خلق الله الإنسان خلقه للحياة
فعندما خلق الله الإنسان خلقه للحياة.. نفخ فيه نسمة حياة، فصار نفسًا حية. وأراد الله له الحياة والخلود. ولكن حرية الإنسان انحرفت إلي الخطيئة، فجلب لنفسه الموت كنتيجة لخطيئته، لأن "أجرة الخطية هي موت" (رو 6: 23). وهكذا دخل الموت إلي العالم. وساد علي الجميع.
لذلك نحن نفرح بالقيامة. لأنها انتصار علي الموت. وعودة بطبيعة الإنسان إلي الحياة. فالله خلق الإنسان ليحيا، لا ليموت.
قيامة المسيح هي عربون لقيامتنا جميعًا، لذلك وصفه القديس بولس الرسول بأنه "باكورة الراقدين" (1 كو 15: 20) هو الباكورة، ونحن من بعده.
ولعل سائلًا يسأل: كيف يكون المسيح هو الباكورة، بينما قام من قبله كثيرون؟! ابن أرملة صرفة صيدا إقامة إيليا النبي من الموت (1 مل 17: 22) وابن المرأة الشونمية أقامه أليشع النبي من بعد أن مات (2 مل 4: 32-36). كما أن هناك ثلاثة أقامهم السيد المسيح نفسه وهم: ابن أرملة نايين، وابنة يايرس، ولعازر.
حقًا إن هناك أشخاصًا قاموا من الموت قبل المسيح، ولكنهم بعد قيامتهم عادوا فماتوا ثانية. ومازالوا ينتظرون القيامة العامة. أما قيامة المسيح فهي القيامة التي لا موت بعدها، وهي الباكورة، والشهوة التي يشتهيها كل مؤمن بحب الخلود..
القيامة التي نعينها هي الطريق إلي الأبدية التي لا نهاية لها. ونحن نعلم أن قصة حياة الإنسان علي الأرض هي قصة قصيرة جدًا.. وإذا ما قيست بالأبدية تعتبر كأنها لا شيء. والخلود هو الحلم الجميل الذي تحلم به البشرية.
إن القيامة ترفع من قيمة الإنسان، وتؤكد أن حياته لا تنتهي بموته.
القيامة تؤكد أن هناك حياة أخري غير هذه الحياة الأرضية، سوف نحياها بمشيئة الرب بعد القيامة. وهكذا نقول في "قانون الإيمان" الذي نتلوه كل يوم في صلواتنا "وننتظر قيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي. آمين".
إذن لعلنا نقول: إن أهم ما في القيامة. هو ما بعد القيامة.
فالقيامة تدل علي أن لحياة الإنسان امتدادًا في العالم الآخر، وأن الموت هو مجرد مرحلة في حياة الإنسان، أو هو مجرد جسر بين حياتين إحداهما أرضية والأخرى سمائية.
ولا شك أن الحياة الأخرى أفضل بكثير، لأنها حياة في السماء، مرتفعة عن مستوي المادة، كما أنها حياة نقية، لا توجد فيها أية خطية. وفوق كل ذلك فهذه الحياة الأخرى هي عشرة مع الله وملائكته وقديسيه. عبر عنها الكتاب بقوله "ما تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر علي قلب بشر، ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو 2: 9). ولهذا قال مار اسحق:
"إن مخافة الملكوت تزعج قلب الرجل الجاهل. أما الإنسان البار فيشتهي الموت مثلما تشتهي الحياة".
ولهذا قال القديس بولس الرسول "لي اشتهاء أن أنطلق، وأكون مع المسيح، فذلك أفضل جدًا" (في 1: 23) حقًا أن الموت يصبح شهوة للذين يحبون الله ويحبون الحياة الأخرى، ويرون أنها أفضل جدًا من عالمنا هذا الذي فقد نقاوته. هؤلاء لإيمانهم بالقيامة -لا يرون الموت نهاية حياة، إنما هو انتقال لحياة أخري..
إن القيامة غيرت نظرة الناس لي الموت، فأصبح مجرد انتقال، جسر يعبر إلي حياة أخري، أو قل هو عملية ارتقاء، لذلك صار شهوة للأبرار.
لما حدث أن المسيح داس الموت بقيامته، سقطت هيبة الموت إلي الأبد، ولم يعد القديسون يخافون الموت إطلاقًا، كما أصبحوا لا يخافون مسبباته، كالمرض مثلًا، أو مؤامرات الناس الأشرار واعتداءاتهم. إنما يخاف الموت الإنسان الخاطئ، الذي لم يتب، فيخشي مصيره بعد الموت، والوقوف أمام دينونة الله العادلة. أو يخاف الموت الإنسان الخاطئ، الذي له شهوات يمارسها في هذا العالم. ويخشي أن يحرمه الموت منها. أما البار فلا يخاف الموت إطلاقًا، لأنه يؤمن بالقيامة.
والقيامة ترتبط بالإيمان، فالملحدون مثلًا لا يؤمنون بالقيامة..
الإنسان المؤمن يؤمن بقدرة الله علي إقامة الجسد من الموت، فالذي خلق البشر من التراب، وخلق التراب من العدم، هو قادر علي إعادة الجسد إلي الحياة. ليعود فيرتبط بروحه. أما الملحدون فلا يؤمنون بوجود الروح. أو استمرارها بعد الموت، ولا يؤمنون بالحياة الأخرى، ولا بالثواب والعقاب.. لهذا قلت إن القيامة ترتبط بالأيمان.
والإيمان بالقيامة يقود إلي حياة البر والفضيلة.
فهو يؤمن بأنه بعد القيامة، سيقف أمام الله في يوم الدينونة الرهيب، لكي يعطي حسابًا عن كل أعماله، إن خيرًا وإن شرًا. لذلك يقوده هذا الإيمان إلي حياة الحرص والتدقيق خوفًا من دينونة الله العادلة. وبالتالي يحاسب نفسه علي كل عمل، وكل فكر وكل شعور، وكل كلمة، ويقوم نفسه، كما قال القديس مقاريوس "احكم يا أخي علي نفسك، قبل أن يحكموا عليك"..
بل إن الإيمان الحقيقي بالقيامة يقود إلي حياة الزهد والنسك.
القيامة حولت أنظار الناس إلي أمجاد العالم الآخر، فتصاغرت في أعينهم المتع الزائلة في هذا العالم الفاني. ومن فرط تفكيرهم في غير المنظور، ازدادوا بالمحسوسات والمرئيات. وأصبحوا كما قال الكتاب "غير ناظرين إلي الأشياء التي تري، بل إلي التي لا تري. لأن التي تري وقتية، وأما التي لا تري فأبدية" (2 كو 4: 18).
ولو لم تكن القيامة، لتهالك الناس علي هذه الحياة الرضية، وغرقوا في شهواتها.. كالأبيقوريين الذين كان يقولون "لنأكل ونشرب، لأننا غدًا نموت" (1 كو 15: 32).
أما الذين يؤمنون بالقيامة ويستعدون لها، فإنهم يضبطون أنفسهم حسنًا. ويدخلون في تداريب روحية لتقويم ذواتهم. ولا ينقادون وراء الجسد ولا المادة. بل يحيون بالروح بأسلوب روحي، ويقمعون أجسادهم وحواسهم وأعصابهم.
حب الأبدية جعل الأبرار يشتاقون إلي شيء أكبر من العالم وأسمي..
كل ما في العالم لا يشبعهم، لأن في داخلهم اشتياقًا إلي السماء. وإلي النعيم الروحي الذي يسمو علي الحس. ويرتفع فوق كل رغبة أرضية.. لذلك نظر القديسون إلي الأرض كمكان غربة، واعتبروا أنفسهم غرباء ههنا، يشتاقون إلي وطن سماوي، إلي حياة أخري، من نوع آخر. روحاني نوراني سمائي.. ما لم تره عين..
اشتاقوا إلي العالم الآخر الذي كله قداسة وطهارة وروحانية، وسلام وحب ونقاء.. حيث الله يملأ القلوب. فلا تبقي فيها شهوة لشيء آخر غيره..
القيامة فيها لون من العزاء والتعويض للناس:
فالذي لا يجد عدلًا علي الأرض، عزاؤه أن حقه محفوظ في السماء، عند الرب الذي يحكم للمظلومين.. الذي لا يجد خيرًا علي الأرض مثل لعازر المسكين، عزاؤه أنه سيجد كل الخير هناك. وكما كان علي الأرض يتعذب، فهو في السماء يتعزي. فالقيامة تقيم توازنًا في حياة كل إنسان. إذ أن محصلة ما يناله علي الأرض، وما يناله في السماء تشكل توازنًا قوامه العدل.
والقيامة تقدم عزاء حقيقيًا لجميع الأصدقاء والمحبين، إذ تجمعهم ثانية، بعد أن يفرقهم الموت.
لو كان الأمر ينتهي عند القبر. ولا قيامة، إذن لكان أحباؤنا الذين فارقونا بالموت قد انتهوا، وانتهت صلتنا بهم، وما عدنا نراهم.. وهذا لا شك يتعب القلب، ويسبب فجيعة للمحبين الذين بغير القيامة يفقدون أحباءهم إلي غير رجعة.
إن القيامة تعطينا أيضًا فكرة عن قوة الله ومحبته.
الله القوي الذي يستطيع أن يقيم الأجساد بعد أن تكون قد تحللت وتحولت إلي التراب، ويعيدها بنفس شكلها الأول، ولكن بلون من التجلي.. روحانية ونورانية.. إنه الله المحب الذي لم يشأ أن يتمتع وحده بالوجود، فخلق كائنات أخري. كما لو يشأ أنه يعيش وحده في الخلود، فأنعم بالخلود علي الناس والملائكة، ووهب البشر حياة أبدية بعد قيامهم من الموت.
ومن متع القيامة زوال الشر. وزوال كل ما سببته الخطية.
ففي النعيم الذي يحياه الأبرار. لا يكون هناك شر ولا خطيئة. بل مجرد معرفة الخطية ستنتهي. ونعود إلي حياة البساطة الكاملة والنقاوة الكاملة. كالملائكة، وكالأطفال في براءتهم وتتخلص النفس من الأمراض التي رسبتها عليها الخطية: كالخوف، والشك، والشهوة، والقلق، وما شابه ذلك، وعندئذ تلبس النفس إكليل البر، وتزول منها جميع النقائص نفسية كانت أم جسدية.
يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل أمجاد القيامة. فذلك يحتاج إلي كتب.