24 - 06 - 2021, 04:44 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
شكوى إبليس
"وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو الله لِيَمْثُلُوا أَمَامَ الرَّبِّ،
وَجَاءَ الشَّيْطَانُ أَيْضًا فِي وَسَطِهِمْ" [6].
جاء في الترجوم الأورشليمي Targum Yerushalmi أن المجلسين اللذين تَمَّا في السماء أحدهما في روش هاشاناه Rosh ha- Shanah، والثاني في يوم كيبور Yom Kippur.
كان الملائكة -بنو الله- يجتمعون معًا أمام الله يقدمون له التسبيح اللائق من أجل محبته للسمائيين والأرضيين، ويقدمون أيضًا صلوات المؤمنين، ويترقبون أية إرسالية يتممونها، إذ هم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14).
تسلل بينهم الشيطان المتكبر والمضل لكي يشتكي على البشرية، خاصة المؤمنين، ففي حسده لا يطيق أن يرى إنسانًا ترابيًا ينمو في الروح، وينطلق كما بجناحي حمامة إلى السماء.
كل الأمور مكشوفة أمام الله، فهو ليس في حاجة إلى ملائكة تحمل إليه صلوات مؤمنيه، ولا إلى الشيطان ليكشف عن فساد مؤمنٍ ما. لكن الله في محبته للسمائيين يهبهم عمل المحبة سواء بتقديم الصلوات أو إتمام إرساليته. كما في عدله يترك للشيطان الحرية ليشتكي على من يريد. إنه يقدس حرية الإرادة في المخلوقات العاقلة، سواء على مستوى الطغمات السمائية أو القوات الروحية في الشر، أو البشر.
لا نعجب من هذا، ففي رؤيا زكريا النبي إذ شاهد كلمة الله نفسه كرئيس كهنة يحمل خطايانا كثوبٍ قذرٍ، كان الشيطان قائمًا ليقاومه (زك 3: 1-2).
يسألنا القديس يوحنا الذهبي الفم ألا ندهش من أن يقف المتمرد وسط الملائكة، فإن ما يقدمه السفر هو بصورة بشرية لكي نتفهم الموقف بفكرنا البشري.
* جاءت الملائكة -حسب النص- وجاء معهم الشيطان، إذ كان يطوف الأرض، ويسير فيما هو تحت السماء. ماذا نفهم من هذا؟ إن الأرض مملوءة بالشياطين والملائكة، والكل تحت سلطة قوة الله، وأن الملائكة يقفون أمام الله حيث يتقبلون منه الأوامر. ولا يقدر الشيطان أن يفعل شيئًا يسره ما لم ينل سماحًا من فوق... بالقول: "جاء الشيطان أيضًا في وسطهم" [6] لا يعني سوى أنه هو أيضًا لا يقدر أن يفعل شيئًا بدون سماح الله.
* ماذا يعني هذا التعبير؟ إنه معهم في العالم، فكما أن البشر المخادعين والصالحين ممتزجون معًا هكذا الملائكة والشياطين.
لعلَّ أقصى ما يشتهيه الإنسان أن يتمتَّع بالمجد السماوي بالوقوف وسط الطغمات السماويَّة وينعم برؤية الله، فكيف يقف الشيطان هكذا ليرى الله ويدخل معه في حوار؟ بلاشك أن الوقوف هنا لا يحمل المعنى الحرفي، إنَّما سُمح له الله بالحوار من أجل العدالة الإلهيَّة وتأكيد حريَّة الخليقة العاقلة حتى بالنسبة للشيطان وجنوده الأشرار. وقف الشيطان كما وسط الملائكة يُسمح له بالحديث مع الله، لكنَّه لم يتمتَّع برؤية مجد الله، ولا أُشرق عليه بهاء المجد الإلهي، ولا اختبر عذوبة صوت الله كمصدر لذَّة وفرح وسلام حقيقي!
هكذا في يوم الرب العظيم يرى المؤمنون الحقيقيُّون في عينيّ المسيح يسوع حمامة وديعة، وفي أحضانه أمجادًا لا يُعبَّر عنها، أمَّا الأشرار فيرون عينيه لهيب نارٍ، فلا يحتملون رؤيته.
وكما قيل هنا عن الشيطان أنه وقف ممتثلًا أمام الله دون أن يتمتع ببهاء مجده، قيل في موضع آخر عن الملائكة أنهم أرواح خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 14:1)، لكن إرسالهم للخدمة لا يحرمهم من التمتع بالحضرة الإلهية وإشراق البهاء الإلهي عليهم.
* ربما يتساءل البعض: كيف يمكن للشيطان وقد سقط عن رتبته بسبب كبريائه أن يقف أمام الرب بين الملائكة؟
هل يُمكن له معاينة الرب وهو غير طاهرٍ؟
لقد سقط إبليس وجنوده ولم يعد من حقه رؤية الله، لكن بحسب طبيعته كروح يمكن المثول أمام الله دون معاينته. هكذا كان ماثلًا يشتكي علينا دون رؤية الله، لأنه غير طاهرٍ.
لاحظ أنه قيل أنه جاء أمام الرب، ولم يُقل أنه رأى الرب. فقد جاء لكي يُرى لا لكي يرى. كان أمام عيني الرب، ولم يكن الرب أمام عينيه، وذلك كما يقف أعمى أمام الشمس، فهو نفسه غارق في أشعة النور، لكنه لا يرى شيئًا من النور البهي... فإن قوة الله، بنظره يخترق كل الأشياء، فيرى الروح الدنس الذي لا يراه. فإنه حتى الأشياء نفسها التي تهرب من وجه الله لا يمكنها أن تكون مختفية، فالكل عريان أمام نظر العلي. فالشيطان الغائب جاء إلى ذاك الذي هو حاضر.
* من هم الذين يُدعون بني الله إلا الملائكة المختارون؟ وكما نعرف عنهم أنهم يتطلعون إلى عيني عظمته. يليق بنا أن نتساءل: من أين جاءوا ليمثلوا أمام الله؟ فقد قيل عنهم بصوت الحق: "إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات" (مت 10:18). ويقول عنهم النبي: "ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه" (دا 10:7). فإن كانوا دائمًا ينظرون ويقفون بجواره، يلزمنا بحرص وتدقيق أن نراعي من أين جاءوا، فإنهم لا يفارقونه قط، لكن إذ يقول عنهم بولس: "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص؟" (عب 14:1)، من هذا نتعلم أنهم مُرسلون ونكتشف من أين جاءوا...
إنهم لا يذهبون بطريقة يُحرمون فيها من رؤية الله، فتُنزع عنهم أفراح التأمل الداخلي، فلو أن بإرسالهم يفقدون رؤية خالقهم لا يقدرون أن يُقيموا الساقطين، ولا أن يعلنوا للذين في الجهالة عن الحق، وما كانوا يستطيعون قط أن يقدموا للعميان ما حُرموا به بتركهم مصدر النور.
تختلف طبيعة الملائكة عن حال طبيعتنا الحاضرة، حيث نحن مقيدون بالمكان ومحدودون بعمى الجهالة، أما أرواح الملائكة فمع كونها محدودة بمكانٍ، لكن معرفتهم ترتفع عنا جدًا، دون وجه للمقارنة، لهم معرفة ممتدة خارجيًا وداخليًا، إذ يتأملون ذات مصدر المعرفة نفسه...
وكما أن أرواحهم ذاتها إن قورنت بأجسادنا فهم أرواح، هكذا إن قورنوا بالروح السامي غير المدرك يُحسبون جسدًا. لذلك فهم مُرسلون منه، وواقفون أمامه أيضًا، إذ في هذا هم مقيدون أن يُرسلوا، وفي نفس الوقت حاضرون بالكامل لن يفارقوه.
هكذا في نفس الوقت يرون وجه الآب دائمًا، ومع هذا يأتون إلينا، حيث يُرسلون خلال سمة التأمل الداخلي. يمكن إذن أن يُقال: "جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب"، إذ يرجعون إلى هناك بعودة الروح، إلى حيث لم يفارقوه قط بعدم انسحاب العقل عنه.
البابا غريغوريوس (الكبير) "فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟
فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ: مِنْ الْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ،
وَمِنَ التَّمَشِّي فِيهَا " [7].
بقوله: "من الجولان في الأرض" يشير أنه لم يتعدَ حدوده، لأن "التنين العظيم طُرح إلى الأرض" (رؤ 12: 6). يرى كثير من آباء الكنيسة الأولين أن الأرض في الكتاب المقدس تشير إلى الإنسان الترابي الجسداني الذي لا ينشغل إلا بالأرضيات، هكذا يجول عدو الخير كما في مِلْكِهِ. بينما تشير السماء إلى الإنسان الروحي الذي ينشغل بالأبديات. فالشيطان لا يقدر أن يتسلل إلى قلب الإنسان الروحي، لكنه يجول بلا ضابط في قلب الإنسان الجسداني.
عدو الخير لا يعرف الخمول، فإنه لا يهدأ ليلًا ونهارًا عن الجولان في الأرض ليغوي أولاد الله على ترك مملكة النور والانشغال بالخطايا.
* "من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها" [7]. ها أنتم ترون أن السماء متعذرة بالنسبة للشيطان الشرير. فإن قلتم: "حسنًا! السماء غير متاحة له، لكن العالم يرحب به. نعم فإن هذا لصالحكم، فإنه إن كنتم حتى وأنتم مع عدو يقظ هكذا لا تهتمون بإصلاح أنفسكم، فيا لكم من أناس خاملين...؟
أنصت إلى بولس وهو يقول: "اللذان أسلمتهما للشيطان، لكي يؤدبا حتى لا يجدفا" (1 تي 20:1).
أتريدون أن تسمعوا نصًا آخر؟ ألا ترون المُعذِبينَ الذين يرافقون المسئولين؟ هكذا يستخدم بولس الشياطين. أما النتائج الصالحة فهي ليست من عمل الشيطان، بل من حب الله للإنسان حيث يستخدم الشيطان لهذا الغرض.
* ماذا إذن أن يُقال للشيطان: "من أين جئت؟" إلا لكي يدين طرقه كما لو كانت غير معروفة. فنور الحق لا يعرف شيئًا عن الظلمة، هذه التي يوبخها، وعن طرق الشيطان التي يدينها كديانٍ. يليق أن يُسال عنها كما لو كانت مجهولة. ولهذا قيل لآدم وهو في خطيته بصوت خالقه: "آدم، أين أنت؟" (تك 9:3)، فإن القوة الإلهية لم تجهل الموضع الخفي الذي هرب إليه عبده عند عصيانه، لكنه رأى أن الساقط في خطيته مختفيًا عن عيني الحق تحت الخطية...
إنه يدين الشيطان، لذا فُحص طريقه، أما الملائكة المختارون فلا يحتاجون أن يُسألوا من أين جاءوا، إذ طرقهم معروفة لله. إنهم كمن يمثلون حركته، إذ هم خاضعون لإرادته وحدها، ولا يمكن أن يكونوا غير معروفين له.
* يجول إبليس في الأرض، إذ استخف بالسكنى في سلامٍ في أعالي السماء. وإذ هو كمن يُبلغ بأنه لم يَطِرْ بل مشى، يُظهر ثقل الخطية التي تجعله دائمًا في الأسفل...
يتحدث الله مع الملائكة حينما تُعلن لهم إرادته الداخلية كموضوع إدراكهم، وأما الملائكة فيتحدثون مع الرب متى كانوا بهذا يتأملون فيما هو فوقهم، ويقفون أمامه في دهشة. وهكذا يتحدث الله مع نفوس قديسيه بطريقة ما، وهم يتحدثون معه بطريقة أخرى... نراهم في الرؤيا: "صرخوا بصوتٍ عظيمٍ قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض...؟وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا" (رؤ 9:6-10).
يتحدث الله مع الشيطان بأربع طرق:فهو يشجب طرقه الظالمة، ويوبخه ببرّ قديسيه، ويسمح له أن يجرب براءتهم، وأحيانًا يوقفه عن أن يجربهم...
إنه يوبخه ببرّ مختاريه، إذ يقول: "هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض (كلها)". لقد سمح له أن يضع برّه موضع اختباره عندما قال له: "هوذا كل ما له في يدك" [12]. مرة أخرى منعه من أن يجربه عندما قال: "وإنما إليه لا تمد يدك" [12].
البابا غريغوريوس (الكبير)
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ:
هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟
لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ.
رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيم،ٌ
يَتَّقِي الله وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" [8].
في حديث الله مع الشيطان يُظهر مدى اعتزازه بأيوب عبده، "لأنه ليس مثله في الأرض" في الاستقامة والتقوى. خلال علاقة الحب المتبادلة بين الله والمؤمن الحقيقي، يقول الأخير: "من مثلك بين الآلهة يا رب؟ من مثلك معتزًا في القداسة، مخوفًا بالتسابيح، صانعًا عجائب؟" (خر 15: 11)"من هو إله مثلك غافر الإثم، وصافح عن الذنب لبقية ميراثه؟" (مي 7: 18). وفي الوقت نفسه يعتز الله بمؤمنيه في إيمانهم، كما مع أيوب (أي 1: 8) وقائد المئة والمرأة الكنعانية، والعجيب أن جميعهم أمميون.
* كان الصبر بالفعل في أيوب، الأمر الذي كان يعلمه الله، وقد شهد له، لكنه صار معروفًا للبشر خلال اختبار التجربة. فما كان مخفيًا في الداخل وغير ظاهرٍ كثمرةٍ، ظهر بواسطة ما حدث وصار في الخارج(47).
* اعتزم الشيطان على الدخول في صراعٍ، ليس مع أيوب بل مع الله، أما الطوباوي أيوب فكان بينهما موضوع النزاع...
لولا أن الله يعلم أن أيوب يستمر في استقامته بالتأكيد لما سلمه للشيطان. إنه لم يسلمه له لكي يهلكه بالتجربة... وقد التهبت نيران الحسد في ذهن المجرب من أجل مديح الله له.
إذ يفشل العدو القديم في اكتشاف أي شر يمكن أن يتهمنا به، يتجه نحو النقاط الصالحة ليحولها للشر، وإذ ينهزم بالأعمال يتطلع إلى كلماتنا ليجد مجالًا للاتهام.
إنه يصارع لكي يُظلم نية القلب حتى لا تصدر أعمالنا الصالحة عن ذهنٍ صالحٍ، وبهذا لا تُعتبر صالحة في عيني الديان. فإنه حتى إن رأى ثمرًا على شجرة خضراء في الحر يبحث عن دودة تفسد الجذور.
* لاحظوا غباوة الشيطان ومكره. يشهد الله أن أيوب بلا لوم، فهل تود (أيها الشيطان) أن تنتزع شهادة الله...؟
إذ يقول الله: "عبدي أيوب"، ففي هذا الكفاية في تحديد فضيلته...
لقد هاج (الشيطان) في الحال إذ سمع الله يدعو أيوب عبده، فبالنسبة له حُسب هذا توبيخًا له فأثاره للهجوم.
لقد كنت (أيها الشيطان) قبلًا عبدًا... هذا ما عناه بولس: "ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة´(1 كو 3:6).
لقد بلغ أيوب إلى هذه الدرجة حتى أضاف الله: "رجل كامل، ومستقيم، وحق، يتقي الله". "رجل مستقيم"، أما أنت على العكس، وإن كنت لست إنسانًا، لكنك لم تثابر على الفضيلة.
* "هل تفكرت مليًا في عبدي أيوب؟" [8]. في نفس الوقت يعني بدقة أن الخائن (إبليس) يحمل نية خبيثة نحو أولئك الذين يحسبهم خطاة من أجل رذائلهم وأبرارًا خلال خداعه.
"فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ:
هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ الله؟" [9].
لم يحتمل عدو الخير أن يسمع كلمة مديح تُقال في شخص آخر غيره، حتى وإن صدرت من الله فاحص القلوب والعَاِلمْ بالأفكار وكل الأسرار. هكذا لم يحتمل شاول الملك النساء يمدحن الصبي داود الذي أنقذه هو وكل جيشه وشعبه من جليات الجبار وجيشه (1 صم 18: 6-9). ولم يحتمل رؤساء الكهنة والكتبة الأطفال يسبحون السيد المسيح في الهيكل (مت 21: 15 إلخ).
* يُدعى الشيطان أو المفتري بسبب افتراءاته، فإنه يفتري على الإنسان أمام الله، قائلًا: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟"... ويفتري على الله أمام الإنسان، قائلًا: "نار الله سقطت من السماء، فأحرقت الغنم" (أي 16:1). فكان متلهفًا على إثارته بأن الكارثة حلت من السماء من فوق، فيجعل العبد في نزاعٍ مع السيد، والسيد مع عبده. في الواقع لم يجعلهما في نزاع، لكنه حاول ذلك وكان عاجزًا(48).
* "يقضي لمساكين الشعب، يخلص بني البائسين، ويسحق المفتري" (مز 72: 4). بحق يُدعى الشيطان "المفتري"، فقد افترى على كل من الله حيث ادعى أن الله منع الأخذ من شجرة (معرفة الخير والشر) بسبب الحسد، وافترى على أيوب بأكاذيب، قائلًا "هل حقًا مجانًا يتقى أيوب الله...؟ أبسط يدك الآن، ومس كل ما له، فإنه في وجهك يجدف" (أي 1: 9، 11). في المزمور الثامن أعطاه اسمي "عدو ومنتقم"، بينما هنا (مز 72: 4) فيدعوه مفتريًا(49).
* بالتأكيد الشيطان هو مُوجه الاتهام ضد القديسين. إنه لا يقدر في حضرة ديان كهذا أن ينسب اتهامًا خاطئًا، فهو يعرف مع من يتكلم. لهذا فإنه إذ يعلم عجزه عن تقديم اتهامٍ باطل ضدنا يلجأ إلى القول بشيءٍ صادق. لهذا فإن خصمنا الذي يحسدنا على وجودنا في ملكوت السماوات، ولا يريدنا أن نكون هناك حيث طُرد هو منه، يقول: "هل مجانًا يعبد أيوب الله؟" (أي 1: 9)...
يليق بنا أن نحرص على حبنا لله ليس من أجل مكافأة. فإنه أيّ نوع من المكافأة هذه التي يعطيك الله إياها؟
مهما أعطاك فهي أقل من ذاته. لا تعبد الله لكي ما تقبل منه شيئًا. اعبده دون ترجي في مقابل، وعندئذ تتقبله هو، فإن الله يحفظ نفسه لك لتتمتع به.
إن كنت تحب ما خلقه، فكم يكون خالق العالم؟ انزع من قلبك محبة المخلوقات، لكي ما تلتصق بالخالق، وعندئذ تقول ما جاء في المزمور: "خير لي أن ألتصق بإلهي" (مز 72: 28)(50).
* يقول الشيطان: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟" لماذا تُعجب من أيوب؟ لماذا تدلي بتصريحات غير عادية بخصوص رجل مستقيم؟ فإنك أنت نفسك تصمم على برَّه وهذا إنما بسبب عطاياك التي نالها بسخاءٍ عظيمٍ مقابل فضيلته. صار له فيض في كل شيء، إنه مُتخم في كل شيء، ليس لديه قلق، ليس ما يجعله يخطئ. بيته مبني حسنًا، مملوء بالخيرات. كل ممتلكاته مسيَّجة بسياج البركات. أبناؤه يحيطون به مثل إكليل يتوجه. لماذا لا يكون أيوب مستقيمًا؟ لماذا لا يكون تقيًا؟ أي الوصايا يلتزم بأن يهملها؟ فمن لم يذق الفقر، لماذا يسرق؟
* في وقاحة دخل مع الله في جدال (أي 1: 9). هذا ليس اتجاه الشيطان وحده، بل اتجاه الناس الأشرار. ألم يفعل ذلك من ورد عنه في الإنجيل: "عرفت أنك إنسان قاسٍ، تحصد حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر" (مت 24:25)...
كان يسعى في تشويه دافع أيوب... يود الله دومًا أن يصدر حُكمَه من كلمات أعدائه، حتى لا يترك لهم مجالًا لأي عذرٍ، وذلك كما قيل في العبارة: "من فمك أدينك أيها العبد الشرير" (لو 22:19)... بهذا يُمسك الخداع دومًا في شباكه.
"أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ،
وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟
بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْه،
فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ!" [10].
استنتج الربيَّ يوسى حانينا Yose b. Hanina من أي 1: 10 أن ماعز أيوب كان قادرًا على قتل الذئاب. واستنتج الربيَّ يوحنان R. Yohanan من أي 1: 14 أن الله وهب أيوب أن يتذوق الحياة الفردوسية، فحسده الشيطان، وبدأ يحاربه مفتريًا عليه بخصوص برِّه.
يلقي الشيطان باللوم على الله: "أليس أنك سيجت حوله وحول بيته، وحول كل ما له من كل ناحية؟" حقًا لقد سيَّج الله حوله لحمايته وحماية بيته، ووهبه النجاح والغنى، وبارك أعماله، لكنه لم يفعل ذلك في محاباة، إذ لم يتسم أيوب بالبلادة والرخاوة.
يكشف حديث الشيطان عن بذله كل الجهد ليجد ثغرة يدخل منها إلى قلب أيوب أو فكره ليجتذبه إلى مملكته، فلم يجد.
* "لأنك قلت: أنت يا رب ملجأي، جعلت العلي مسكنك" (مز 91: 9). لكي تتمتع بهذه العناية الإلهية يقول: لتختبر الرجاء في الرب، ولتجعله ملجأ لك... "لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك" (مز 91: 10). إنك ستثبت أمام رماح الشيطان، فلن تؤذيك في شيءٍ. بهذا حوطت النعمة الإلهية حول بيت أيوب، هذه التي شهد لها العدو صارخًا بصوت عالٍ: "أليس أنك سيَّجت حوله وحول بيته؟" وعندما سمح له (أن يجربه) أظهر من الجانب الآخر شره، وكلل الديان العادل المصارع المنتصر(51).
* "أليس أنك سيَّجت حوله؟" ألا تلاحظون أنه حتى الشيطان يدرك تمامًا أن كل أمان أيوب يأتي من قبل الله. يقول: "باركت أعمال يديه، انتشرت مواشيه في الأرض". ألا ترون أن ثروته هي هبة من الله؟ ألا ترون أنها ليست ثمرة ظلم (أو اغتصاب)...؟
"ولكن أبسط يدك الآن، ومس كل ما له، فإنه في وجهك يباركك (أي يجدف عليك)" [11]. لقد أراد واشتهى أن ينال هذا السلطان منه، لكنه لم يجسر أن ينطق بهذا.
* ما هو عمل الله الخاص إن لم يكن هكذا، أن يعمل صلاحًا لكل البشرية، بالتأديبات كما بالمسرات تمامًا؟ ليتنا إذن نشكر ليس فقط حين نكون في رخاءٍ، فإن هذا ليس بالأمر العظيم. هذا ما يعرفه الشيطان أيضًا حسنًا، لذلك قال: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول كل ما له من كل ناحية؟" (أي 1: 10)(52)
* يعرف داود الطوباوي بأن هذا الترك المؤقت من جانب الله تجاهنا أحيانًا يكون لصالحنا، وفي صلاته طلب أن لا يكون ذلك على الدوام (لأنه يعلم أن ترك الله للإنسان فيه ضرر حيث تعجز الطبيعة البشرية عن السلوك نحو الكمال)، لذلك توسّل بأن يكون ذلك في حدود معينة قائلًا: "لا تتركني إلى الغاية" (مز 8:119). بمعنى آخر يقول: إنني أعلم أنك تترك قديسيك لأجل فائدتهم وذلك لامتحانهم... لذلك لست أسألك ألا تتركني، لأنه ليس من المفيد لي ألا أشعر بضعفي (لذلك قال "خيرٌ لي أني تذللت" مز 71:119)، ولا من النافع لي ألا تتاح لي فرصة للحرب. وهذه الفرصة لن تتاح لي بالتأكيد مادمت أمتلئ بحماية الله الدائمة. فالشيطان لا يتجاسر ويحاربني مادمت مستندًا على حمايتك، فيتقدم معترضًا ومشتكيًا ضدي وضدك: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أَليس أنك سيَّجت حوله وحول بيته وحول كل ما لهُ من كل ناحية؟" (أي 1: 9-10). ألتمس منك أن تتركني، لكن "ليس إلى الغاية" (اللفظ اليوناني "ليس كثيرًا") وذلك لأنه مفيد لي أن تتركني قليلًا، حتى يُمتحن ثبات حبّي(53).
* كلماتك تضربني بشدة في صدري، وتسيج حولي من كل جانب(54).
"وَلَكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ،
وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ،
فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ" [11].
في حديث لثيؤدورت أسقف قورشعن العناية الإلهية أثار اعتراض البعض: لماذا يحيا غالبية الأغنياء في حياة تتسم بالظلم؟ لماذا لا يطلبون العدل؟ ولعله استقى مثل هذا الاعتراض من فيلون السكندري ومن بعض الرواقيين. يجيب ثيؤدورت [مرة أخري إنكم تنسون أن للإنسان إرادة حرة. إنكم بهذا تحرمونه من المجد الذي أُعطي له من صانعه. هذا بجانب أن صانعي الشر يجدون أساسًا قويًا للدفاع عن أنفسهم لو أن الديان وزع الثروة على الأبرار وحدهم في الحياة الحاضرة. فيقولون ما قاله سيدهم عن أيوب: "سيَّجت حولهم وحول بيوتهم. ضاعفت محاصيلهم وكرومهم. لكن أبسط يدك ومسْ كل ما لهم، فإنهم يباركون (يجدفون عليك) في وجهك" هذا ما يقوله الخطاة القساة لو أن ممارسي الفضيلة نالوا وحدهم عطية الغنى(55).]
يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن الحقيقي مثل أيوب هو بوق ممتد، وأن التجارب أشبه بالطرق بمطرقة، متى ضربت البوق أصدر أصوات تسبيح مفرحة. هكذا المطرقة التي تحطم غير المؤمن تكشف عن سلام وتهليل المؤمن فتزكيه أمام الله(56).
* لو كان في استطاعة (الشيطان) أما كان ينتقم لنفسه؟ لكن لا يُسمح له بذلك. فعندما أراد أن يجرب أيوب سأل أن ينال سلطانًا ليفعل ذلك، ولم يكن قادرًا أن يفعل شيئًا لم ينل به سلطانًا. فلماذا لا تعبدون الله بدون خوف، ذاك الذي بدونه لن يؤذيكم أحد، وبسماح منه تؤدبون لكن لا تُهزمون؟(57)
* استطاع (الشيطان) أن يحسد الرجل القديس (أيوب)، لكن هل استطاع أن يؤذيه؟
أمكنه أن يتهمه، لكن هل استطاع أن يدينه؟
هل استطاع أن ينتزع منه شيئًا أو يؤذيه، ولو بقدر ظفر إصبع أو شعرة من رأسه، دون أن يقول لله: "ابسط يدك"؟
أعطني سلطانًا. لقد أُعطي له.
واحد جرَّب، والآخر جُرب. لكن الذي جُرب غلب، والذي قام بالتجربة انهزم.
فالله الذي سمح للشيطان أن يسحب كل ما له لم يتخلَ عنه داخليًا بكونه خادمه. جعل من نفس خادمه سيفًا به انهزم الشيطان.
وما هي المُحَصِّلَة؟ أظن أنها لنفع البشرية عامة. الإنسان التي انهزم في الفردوس صار غَالِبًا وهو على المزبلة. في موضع هزمه إبليس خلال امرأة، وفي موضع آخر غلب إبليس والمرأة معًا(58).
* يهيئ الشيطان التجربة، فإن رأى شخصًا ضعيفًا يقوم بالهجوم عليه، أما إذ رآه قويًا يتوقف(59).
*هذا أيضًا ما نقرأ عنه، أن البرّ الإلهي قد أعان أيوب الأمين بحق في مصارعته، عندما ناهضه الشيطان في معركة فريدة. لكن لو تقدم أيوب ضد عدوه، ليس بقوته، إنما بحماية نعمة الله مسنودًا بالعون الإلهي من غير ممارسة أي احتمال من جانبه، فإنه في خضوعه لهذه التجارب المتعددة... يكون للشيطان أن ينطق بعدلٍ، مفتريًا بما سبق أن قاله قبلًا: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟! أَليس أنك سيَّجت حولهُ.. حول كل ما لهُ من كل ناحية؟! ولكن ابسط يدك الآن"، أي اسمح لي أن أحاربه "فإنهُ في وجهك يجدّف" (أي 9:1-11).
لكن لم يستطع العدو المفتري أن يحتج بهذا بعد المعركة، لأنه انهزم بقوة أيوب وليس بقوة الله(60)، لا بمعنى أن نعمة الله فارقت أيوب، لأنها هي التي أعطت للمجرب سلطانًا أن يجرب في الحدود التي كانت ترى فيها أن أيوب يقدر أن يقاومها، وفي نفس الوقت لم تحمه النعمة من هجمات العدو بطريقة تنزع فيها فضيلته وجهاده، إنما تعينه. بمعنى أنها لا تسمح لذلك العدو الذي هو في غاية القسوة أن ينزع عنه عقله أو يغرقه أثناء ضعفه ببث أفكار فوق طاقته أو النزول معه في نزاع غير متساوٍ معه(61).
* غالبا ما تسمح العناية الإلهية أن يواجه المؤمن مضيقات لكن ما يظهر للآخرين الفضيلة المخفية فيه, هكذا كان الحال بالنسبة لأيوب(62).
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ:
هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ،
وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ.
ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ " [12].
لقد سمح الله للشيطان أن يجرب أيوب، كما سمح أن يغربل بطرس الرسول، لكن حرص ألا يفنى إيمانه (لو 22: 32)، فإن التجارب تؤول للمدح والكرامة والمجد (1 بط 1: 7).
التصريح الذي سمح به الرب للشيطان يعطي المؤمن طمأنينة وسلامًا، فعدو الخير لا يقدر أن يمس مؤمنًا دون إذن إلهه، حتى أملاكه لا يقدر أن يقترب إليها بدون سماح إلهه. أما الله فهو الأب القدير المحب الحكيم، يعطي السماح بالقدر الذي نحتمله، وبما يؤول إلى مجدنا إن كنا أمناء.
قيل عن عدو الخير: "خرج الشيطان من أمام وجه الرب" كما قيل عن قايين (تك 4: 16)، إذ لا يحتمل الشر الوجود في الحضرة الإلهية. أما بنو الله الماثلون أمام الله فلم يُقل عنهم أنهم خرجوا من وجه الرب. هكذا يبقى المؤمنون في حضرة الرب حتى في لحظات نومهم!
لقد سمح الله للشيطان بأن ينال سلطانًا لتجربة أيوب البار حسب الحدود التي وضعها له. هنا يميز البابا غريغوريوس (الكبير) بين إرادة الشيطان وسلطانه. فمن جهة إرادته فهي دومًا شريرة، أما سلطانه الذي يُسمح له به من قبل الله فلن يكون فيه ظلم، لأنه بسماحٍ إلهيٍ لأجل تزكيتنا وبنياننا. لهذا لا نعجب مما ورد في (1 صم 10:18) "الروح الرديء من قبل الله اقتحم شاول، وجن في وسط البيت". فهو روح شرير، أما القول: "من قبل الله"، فلأنه ما كان يمكنه أن يقتحم شاول بدون نوال سلطانٍ من الله العادل. يقول القديس بولس: "لم تصبكم تجربة إلا بشرية، ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 13:10). لذا يقول داود المرتل: "جربني يا رب، وامتحني" (مز 2:26).
يرى القديس أغسطينوس أن الله يسمح للشيطان أن يُسقط عليهم الضيقات، إما لأجل تأديبهم كما سلم شعبه للسبي بواسطة الغرباء؛ وإما للامتحان كي يتزكوا كما سمح لأيوب أن يُجرب، وإما ليبعث بهم إلى نوال الإكليل كما سمح لشهداء أن يُضطهدوا(63).
*بالحقيقة عندما سأل الشيطان أن يُعطى له سلطان ضد أيوب، كان هجومه عليه سببًا في نوال أيوب مجدًا مضاعفًا بعد نصرته. نواله ضعف ما فقده في الحاضر أظهر بالحقيقة أنه سينال بلا شك بنفس الطريقة في المواضع السماوية. يقول الرسول إنه: "إن كان أحد يجاهد لا يُكلل إن لم يجاهد قانونيًا" (2 تي 2: 5).
بالحقيقة كيف يوجد جهاد إن لم يوجد من يقاوم؟
يا لعظمة جمال النور وبهائه الذي لا يمكن تبينه إن لم تعترضه ظلمة الليل.
لماذا يُمدح البعض لأجل الطهارة، إلا لأن آخرين يدانون على وقاحتهم؟
لماذا يتمجد الأقوياء إلا لأنه يوجد جبناء؟
عندما تستخدم ما هو مُر، عندئذ يصير لك الحُلو مستحقًا للمديح بالأكثر(64).
* نقرأ في سفر أيوب كيف أن الشيطان نفسه الذي يظهر كمن له كل السلطة إلى حين لا يقدر أن يفعل شيئًا بدون سماحٍ. لقد نال سلطانًا على الأشياء الدنيا، وفقد سلطانه على كل ما هو أعظم وأسمى. سلطانه هذا ليس كمن يصدر عقوبة، بل العقوبة حالة به هو نفسه(65).
* لقد سمح الله للمجرب، لا لكي يعرف ما هو بالفعل يعرفه (عن أيوب)، وإنما لكي نعرف نحن ونقتدي به. لقد سلم للمجرب، فسلب كل شيء. وبقي الرجل مسلوبًا من ممتلكاته ومن أسرته ومن أولاده، لكنه كان ممتلئًا من الله(66).
* سُمح للمجرب أن يجرب إنسانًا قديسًا، أيوب. في لحظة واحدة نزع كل الأشياء، أزال كل ما كان يملكه، نزع الميراث، وقتل الوارثين. لم يحدث هذا شيئًا فشيئًا، بل جملة معًا، بضربة واحدة... فأعلن عن الكلٍ بإعلان مفاجئ. حين أُزيل كل شيء بقي أيوب وحده، لكن بقيت فيه نذور التسبيح التي يرددها لله(67).
* استجاب الله (لشعبه) طلبتهم، أعطاهم ملكًا حسب قلبهم - كما هو مكتوب - وليس حسب قلبه هو. لقد وهب أيضًا ما سأله إياه الشيطان أن يجرب خادمه لكي يتزكى(68).
* ألا ترون الحدود التي وضعت في الاختبار؟ أما تلاحظون أن الشيطان ما كان يمكنه أن يلمس حتى القطيع لو لم ينل سلطانًا؟
* يُسمح للشيطان المجرب أن يثير حربًا على القديسين بكل طرق التجربة، حتى يتزكى حبهم لله، ولكي يكون ذلك شاهدًا. وذلك عندما يُنزع عنهم أو يحرمون أو يصيرون في عوز ومعدمين من الأمور الحسية، بينما يبقون محبين لله، ثابتين في محبته، يحبون بالحق. وبينما يحاول (الشيطان) إغراءهم يبقون غير منهزمين، ولا يغيرون محبتهم لله...
فالعدو يرغب بقوة أن يجرب كل إنسانٍ، إن كان ذلك ممكنًا له، ويسأل الله من أجل الكل لكي يجربهم كما سأل من أجل الرجل البار أيوب... وإذ نال في وقت قصير سماحًا اقترب الشيطان فورًا حسب قوة من سيجربه. هكذا يصارع الشرير معهم حسب شهوته. بهذه الوسائل، أولئك الذين هم مستقيمون وثابتون في حب الله يتزكون عندما يستخفون بكل شيء ويحسبونه كلا شيء بجوار حبهم لله(69).
* يُعطى السلطان ضدنا في شكلين، إما للعقاب عندما نخطئ، أو للمجد عندما نتزكى، كما نرى في حالة أيوب(70).
* "هوذا كل ما له في يدك، وإنما إليه لا تمد يدك" [12]، يمكن أن يكون لها معنى آخر. لقد عرف الرب حقًا أن جنديه كان شجاعًا، وأن النصرة أكيدة تحت كل الظروف لهذا المصارع الصامد. وأن العدو سيعود إلى الرب مهزومًا من صراع واحدٍ. عندئذ يسمح له بمعركة أخرى لكي يُهزم للمرة الأخرى، ويصير هذا الذي يتبعه بأمانة منتصرًا بالأكثر بطريقة لا تُقارن على العدو المنهزم الذي استعاد قواه للحروب الجديدة.
البابا غريغوريوس (الكبير) *ما كُتب عن أيوب ليس بدون معنى، إذ يتضح من الكتاب أن الشيطان طلبه وسعي إليه. فإن الشيطان لا يستطيع أن يعمل شيئًا من ذاته بدون إذن من الله.
ماذا يقول الشيطان للرب؟ "سلمه ليدي، فإنه في وجهك سيجدف عليك" (أي 1: 12) ولا يزال أيوب كما هو إلى الآن، وهكذا الله أيضًا، وكذلك الشيطان. لذلك فبقدر ذلك يطلبه الشيطان ويقول للرب: "إنما هو يخدمك، لأنك تساعده وتحميه وتعينه، ولكن ابسط يدك الآن وسلمه لي، فإنه في وجهك يجدف عليك".
باختصار إذ يكون الشخص حاصلًا على العزاء بالنعمة، تنسحب النعمة قليلًا حتى يمكن أن يُسلم للتجارب. ويأتي الشيطان ويحضر معه آلاف من الشرور كتجاربٍ للإنسان، مثل اليأس والارتداد والأفكار الرديئة، ليعذب بها النفس، لكي يضعفها ويفصلها من الرجاء في الرب(71).
القديس مقاريوس الكبير
*[لا تدخلنا في تجربة] الصلاة هنا ليست لكي لا نُجرب، بل لكي لا ندخل (ننقاد) في تجربة. فإذ يلزم لكل إنسان أن يُمتحن بالنار، عليه ألا يصلي لكي لا تمسه النار، بل لكي لا يهلك. لأن آنية الخزف تُختبر بالأتون، والإنسان يُمتحن بالضيقات trail of tribulation (حكمة يشوع 6:27).
يوسف أُمتحن بغواية الزنا، لكنه لم يدخل في تجربة (تك 7:39-12).
وسوسنة جُربت أيضًا دون أن تدخل في تجربة (دا 22:19).
وكثيرون من كلا الجنسين جُربوا دون أن يدخلوا في تجربة.
أما أيوب فأعظمهم، لأنه ثبت ثباتًا عجيبًا في الرب إلهه(72).
* ليس لدى (الشياطين) سلطان ولا قوة يمارونها ضد أحد ما لم ينالوا سماحًا من الله حسب تدبيره, مثال ذلك ما حدث ضد أيوب (أي1: 2), وضد الخنازير المذكورة في الأناجيل (مر 5: 13)(73).
* ليس للأرواح الشريرة السلطان أن تضر أحدًا، يظهر ذلك بوضوح في حالة الطوباوي أيوب، حيث لم يتجاسر العدو أن يجربه إلا حسبما سمح الله به... وقد اعترفت الأرواح نفسها بذلك كما جاء في الإنجيل، إذ قالت: "إن كنت تُخرِجنا فَأْذَنْ لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير" (مت 31:8). فإن كان ليس لديهم السلطان أن يدخلوا الحيوانات النجسة العُجم إلا بسماح من الله، فكم بالحري يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق علي صورة الله؟!(74)
|