رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أنشودة الموت وعذوبته إذ قدم مرثاة، مشتهيًا لو كان قد مات في الرحم، تطلع إلى حياته بآلامها ونكباتها فاستعذب الموت، مقدمًا قصيدة عن الموت الأكثر عذوبة من الحياة الزمنية إن صح التعبير. رأى في الهاوية خلاصًا مما يعنيه على الأرض. قدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) في إسهاب تفسيرًا رمزيًا لأنشودة الموت وعذوبته، فرأى في أيوب أنه اشتهى أن يموت في الرحم، أي مع أبويه آدم وحواء في الفردوس قبل خروجه إلى العالم الذي وُضع في الشرير، كما رأينا. ويرى في لقائه في القبر مع الملوك ومشيري الأرض لقاء مع جبابرة الإيمان والقادة الروحيين، حيث يستريح الكل بحياة أبدية واحدة، ليس فيها من يئن أو يتألم، ولا من صغير يحسد كبير "الأسرى يطمئنون، ولا يسمعون صوت المُسخر، الصغير كما الكبير هناك، والعبد حُرٌ من سيده" (18:3-19). لِمَ لَمْ أَمُتْ مِنَ الرَّحِمِ؟ عِنْدَمَا خَرَجْتُ مِنَ الْبَطْنِ، لِمَ لَمْ أُسْلِمِ الرُّوحَ؟ [11] ربما أدرك أيوب خطأه حين اشتهي لو تعرضت أمه للخطر بنزوله سقطًا قبل موعده ميلاده، عاد ليصحح الأمر، فاشتهي لو أنه وُلد ومات فورًا بعد خروجه من رحم أمه. تطلع أيوب إلى الحياة منذ ولادته أنها لعنة ونكبة له، وحسب الموت أعظم بركة كانت تحل عليه. على عكس هذا يقدم إرميا النبي وسط مرثاته المرة تسبحة شكر لله على "عطية الحياة"، فيقول: "إنه من احسانات الرب أننا لم نمت من الرحم، ولم نفنَ" (مرا 3: 22). جاء في قصة خرافية أن شخصًا متقدمًا في السن تعب جدًا من حمله شيئًا ثقيلًا، فطرح الحمل على الأرض، وفي يأسه استدعي الموت. وإذ جاء الموت وسأله ماذا يطلب ظانًا أنه يطلب أن يأخذ نفسه ويموت، فوجئ به يقول: "أرجو أن تساعدني على حمل حملي الثقيل(172)". قدم لنا أيوب مرثاة يتغنى فيها بعشقه للموت المبكر منذ لحظات ولادته ويمتدح فيها القبر. وكأن الموت والقبر قد صارا صديقين حميمين له. أما وقد جاء السيد المسيح بإرادته وسلطانه إلى الموت والقبر محولًا ذلك إلى أغنية مفرحة، لا يترنم بها اليائسون، بل المملئون رجاء في السماويات، طالبو الشركة في المجد الأبدي، والمشتهون للالتقاء بأصدقائهم السمائيين، يشاركونهم تسابيحهم. بالمسيح يسوع المصلوب واهب القيامة نتغنى: "إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن" (رو 14: 8). لِمَاذَا أَعَانَتْنِي الرُّكَبُ، وَلِمَ الثُّدِيُّ حَتَّى أَرْضَعَ؟ [12] يرفض البابا غريغوريوس (الكبير) التفسير الحرفي للعبارتين 11-12، متطلعًا إلى أيوب الطوباوي الذي وُهب معرفة روحية سامية هكذا، وقدم تسابيح للديان في أعماقه لا يمكن أن يشتهي لو مات خلال الإجهاض، أو عند ولادته مباشرة. إنما يرى في هاتين العبارتين أيوب البار وهو ينتحب سواء لارتكابه الخطية في القلب أو ممارستها عمليًا. يقول أنه يوجد أربع طرق لارتكاب الخطية قلبيًا، وأربع طرق مماثلة لارتكابها عمليًا، مشتهيًا لو أنها بادت في مراحلها قبل أن تبلغ نضوجها الكامل. هذه المراحل الأربع هي: أ. الحبل بها في الرحم: وهي المرحلة الأولى حيث تبدأ في القلب بتقديم الاقتراح، أما من جهة العمل فالممارسة تتم خفية. ب. خروجها من الرحم أو ولادتها: وهي المرحلة الثانية، حيث يتحول الاقتراح إلى لذة في القلب، أما من جهة العمل فتتحول من ممارسة خفية إلى ممارسة علنية أمام أعين الناس بلا حياء. ج. إعانة الركب لها: المرحلة الثالثة حيث تتحول من اللذة القلبية إلى الموافقة والقبول الداخلي. أما من جهة العمل فتتحول من ممارسة علنية إلى عادة يُستعبد لها الخاطي. د. الرضاعة من الثدي: المرحلة الأخيرة، حيث تتحول من القبول للخطية إلى الدفاع عما يرتكب الخاطي كمن لم يخطئ. وبالنسبة للعمل تتحول من عادة إلى نضوج كامل في ممارسة الخطية. المراحل الأربع الخطية في القلب الخطية بالعمل (1) الحبل بها في الرحماقتراحالخطية ارتكابها خفية (2) الخروج من الرحم أو ولادتها لذة قلبية ارتكابها علنًا بلا حياء (3) مساندة الركب لها موافقة قلبية داخلية تحولها إلى عادة (4) إعالة الثديين للطفل أو الرضاعة الدفاع عن الخطأ نموها ونضوجها يختم البابا غريغوريوس حديثه هذا قائلًا: [يليق بنا أيضًا أن نعرف أن الطرق (المراحل الثلاثة الأولى) يمكن إصلاحها بسهولة... أما (المرحلة) الرابعة فلا يمكن إصلاحها إلا بصعوبة. هكذا أقام مخلصنا الصبية في البيت، والشاب خارج الباب، أما لعازر فأقامه في القبر. فمن يرتكب الخطية سرًا يكون كميتٍ ملقى في البيت. أما الذي يرتكب الخطية علانية فيكون قد حُمل خارج الباب، يرتكب الخطية في غير خجل علانية. أما من يرتكب الخطية مرة ومرات تحت ضغط العادة فيكون قد سقط في كومة القبر. ومع هذا فإن هؤلاء جميعًا يردهم المخلص برحمته إلى الحياة، إذ غالبًا ما تشرق النعمة في هذه الحالة بنورها على الأموات ليس بالخطايا الخفية فحسب، بل وعلى من يمارسها علانية، ومن يسقط تحت ضغط العادة... لكن مخلصنا لا يقيم أصحاب الطريق الرابع إلى الحياة. حقًا إنه يصعب على الذي يستمر في عادته الشريرة، متمسكًا بألسنة المتملقين (مدافعًا عن الخطأ) أن يُشفى من موت النفس. عن هذا قيل: "دعْ الموتى يدفنون موتاهم" (لو 60:9). فالموتى يدفنون موتاهم.] هكذا يرى البابا غريغوريوس في المرحلة الرابعة من الخطية وهي الدفاع عن الخطأ والتستر عليه، هو بلوغها إلى النضوج وعدم إمكانية القيامة من موتها حتى يعترف الخاطي بخطيته ولا يبرر خطأه أو يعطي لنفسه عذرًا كما فعل كل من آدم وحواء. لأَنِّي قَدْ كُنْتُ الآنَ مُضْطَجِعًا سَاكِنًا. حِينَئِذٍ كُنْتُ نِمْتُ مُسْتَرِيحًا [13] يقدم لنا البابا غريغوريوس تبريرًا لمرارة نفس أيوب. إنه يتطلع إلى ما كان يمكن للإنسان أن يبلغ إليه لو لم تدخل الخطية إلى حياته. يقول: [وُضع الإنسان في الفردوس، وقد التصقت به قيود الحب ليتبع خالقه في طاعة، بهذا كان يمكن أن يُنقل يومًا ما إلى مدينة الملائكة السمائية حتى بدون موت الجسد. فقد خُلق خالدًا بطريقة يمكن بها أن يموت إن أخطأ، فيصير قابلًا للموت. أما لو لم يخطئ فكان يمكنه أن يبقى بدون موت، وبكامل حريته ينال الطوبى التي لعالمٍ ليس فيه إمكانية الخطأ ولا الموت. منذ وقت الفداء يُرسل المختارون خلال موت أجسادهم إلى ذات الموضع الذي كان يجب أن يبلغه الأبوان الأولان دون موت الجسد لو أنهما بقيا ثابتين فيما خُلقًا عليه. بهذا لبقي الإنسان "مضطجعًا مستريحًا"، يبلغ مدينته الأبدية في راحة. لكان قد وجد فيها موضع راحة وسكون من صخب الضعف البشري... هذا السكون الذي للسلام تمتع به الإنسان عندما خُلق وتقبل حرية إرادته ليواجه عدوه. لكنه إذ خضع له بإرادته، للحال وُجد الضعف البشري حالًا فيه. فمع أنه قد خُلق بواسطة خالقه في حالة سكون مملوء سلامًا، لكنه ما أن انحنى تحت عدوه بإرادته حتى سقط تحت صخب الحرب. صارت اقتراحات الجسد نفسه نوعًا من الصرخة ضد راحة الذهن، الأمر الذي لم يكن يعرفه الإنسان قبل العصيان، ذلك لأنه لم يكن يوجد وربط نفسه بخطاياه صار يخدمه في أمور بغير إرادته، وعانى من صخب الفكر، إذ يصارع الجسد ضد الروح.] * الفرح بخليقة الله أمر مرغوب فيه، أن يصير الشخص رجلًا (ناضجًا) يتقبل صورة الله فهذه سعادة. أما التسكع في الحياة الدنسة، والافتنان من أجل أناسٍ كثيرين، فهذا يبغضه الأبرار. الأب هيسيخيوس الأورشليمي مَعَ مُلُوكٍ وَمُشِيرِي الأَرْضِ، الَّذِينَ بَنُوا أَهْرَامًا لأَنْفُسِهِمْ [14] حسب أيوب الموت راحة مع ملوك الأرض ومشيريهم، هؤلاء الذين أرادوا تخليد ذكراهم ببناء الأهرامات والمدافن الضخمة الفاخرة، لكن أحدًا ما لم يعد قادرًا على التمييز بين ترابهم. فالأهرامات والذهب والفضة وكل ما خلفوه لم يعد يمثل شيئًا. يرى البابا غريغوريوس أن الملوك هنا هم الأرواح الملائكية التي كرست طاقتها لخدمة خالق كل الكائنات التي تخضع لهم. وهم أيضًا يدعون مشيرين لأنهم يقدمون مشورة للعالم الروحي حيث يضموننا إليهم كشركاء معهم في الملكوت. أَوْ مَعَ رُؤَسَاءَ لَهُمْ ذَهَبٌ الْمَالِئِينَ بُيُوتَهُمْ فِضَّةً [15] كان من عادة الملوك والعظماء أن يضعوا ذهبًا وفضة في مقابرهم كنوعٍ من التكريم حتى بعد الموت، وربما لكي لا تختلط جثثهم بجثث الفقراء. لكن الموت لا يميز بين عظيمٍ وحقيرٍ، غنيٍ وفقيرٍ، سيدٍ وعبدٍ. كما يقول الحكيم: " الغني والفقير يلتقيان" (أم 22: 2). يرى البابا غريغوريوس أن الرؤساء هم قادة الكنيسة المقدسة يملأون بيوتهم بكلمة الله، الذهب المنقى بالنار (مز 6:12). أَوْ كَسِقْطٍ مَطْمُورٍ، فَلَمْ أَكُنْ كَأَجِنَّةٍ لَمْ يَرُوا نُورًا [16]. في القبر بعد انحلال الجسم ليس من يقدر أن يميز بين تراب ملك أو عظيم أو سقط مطمور لم يخرج قط إلى الحياة في العالم. يرى أيوب أن الأجنة التي ماتت قبل أن ترى نور الحياة هي في راحة أسعد مما هو عليه، إذ يشتهي النوم ليستريح فلا يجده. اشتهي أيوب النوم ولو كجنينٍ لم ينظر العالم، ولم يدرك أن الراحة الحقيقية هو في المسيح يسوع الذي فيه وحده ننام - أي ندفن معه - لنقوم إلى الحياة الأبدية في مجدٍ فائق لا يُعبر عنه. يرى البابا غريغوريوس أن السقط المطمور الذي يستريح هم المختارون منذ بدء العالم وعاشوا قبل الخلاص ومع ذلك ماتوا عن العالم، هؤلاء الذين لم يكن لهم لوحا الشريعة، فماتوا كما في الرحم، وخشوا الله خلال الناموس الطبيعي. لقد آمنوا أن الشفيع قادم، فجاهدوا ما استطاعوا؛ أماتوا أنفسهم عن الملذات، وحفظوا المفاهيم التي لم تكن بعد قد سجلها الناموس. هذه الفترة ما قبل الناموس قدمت لنا آباءنا أمواتًا من أجل هذه الحياة، كانوا أشبه بأجنةٍ قد ماتت في الرحم. قدم لنا هذا البابا أمثلة السقط: أ. هابيل: الذي لم نقرأ عنه أنه قاوم أخاه حين قتله. ب. أخنوخ: الذي تزكى، فسار مع الله وانتقل. ج. نوح: الذي بحكمٍ إلهيٍ صار الوحيد (مع أسرته) حيًا. د. إبراهيم: سائح في العالم، لأنه خليل الله. ه. اسحق: سائح بعينيه الجسديتين الضعيفتين بسبب الشيخوخة، لم يرَ الأمور الحاضرة، وإنما استنار بروح النبوة، ليرى الأمور المقبلة ببصيرةٍ فائقةٍ فوق العادة. و. يعقوب: في تواضع هرب من سخط أخيه، وبلطفه غلبه. كان مثمرًا في نسله، وأكثر إثمارًا في غنى الروح، فربط نسله بقيود النبوة. هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغَبِ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون [17]. يضع الموت حدًا نهائيًا لظلم الأشرار الذين لا يكفوا عن مقاومة الحق واضطهاد أولاد الله، فالموت أنهى ما فعله هيرودس مضطهد الكنيسة (أي 12: 1-6، 23). والموت يهب راحة صادقة للذين احتملوا الاضطهاد بشكرٍ من أجل الله. "اكتب طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن. نعم يقول الروح، لكي يستريحوا من أتعابهم، وأعمالهم تتبعهم". (رؤ 14: 13). "من وجه الشر يُضم الصديق، يدخل السلام، يستريحون في مضاجعهم" (إش 57: 1-2). * يأتي عندئذ المديح للموت، فشكرًا له، إذ ينزع البعض عن الشر، ويتحرر آخرون من بؤسهم، هؤلاء الذين يجدون فيه ملجأ ضد شرورهم، وأولئك يجدون فيه عائقًا يمنع خبثهم. القديس يوحنا الذهبي الفم الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعًا. لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ [18]. كثيرًا ما يشتهي الأسرى الموت ليستريحوا من المذلة. وقد فضل شمشون أن يموت مع كل الذين كانوا يسخرون به عن أن يعيش يطحن "في بيت السجن" (قض 16: 21). * يبطل الموت كل شيءٍ. ليس فقط لا تعود توجد إمكانية لمساندة الشر، وإنما لا يعود حتى مجرد صوت الشر يصل إلى الأذنين. القديس يوحنا الذهبي الفم الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ، وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ [19]. بالموت يتساوي الكل المُسخر مع الذي تحت السخرة، الكبير مع الصغير. يرقد الكل معًا في القبر الذي لا يميز بين هذا وذلك. * لا يستطيع أحد أن يفلت من سلطانه، ليس عبد ولا حر. كل الأمور البشرية تبيد بالموت: الغنى كما الكرامة. عدم التساوي في هذه الحياة الحاضرة ضخم. عظيمة هي الحرية بعد رحلينا إلى هناك. القديس يوحنا الذهبي الفم * أضيف: "والعبد حُر من سيده"، إذ مكتوب: "كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية" (يو 34:8)... في هذه الحياة الحاضرة يهرب العبد بالفعل من سيده، لكنه ليس حرًا منه... أما هناك فالعبد حر من سيده. هناك لا يعود يوجد شك من جهة غفران الخطية، عندما لا يعود تذَّكر الخطية يدين النفس. تصير النفس في أمان، فلا يرتعب الضمير بسبب الشعور بالجريمة، وإنما يتهلل بالغفران وتمتعه بالحرية, البابا غريغوريوس (الكبير) * يقود الموت إليه عبيدًا وسادتهم, وهناك لا يكرم السادة أكثر من خدمهم(173). القديس أفراهاط |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أيوب | الموت نهاية الأتعاب |
أيوب | شهوة الموت |
أيوب وأنشودة الموت وعذوبته |
مزمور 31 - يا لعظم صلاح الله وعذوبته اللانهائية |
حسب أيوب الموت راحة |