السير على المياه
6: 16- 23
رأوا يسوع يدنو من القارب ماشياً على البحر فخافوا.
في ف 6 نحن نعيش مع يسوع في "الفصح". ففي إطار تكثير الخبز والخطبة حول خبز الحياة في كفرناحوم، يدخل السير على البحيرة، بل على البحر. فالبحر يمثل عالم الشّر الذي يدوسه المسيح بقدميه الآن وفي النهاية (1 كور 15: 26).
نتساءل لدى قراءة هذا المقطع: ما هي علاقته بما هو سابق (تكثير الأرغفة) وبما هو لاحق (خطبة خبز الحياة)؟ في مت 14: 22 نرى يسوع نفسه "يجبر التلاميذ على أن يصعدوا إلى القارب ويسبقوه إلى العبر (والجهة المقابلة) بينما يصرف الجموع". أمّا هنا فنستطيع أن نسمّيه خبر انتقال. فالموضوع الحاضر في بداية الخبر يبقى هو هو. لقد فشلت المسيرة على خطى يسوع. التلاميذ هم وحدهم، متروكون وحالهم. والجموع ما زالت تبحث عن يسوع (آ 24).
ويرتفع الستار عن هوية يسوع السرية ويحصل المشهد في الليل (آ 17) وهو الوقت المؤاتي للوحي. إقترب يسوع وهو يسير على المياه. هكذا يتحرّر من نواميس الطبيعة بانتظار قيامته. كان الماء عنصراً يفصل بين مكان ومكان، فصار طريقاً يربط مكاناً بآخر. نستطيع أن نرى هنا تلميحاً إلى سفر الخروج، وبالأخصّ عبور البحر الأحمر: فهنا أيضاً تحوّلت المياه إلى طريق من أجل العبرانيين (خر 14).
وهناك تفصيل آخر يؤكد هذه القراءة: "أمسك الرعب بالتلاميذ" (آ 19). خافوا. هذا يعني أنهم رأوا في هذا الحدث تدخّلاً من قبل الله. فكلمة يسوع الفاعلة تجد ذروتها في "أنا هو" (أنا يهوه، أنا الربّ). بهاتين اللفظتين تحدّث اشعيا مراراً عن الربّ.
وهكذا نجد حلقة جديدة في الوحي التدريجي عن يوع: إنه موسى الجديد الذي يعبر البحر. إنه أليشاع الجديد الذي لا يطعم فقط مئة شخص، بل خمسة آلاف. وفوق هذا إنه كائن إلهي. يتّخذ اسم الله لنفسه، ويزيل الخوف عن الناس حين يظهر عليهم ويكشف لهم شخصيّته.
ينبّهنا الشرّاح أن لا نهتم في هذا المقطع بالأمور الطوبوغرافية (من أي مكان إلى مكان ذهب يسوع) ولا بالحقيقة التاريخية للخبر. إن فعلنا ذلك أضعنا طابعها الواضح كظهور إلهي (أبيفانيا). ما هو الهدف الذي أراده يوحنا؟ أن يبرز الكلمة التي تدلّ على القدرة الإلهية: أنا هو (آ 20). غير أن الجملة: "أنا هنا، لا تخافوا" هي موجودة في إنجيل مرقس (6: 50). هذا يعني أن صاحب الإنجيل الرابع استقى من تقليد قديم، وكيّف نصّه حول عبارة "أنا هو" فبدّل المضمون كله.
وإذا توقّفنا بصورة خاصة عند آ 22- 24، يمكننا أن نتساءل: كيف استطاع كل الجمع الحاضر (كانوا 5000) أن يعبروا البحيرة في قوارب لا يسع الواحد منها عشرة أشخاص. المهم أن قارب التلاميذ هو هنا، وهو يدلّ على الكنيسة، وأن الناس يبحثون عن يسوع ويطلبونه بكل الوسائل.
حين يروي متّى ومرقس خبر عبور البحيرة، فهما يختلفان عن يوحنا اختلافاً عميقاً بالهدف الذي وضعاه أمامهما. صوّر الإزائيون التلاميذ وهم يجهدون ليصلوا إلى الشاطىء. جاءهم يسوع، فظنّوا أنه خيال. صرخوا من الخوف فهدّأ يسوع من روعهم. أراد بطرس أن يذهب إلى يسوع فوق الماء، فكاد يغرق. وفي النهاية هدأت العاصفة فتعجّب التلاميذ (مت 14: 22- 33؛ مر 6: 45- 52).
أمّا يوحنا فيقول لنا فقط ما يعني يسوع نفسه. لا يأتي يسوع لكي يعين التلاميذ، بل ليظهر لهم في طبيعته الإلهية. ونحن ندرك هذه الوجهة الجديدة إذا لاحظنا أنّ يوحنا أشار إلى "المساء" (آ 16) وزاد في آ 17: "وأظلم الليل". فعند يوحنا، لا تدلّ لفظة "ليل" (أو: ظلمة) فقط على ظاهرة طبيعية منظورة. فكل مرة نجد هذه اللفظة (1: 5؛ 6: 17؛ 8: 12؛ 12: 35، 46؛ 20: 1) فهي تدلّ على واقع روحي. وفي النصّ الذي ندرس نجد تشديداً على الواقع الروحي بصورة خاصة في الإشارة إلى البحر الهائج، وإلى يسوع الذي لم يكن بعد "وصل إلى تلاميذه" (آ 17 ب). ثم تجلّى (ظهر) يسرع. بعد هذه اللحظة صار المشهد واضحاً وهادئاً بشكل لا يعبّر عنه، بشكل انتصار الله على قوى الشّر. وهكذا نصل إلى هدف العبور: إنه استباق مصوّر لنهاية تاريخ الخلاص.
شدّد بعض الشرّاح على الطابع البعد فصحي (أي حدث بعد القيامة والفصح) في هذا المقطع. بل نستطيع أن نتكلّم عن الطابع الاسكاتولوجي (نهاية الزمن أو ما بعد الزمن). هنا نقارب بين هذا المقطع والصيد العجيب في 21: 1- 14. فصيد 153 سمكة هو صورة عن تتمة تاريخ الخلاص. ويسوع هو هنا على الشاطىء وهو ينتظر التلاميذ وفي مقدّمتهم بطرس.
ويرى كيرلس الإسكندراني وأغوسطينس في هذا المقطع صورة مسبقة عن النهـاية الأخيرة. من هذه الزاوية، إن يسوع المنظور في نهاية الأزمنة يقابل الرب الخفي تحت أعراض الخبز. وفكرة عودة يسوع الأخيرة تربط ظهوره على البحر بحدث تكثير الخبز كما بالخطبة الأفخارستية في كفرناحوم. وإذا توقّفنا عند هذه العودة، نفهم لماذا قيل في آ 17 ب أن يسوع لم يكن "بعدُ قد وصل إليهم". هذا ما يعبرّ عن انتظار ساعة لم يكن التلاميذ يتوقعون أن يروا يسوع آتياً إليهم على البحر. أما الكنيسة فهي تسير مسيرتها، وهي تنتظر. إنها القارب الذي يصل في الحال إلى الأرض.
وتأتي بعض ملاحظات انتقالية يستعملها الكاتب ليدلّ على أن الجموع تبحث عن يسوع وتريد أن تجده بأسرع وقت ممكن. وهكذا لا يبيّن لنا أن يسوع يحدّث جمعاً آخر في كفرناحوم. فالذين رأوا آية تكثير الخبز هم الذين "بحثوا" (طلبوا) عن يسوع. عبروا البحيرة ليذهبوا إلى مجمع كفرناحوم (هل البحر، موضع الشرّ، يقف حاجزاً أمامهم؟ ربّما) بحثاً عن يسوع (آ 24 ب). كانت كفرناحوم، حسب كل الإنجيليين، مركز نشاط يسوع في الجليل. يبقى علينا أن نتساءل: لماذا بحثوا؟ عمّ يبحثون؟ عمّن يبحثون؟
حين ننطلق من كلمات يسوع التي تلي هذا المقطع (في 6: 26)، نستخلص في ما يخص آ 24 ب أن "البحث" عن يسوع هو في نظر يوحنا مدلول إيجابي جداً. في التوراة اليونانية (السبعينية)، تجمع هذه اللفظة (بحث، طلب) كل بحث بشري عن العالم، وعن مشاكل الإنسان. وبحثُ الجموع هذا يكون قيّماً وصادقاً إذا تمّ في روح كلمة اشعيا (55: 1، 6): "أنتم يا جميع العطاش، تعالوا إلى الماء. أنتم يا من ليس لكم خبز، تعالوا! أطلبوا الربّ ما دام يوجد، أدعوه ما دام قريبأ".
غير أن أهل الجليل لم يفهموا أن تكئير الأرغفة كان علامة تقودهم لكي يطلبوا "خبز" الرب (6: 26). في إنجيل يوحنا، يتكلّم يسوع مراراً عن بحث "فاسد". ليس بحث "الجائعين والعطاش إلى البرّ" (مت 5: 6؛ رج يو 6: 35)، بل أولئك الذين يريدون أن "يمتلكوا يسوع" (6: 15). قال لهم: "تطلبونني ولا تجدونني" (7: 34). وهكذا يفلت منهم الخلاص الذي يقدَّم لهم: "تموتون في خطاياكم" (8: 21). في هذا الوقت كان اليهود "يبحثون" عن يسوع ليهلكوه (5: 18؛ 7: 1، 19؛ 8: 37).
ويتكلّم يوحنا أيضاً عن "البحث" الجيّد. بحثَ يعني اهتم، فكّر. في هذا المعنى أعلن يسوع في عيد المظال: "فالذي يتكلّم من عنده يطلب المجد لنفسه. ولكن من يطلب المجد للذي أرسله، فهو صادق لا غشّ فيه" (7: 18). وفي خطبة يسوع الكرستولوجية الكبرى، قد سمعنا أقوال يسوع: "لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني" (5: 30). هذا هو "البحث" الحقيقي الذي يتكلّم عنه الكتاب المقدّس. هناك في العبرية كلمتان: الأولى (بقش) تدلّ على طلب وجه الله بحثاً عن المشورة والعون والتعزية. والثانية (درش، في العربية درس) تعني تفحّص، حفر. بهذه الطريقة "يبحث" البار عن الله ليكتشف ما يأمره به (الشريعة). وحين نفهم الفعل بهذا الشكل. يصبح البحث عن الله مهمة حيوية للإنسان.
تعوّدنا أن نقرأ عبارات خاصة بيوحنا ونجدها في الأدب الهلنستي (بعد دخول الإسكندر الكبير إلى الشرق): أنا هو نور العالم. أنا هو الراعي الصالح. أنا هو الكرمة الحقيقية. أمّا عبارة "أنا هو" في المطلق (أي: بدون زيادة) فهي خاصة بالكتاب المقدّس ولا سيما بيوحنا. نجد هذه العبارة في مر 6: 50 (إطمئنّوا، أنا هو، لا تخافوا)! مت 14: 27 (تشجّعوا، أنا هو، لا تخافوا. إذن في إطار السير على المياه).
ونجد هذه العبارة هنا في يو 6: 20 (الإطار عينه، السير على المياه)، وفي 8: 24: (ستموتون في خطاياكم، إذا كنتم لا تؤمنون أني أنا هو)، وفي 8: 28: "متى رفعتم ابن الإنسان عرفتم أني أنا هو". ونقرأ في 8: 58: "قبل أن يكون إبراهيم أنا هو". وفي 13: 19، بعد غسل الأرجل: "حتّى متى حدث تؤمنون أني أنا هو" (رج 18: 5، 6، 8 ويسوع في بستان الزيتون).
من وسط العلّيقة الملتهبة دوّت كلمة الله: "أنا هو الذي هو" (أي يهوه) (خر 3: 14). حين يسمع اليهودي هذه العبارة يفهم أنه أمام تأكيد إلهي. وفي التوراة السبعينية، نقل المترجم وأنا هو يهوه" (أش 45: 18) فقال: "أنا هو". إذن، استعاد المسيح في العهد الجديد عبارة وحي أخذها من العهد القديم، فحمّلها معنى جديداً. وهكذا كشف في شخصه عن الآب الذي هو الإله الواحد الوحيد في إسرائيل (رج 17: 3)، فاعتبره اليهودي كلاماً لا يستطيع أن يقبله وتجديفاً