أيام الفشل
6: 601
لا نبيّ بلا كرامة إلاّ في وطنه وببن أقربائه.
ندهش من مرقس الذي يتحدّث بطريقة عادية عن يسوع الناصري. لا يذكر هنا بلدته. على كلِّ حال، نحن أمام نصّ غريب. فمواطنو يسوع مُعجبون به، مع أنّه صدمهم. لماذا؟ لأنّه ابن النجار، ابن مريم. ولكن لماذا؟ لو أنّ عائلته كانت ذات سمعة سيّئة، لفهمنا! ربّما يكون أصله الوضيع غير أهل بمن يعتبر نفسه "المسيح". وقال لنا النص بعد ذلك: لم يستطع أن يصنع أيّة معجزة، مع أنّه شفى بعض المرضى. أتُراه صنع معجزات أكثر وأعظم في مكان آخر بحيث كسف ما صنعه في بلدته؟ تعارضات عديدة هي علامة التعارضات التي عرفتها بلدة يسوع.
وتباينت الآراء حوله. إنتظرَ التلاميذ أن يستقبله ذووه بحماس. قد يكونون عرفوا أن عائلته حاولت أن تهدّىء "جنونه" (3: 20- 31). وأعطى يسوع تفسيراً لظاهرة الرفض هذه بقول مأثور: "لا يكرّم نبيّ في وطنه". إن خبرة الأنبياء (ولا سيّما إرميا في عناتوت، إر 11: 18) في هذا المجال لا تحتاج إلى برهان. ولكن حين نعرف دور عائلة يسوع المهمّ في الكنيسة الأولى، نتساءل: ما الذي حصل ليكون مثل هذا التحوّل الجذري؟ في هذا المعنى نحترم صدق التقليد الإنجيلي الذي لم يَحذف من التاريخ أموراً غير محبوبة عن أقارب يسوع. هذا الخبر يدلّ على صدق النصوص التي نقرأ.
نستطيع القول إنّه كان لعائلة يسوع أعذارها. كانت أورشليم قد أرسلت كتبة (3: 22) لكي يتحقّقوا من تصرّفات الناصري! وما حدث ليوحنّا المعمدان جعل الناس يتخوّفون في المنطقة. هنا نفهم ردّة الفعل والتراجع لدى عشيرة لا تريد لنفسها المشاكل. ويسوع نفسه، حين وصل إلى مجمع بلدته، لا يبدو مهتمّاً إهتماماً خاصّاً. فردّة فعل السامعين ليست على أصل قوّته (من أين جاءته هذه القدرة؟) ولا على هذه القوّة التي لا أحد يعارضها. وبعبارة أخرى: هل يستطيع الله أن يختار أيّاً كان مرسلاً من قبله؟ فلو كان ابن ملك لفهمنا. أما هذا فنعرفه ونعرف حسبه ونسبه. أيّ جديد سوف يقوله لنا؟
لا نشكّ من الوجهة التاريخيّة أن يسوع عرف فشلاً صارخاً في بلدته. ولكن الحاجز ليس جداراً نصطدم به. فنستطيع أن نتلافاه ونستقي دينامية جديدة. إذن، سيذهب يسوع إلى القرى المجاورة، وهناك يتابع نشاطه (يعلّم) دون أن ييأس. لا يستعيد مرقس هنا موضوع القلوب القاسية الذي عوّدنا عليه. فما يشكّل حجر العثرة في كلّ دعوة، هو الإصطدام بقلّة الإيمان، بعدم الإيمان. هذا ما نراه في النصّ الذي نقرأ. ولكن لا شيء يوقف ذلك المعتقِد أنّه ليس كسائر الناس، كما أراده أهل الناصرة الذين كانوا أوّل من استفاد من حضوره وقدرته.
أراد الله أن يحيرّ الإنسان فاخترع سّر التجسّد. فهناك مسلّمة في الوحي وهو اندفاع الإنسان لكي يلتقي الله في الظواهر الخارقة والعجائبيّة، ومحاولته للخلط بين ما هو مدهش وما هو فائق الطبيعة.
إنّ اكتشاف عمل الله في اللحمة العادية للوجود البشري، يتطلّب تدرّباً طويلاً. وعلى مرّ التاريخ، نلاحظ أن الله يفضّل "الظهورات" اليومية على "الظهورات" التي تبهر العيون. وأعظم ظهور (تيوفانيا= ظهور الله) هو مجيء ابنه يسوع بيننا بما فيه من خفاء. طفل وُلد في مِذْوَد، نجّار يعمل في الناصرة، مصلوب خارج مدينة أورشليم. لا نستطيع أن نقول إنّ هذا المسيح يحرّك انتظار الشعوب.
فالنبي الذي دفعه الروح، هو شاهد لهذا الحضور الإلهي الذي لا يسقط أبداً من السماء، بل يُولد دوماً من الأرض، في كثافة التاريخ البشري. ولكن من يسمع صوت الانبياء؟ نحن المسيحيّين من عوام وكهنة تجنّدنا على كل الجبهات "لِنَدُلّ" على الله بأعمالنا. أمّا نحس بعض المرّات أننا نعِظ، نهتف في وادٍ؟
لنقرّ بالأمر ولا نتهرّب منه! هناك أيّام تصدمنا "بشرية" يسوع كما صدمت أهل الناصرة. والقول الذي ردّده يسوع عن نفسه يبقى صعباً بالنسبة إلينا: "لا يُحتقر نبيّ إلاّ في وطنه وبين أقربائه وأهل بيته".
ثم، من لم يطلب يوماً من الربّ أن يخلّصه من نقيصة فيه ليستطيع أن يقوم بمهمتّه بطريقة أفضل في النهاية، لسنا مقتنعين أن "نعمة الله تكفي" وأن "قوّته تظهر في ضعفنا". نحن نحنّ طوعاً إلى إلهٍ يتدخّل بالمعجزات ووحي يبهر العيون!
ولكن الله يقول لكلّ واحد منّا كما قال لحزقيال: "أرسلك إلى ابناء شعبي المتمرّدين، سواء سمعوا أم لم يسمعوا. سيعرفون أقلّه أن بينهم نبياً". هذا يعني أن الله لا يطلب منّا أن نهتمّ بنجاحنا أو فشلنا، بل أن نشهد له، وهو يهتمّ بالباقي. المهمّ هو أن نكون مناسبة لابناء جيلنا بأن يسمعوا نداء الله وبتجاوبوا معه بحرّية.
في هذه الحالة، قد تكون شوكة فتجرح جسدنا، قد تكون حدودنا البشريّة حاضرة. ولكن كل هذا لا يقيّد مهمتنا، بل يظهر مجانية حبّ الله السامي والخفي، الذي يحترم خليفته كلّ الاحترام فلا يكرهها على عمل، بل يحمل إليها نداء الحريّة.
جاء إلى خاصّته، وخاصّته لم تقبله. هذه هي مأساة الله. فالعهد لقاء وقبول وانفتاح على نعمة يقدّمها الله لنا. رُفض يسوع، فلم يصنع أيّة معجزة في الناصرة: فنحن لا نجد الإيمان إلاّ في حرّية قلب يزك الله يحرّكه ويعمل فيه. في الناصرة، لا مكان للتعجّب والدهشة، لا مكان للإنفتاح على النعمة. ونحن، هل نختلف عن أهل الناصرة؟ هل نسمع كلام الله؟ يسوع يحتاج إلى أنبياء. هل نحن أنبياء؟ هل نحمل كلام الله؟