوت عظيم قائلين حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الارض، فأُعطوا كل واحد ثياباً بيضاً وقيل لهم أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتَلوا مثلهم" (رؤ6: 9- 11)