رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التعليم عن الوداعة وعدم مقاومة الشر فى خدمة السيد المسيح قيل عن السيد المسيح بفم إشعياء النبى: “هوذا فتاى الذى اخترته، حبيبى الذى سرت به نفسى. أضع روحى عليه فيخبر الأمم بالحق، لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يُخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم” (مت12: 18-21). لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. المقصود بالخصام هنا، الجدال المصحوب بالغضب، والصياح، والكراهية، والكلمات الجارحة، والذى يؤدى إلى العداوة المتبادلة. لهذا أوصى معلمنا بولس الرسول: “فأريد أن يصلى الرجال فى كل مكان، رافعين أيادى طاهرة، بدون غضب ولا جدال” (1تى2: 8). كان السيد المسيح يدافع عن الحق فى وداعة عجيبة. لم يكن يهدد أو يتوعد، بل كان يثق فى قوة الحق فى ذاته.. لأن الحق يهدر مثل الرعد فى قلوب المقاومين. وقد واجه السيد المسيح مواقف كثيرة تدعو إلى الغضب، واحتمل الكثير من الإهانات. ولكنه كان يواجهها بالاحتمال، ويجاوب بطريقة الإقناع الهادئ، كما ذكرنا من قبل عن أسلوبه فى الحوار. كان السيد المسيح يدعو تلاميذه أن يتعلموا من أسلوبه هذا ويقول لهم: “احملوا نيرى عليكم، وتعلّموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت11: 29). وبنفس هذه الروح أوصى بولس الرسول تلميذه الأسقف تيموثاوس أن يتجنب الخصومات فى دفاعه عن الحق فقال: “والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالماً أنها تولد خصومات. وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفقاً بالجميع، صالحاً للتعليم. صبوراً على المشقات. مؤدِّباً بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق. فيستفيقوا من فخ إبليس. إذ قد اقتنصهم لإرادته” (2تى2: 23-26). بالطبع يجب أن يدافع الأسقف عن الحق، ويجب أن يؤدِّب المقاومين، ويجب أن يعزل العضو الفاسد، لئلا يؤثر على بقية الأعضاء. لأن “خميرة صغيرة تخمر العجين كله” (1كو5: 6). ولكن ما صنعه السيد المسيح، وما أوضحه بولس الرسول، هو أن أسلوب الدفاع، وأسلوب التأديب، ينبغى أن يكون فى إطار الوداعة، وبروح الاتضاع التى تليق بالراعى. الصراع الحقيقى هو مع إبليس، وليس مع الخطاة، أو مع المقاومين. والراعى الحكيم يهدف إلى تخليص الذين اصطادهم إبليس لإرادته. وهذا لا يتم بالدخول فى عداوة مع من يرغب الراعى فى تخليصهم.. بل بترفقه بهم، وصلاته من أجلهم، ومحاولته إقناعهم، وأحياناً بتأديبه لهم بروح الوداعة. كما لا يجب التفريط فى باقى الرعية، وحمايتهم من التأثير الضار. أسلوب الصياح والتهديد والدخول فى المعارك الكلامية الصاخبة، لا يتناسب مع اتضاع السيد المسيح كخادم للخلاص. لهذا قيل عنه “لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته” (مت12: 19). ” قصبة مرضوضة لا يقصف ” (مت12: 20) بترفقه بالخطاة، وبترفقه بالمقاومين، كان يطيل أناته عليهم، لعله يقتادهم إلى التوبة. لهذا قيل عنه “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يُخرج الحق إلى النصرة” (مت12: 20). كم من نفوس خلّصها السيد المسيح بترفقه وطول أناته، مثل زكا العشار، والمرأة السامرية، واللص اليمين، ومثل قائد المئة الذى صلب السيد المسيح، والذى اعترف بألوهيته بعد الصلب مباشرة بقوله: “حقا كان هذا الإنسان ابن الله” (مر15: 39). وكثيرون غيرهم ممن ذكرت أسماؤهم فى الأناجيل أو كانوا فى وسط الجموع الصاخبة التى صرخت: اصلبه اصلبه.. هذه الفتائل المدخنة هذه القصبات المرضوضة كان السبب فى وصولها إلى معرفة الحق أو فى تحررها من سلطان الخطية، هو وداعة السيد المسيح واتضاعه فى خدمته لها. عدم مقاومة الشر قال السيد المسيح: “لا تقاوموا الشر. بل من لطمك علىخدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً” (مت5: 39). وقال: “من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً” (مت5: 40)، وليس المقصود بكلمة لا تقاوموا الشر أن لا نقاوم الخطية فالكتاب يقول: “قاوموا إبليس فيهرب منكم” (يع4: 7)، فمقاومة الشر بمعنى مقاومة الخطية.. ليس هو ما قصده السيد المسيح بقوله لا تقاوموا الشر، بل كان يقصد بالشر المشاجرة والعدوان مع الآخرين. وقد قال الكتاب أيضاً: “إن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 20، 21). والرب يجازيك لأنه مكتوب: “لى النقمة أنا أجازى يقول الرب” (رو12: 19). ويدعونا أيضاً بطرس الرسول أن نتشبه بالسيد المسيح “الذى إذ شُتِم لم يكن يَشتم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعدل” (1بط2: 23). عندما شُتِم السيد المسيح لم يكن يَشتم عوضاً بل سلّم لله الآب. ونتيجة لذلك عندما قام من الأموات كل الذين شتموه صاروا فى خزى وخجل. لأن الذى شتموه قد انتصر على الموت، والذى قالوا عنه أنه مجدِّف ومضل أُعلن لهم أنه هو رئيس الحياة وقدوس القديسين، من خلال انتصاره على الموت وقيامته المجيدة.. فالذى شَتَم هو الذى صار مخزياً وليس الذى شُتِم. وبهذا قدّم لنا السيد المسيح تطبيقاً عملياً فى حياته لِما علّم به تلاميذه والجموع. اغلب بالمحبة وروح الوداعة لقد احتمل السيد المسيح الخزى فى لحظات الآلام والصلب، لكن بعد هذا تحول كل ذلك إلى مجد.. فعندما قال السيد المسيح: “لا تقاوموا الشر” كان يعلم أن هذا الكلام هو من أجل منفعتنا. لأن من يقاوم الشر فالشر يؤذيه.. وعندما قال السيد المسيح: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم” (مت5: 44) كان يقصد أننا نغلب أعداءنا بالمحبة، لأن الذى يغلب عدوك هو محبتك أكثر من عداوتك وكراهيتك. الإنسان الذى يستخدم العنف هو إنسان لا يستحق أن يكون مسيحياً. بل تكون نتيجة عنفه؛ أذيته هو أكثر مما يستطيع أن يؤذى غيره. فالعنف لا يعطيه نصرة أو مجد كما يتصور إنما يسبب له أذية أكثر مما يتوقع. فوصايا السيد المسيح ليست لتقييدنا كما يفتكر البعض، أو يقول أن الوصية صعبة. لكن الحقيقة أن السيد المسيح يسعى لأجل منفعتنا، لأنك إن فعلت ذلك ينجيك من الشر الذى يمكن أن يؤذى روحك. اغلب الشر بالخير “لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 21)، فإذا قدّمت محبة للذى يخاصمك، تغلبه بمحبتك وتكون أنت الذى انتصرت. لكن بدلاً من أن تنتصر بقوة السلاح تنتصر بقوة الخير وقوة الحب الساكن فيك. وإذ يأمرنا السيد المسيح بهذا لا يدعونا أن نكون جبناء أو أن نخاف، فهو الذى قال: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر” (لو12: 4)، وهو الذى شجّع أولاده أن يصيروا شهداء كالشهيدة دميانة والأربعين عذراء.. أين الجبن هنا؟! الإنسان المسيحى مستعد أن يواجه الأباطرة والحكام وينال إكليل الشهادة إذا طُلب منه أن يتنازل عن مسيحيته، كما طُلب من القديسة دميانة أن تبخر للأصنام أو تسجد لها ولكنها دفعت والدها مرقس والى البرلس إلى أن يصير شهيداً، بل وصارت هى أيضاً أميرة بين الشهيدات. مفهوم الشجاعة فى المسيحية المسيحية لا تدعو الإنسان إلى الخوف، أو إلى الجبن، بل تدعوه أن يكون قوياً شجاعاً، ولكن الشجاعة ليست أن يحمل سلاحاً، ولا يطمئن لشئ يحميه إلا السلاح. فيبدو فى الظاهر أنه شجاع لكنه فى الحقيقة من الداخل لا يجد سلاماً أو طمأنينة. أما القديسون فيشعرون دائماً بعدم خوف.. لماذا؟ لأن “ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز33: 7). الإنسان القديس أو الإنسان المؤمن، بل الإنسان المسيحى الحقيقى، يشعر أن الملائكة تحرسه، ويشعر أن أرواح القديسين تحرسه وتشفع من أجله. فيشعر بالطمأنينة ويصدّق كلمات السيد المسيح الذى قال: “بل شعور رؤوسكم أيضاً جميعها محصاة” (لو12: 7)، و”شعرة من رؤوسكم لا تهلك” (لو21: 18)، بذلك يشعر أنه ليس بحاجة إلى أن يرخِّص سلاحاً كى يحميه. فاستخدام السلاح هو إلقاء وقود على النار، بينما الكتاب المقدس يقول “لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 21).. أفضل سلاح تستخدمه هو سلاح المحبة، سلاح الوداعة.. السيد المسيح قال: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” (مت5: 5). الودعاء يرثون الأرض ما معنى أنهم يرثون الأرض؟ الإنسان الوديع يكون محبوباً من جيرانه، ومحبوباً من أهله وبحبه هذا يستطيع أن يرث الأرض، لأن كل الناس صاروا مِلكاً له. وإذ يحبه الناس يصيرون مِلكاً له أى يملك على قلوبهم، فأنت تملك جارك وتملك بيته وتملك حقله وتملك كل شئ فيه.. وكيف ذلك؟ لأنه يحبك وإذا أحبك فأنت تملك كل شئ.. البغضة تجعل الإنسان منبوذاً مكروهاً غير مرغوب فيه. هكذا فإن كل من يكره يخسر، بينما ينجح كل من يحب. أعظم سلاح يستخدمه الإنسان لكى يغلب عدوه هو سلاح الحب وليس سلاح الكراهية.. ويقول القديس يوحنا ذهبى الفم: [أفضل وسيلة تتخلص فيها من عدوك هى أن تحول هذا العدو إلى صديق] وبذلك تكون قد تخلّصت منه -ليس بالقضاء عليه، أو بقتله، أو أذيته- لكن تخلّصت منه كعدو إذ حولته إلى صديق، وصار هذا الصديق يحبك فلم يعد عدواً على الإطلاق. كما أنك تكون قد كسبت صديقاً جديداً وهكذا يتزايد عدد الذين يحبونك. |
|