كلمة الله
1: 1- 18
والكلمة صار بشراً وسكن بيننا.
لكلّ إنجيل طريقته في الحديث عن يسوع، في تحديد بداية يسوع. في نظر مرقس، تشكّل المعمودية بداية كرازة يسوع وانطلاقة الحركة التي دشّنها يسوع. بدايته هي البداية التي اختارتها الجماعة الأولى حين كرزت بيسوع "منذ عماد يوحنا إلى اليوم الذي فيه ارتفع يسوع" (أع 1: 22). في نظر متى ولوقا، تدلّ ولادة يسوع على مجيء المسيح وسط البشر.
أما بالنسبة إلى يوحنا، فموقع البداية هو قبل بداية الخليقة. حين كتب إنجيله، بحث عن مقدّمة. فوجد بين صلوات المسيحيين نشيداً تنشده الجماعة لمجد الكلمة، ابن الله، الذي جاء ليقيم وسط البشر. أخذه وكيّفه ليطابق مشروعه في كتابة إنجيل ينشد يسوع الذي هو المسيح وابن الله (20: 31).
في البدء كان الكلمة. بصيغة الفعل يشدّد يوحنا على أن الكلمة وُجد قبل الخلق وأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالله. هو مشدود إلى الله وهو في الوقت عينه الله بالذات. وهكذا جاء تأمل الأنجيلي في امتداد الفكر اليهودي حول الحكمة التي هي واقع وُجد قبل الخلق، والتي بدت شخصاً حياً لا فكرة مجرّدة. كان الكلمة يعمل في الخلق منذ البدء، لأنه أنار كل إنسان جاء إلى العالم. وهذا النور يشرق الآن أيضاً في العالم، فينير كل انسان حتى ولو كان غريباً عن الوحي.
هذا الكلمة الذي تجلّى لجميع البشر، وبصورة مميّزة لجماعة اسرائيل، عزم على أن يزرع خيمته وسط البشر. "صار الكلمة بشراً". لا يتوقّف يوحنا فيتحدّث عن مولد يسوع العجيب، ولا يذكر أسماء الأشخاص والأمكنة. بل ذهب إلى الجوهر فشدّد على العبور التاريخي الذي فيه صار الكلمة الأزلي بشراً، أخذ جسداً. ومنذ اللحظة التي فيها لُفظت مفردة "بشر"، اختفت مفردة "الكلمة" بشكل نهائي. بعد ذلك الوقت، لن نرى إلا "اللحم والدم" في ضعفه بل في ضيقه (يسوع عطش، جاع، اضطرب، تشوّه). استعمل يوحنا مراراً كلمة "انسان" فتفوّق على سائر الانجليين. فالتجسّد في نظره ليس "تظاهراً" بل حقيقة وواقع. لا شكّ في أن الكلمة لم يُلغَ في الإنسان، ولكن على البشر أن يروا في سماته البشرية مجد الله. شهدت جماعة المسيحيين الأولين أنها قد رأت "مجده".
وينتهي مطلع إنجيل يوحنا كما بدأ: جاء الكلمة من عند الله وهو "في حضن الله". إذن يستطيع وحده أن يجعل البشر يعرفون الله.
هناك مقطعان (آ 6- 7، 15) يتحدّثان عن يوحنا المعمدان، وقد يبدوان بشكل قطعتين اقحمتا في طلع يرتكز كله على الكلمة. قد زيدا ليجعلا يوحنا المعمدان في موقعه الحقيقي. لم يكن النور (عكس ما كان يقوله تبّاع المعمدن). بل كان شاهداً في دعوى يُدعى إليها كل انسان. فعلى مثال العالم الذي شعّ فيه النور، وعلى مثال الشعب اليهودي الذي إليه جاء، كل منا مدعوّ ليقوم بخيار شخصي تجاه الكلمة الذي صار بشراً. هل نرفضه كما فعل العالم وأهل بيته، أم نكون من المؤمنين به؟
في البدء كان الكلمة، كلمة الله. وكان الكلمة الله... والكلمة صار بشراً وسكن بيننا، أقام عندنا. هذا ما نكتشفه بصورة خاصة في عيد الميلاد. أما يصدمنا مثل هذا الكلام؟ ابن الله صار انساناً! إن كان لا، فهذا يعني أننا خسرنا معنى لفظة الله. أو لفظة الجسد. حاولوا. إذهبوا إلى سرير طفل وقولوا: الله!
أمام هذا الوجه الضعيف والسريع العطب، حيث يتخذ النور غير المخلوق شكل عينين صغيرتين لامعتين، حيث يتحوّل الحنان الخلاّق إلى فم يبتسم، حيث القدرة الالهية تصير ذراعاً ممدودة... حينئذ تتبدّل نظرتنا إلى الله، والى الإنسان. إله وطفل. هذا هو "الدوار" الذي يسبّبه سر التجسّد. يصاب عقلنا بالجنون! ويغشى قلبنا الدهش.
الميلاد هو سر إيمان. والروح وحده يستطيع أن يجعلنا نتأمّل في الله الذي يزورنا وهو على ركبة صبية يهودية اسمها مريم. الميلاد هو موضوع اللقاء بين الأزل والزمن، بين الاله والبشر، بين الحياة الأبدية والانسان المائت، وهذا ما لم نكن نتوقّعه. اليوم، صار المستحيل أمراً واقعاً. وتجسّد انتظار البشر منذ أجيال وأجيال.
اليوم تفجّر أفق تاريخنا. اليوم تحوّل مصيرنا وبدّل وجهته. فالأرض، هذه الحبّة من الرمل وسط المجرّات الواسعة، صارت مسكن الله. وفي قلب انسان من الناس يدقّ قلب الله.
تواضع مدهش لدى إله يختفي ويكشف عن نفسه في قسمات وجه طفل. هل من براءة ونقاوة تفوق ما في نظرة الطفل؟ ففي نظرة الطفل يستطيع كل انسان مهما سيطر الشّر عليه، أن يرى لمعان الرجاء في عالم من الحبّ والسلام. وحين يأتي الله ليخلّص الانسان المدجّج بالسلاح، فهو يتخذ نظرة طفل لكي ينظر إلينا. سلطته الوحيدة هي سلطة الحب. وحبّه يكفي لأن يجعلنا نرى سلامنا!
ويضيف يوحنا في عبارة موجزة، وفي الوقت عينه مليئة بخبرة يسوع في آلامه: "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله". هذه هي المأساة الدائمة في عالمنا. فالانسان لا يستطيع أن يولد من جديد، أن يلد عالماً جديداً إلا إذا تقبَّل حباً وتواضعاً وسلاماً من هذا الاله الذي لم يتعوّد عليه بعد.
لهذا السبب لا يزال الحب يولد على أرضنا. وكل مرة أنظر إلى وجه انسان فاكتشف فيه قسمات وجه الله، في ذلك الوقت يولد يسوع، يكون عيد الميلاد
الرب يدعونا لكي نتجاوز دائرتنا الصغيرة الضيقة. يدعونا لكي نتقبّل النور الذي أرسل إلى جميع الناس. صار الله انساناً، صار طفلاً في عالم البشر. فكيف نشكّ بعد اليوم ونرتاب بمستقبل العالم؟ هذا الكلمة الذي وُجد قبل العالم هو علامة حب الله للعالم. إله يسوع هو إله أولى الخطوات في الخلق والتاريخ. فلا يبقى علينا إلا أن ندخل في مشروعه هذا العظيم