المعمودية والافخارستيا في أعمال الرسل
يتضمن سفر أعمال الرسل مسيرة كلمة الله من أورشليم عبر السامرة وأنطاكية وصولاً إلى عاصمة الوثنية: روما. وهذه المسيرة هي إنجاز لبرنامج الرسالة الذي رسمه يسوع القائم من بين الأموات لتلاميذه: "ستكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض" (أع 1: 8).
فسفر الأعمال إذا، ليس سرداً لأحداث تاريخية عظيمة مضت (كما كان شائعاً في العالم الهلينستي مثل مآثر هنيبعل ومغامرات الإسكندر الكبير)، بل خبر مسيرة الروح القدس مبدأ الكلمة الذي نفخ في الجماعة الرسولية الأولى، فشهدت، في كل الأرض، بالأقوال والأعمال للرب يسوع المنتصر على الموت.
وهذا التاريخ الذي يقوده الروح القدس، هو امتداد لحياة يسوع العلنية كما وردت في الإنجيل اللوقاوي. فيتضح، أن سفر الأعمال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنجيل الثالث. وما قاله يسوع لتلاميذه في آخرة إنجيل لوقا "وتُعلن باسمه التوبة وغفران الخطايا لجميع الأمم، إبتداءً من أورشليم" (لوقا 24: 47)، يردده الإنجيلي في أولى آيات أعمال الرسل "وتكونون لي شهوداً في أورشليم وكل اليهودية والسامرة حتى أقاصي الأرض" (أع 1: 8). ثم ان خبر الصعود الذي ينهي حياة يسوع العلنية (كريستولوجية) في إنجيل لوقا، يعود من جديد فيفتتح سفر الأعمال، سفر فيض الروح وانطلاقة الكنيسة (إكليزيولوجية).
إنّ مبدأ هذا التنظيم اللوقاوي هو مبدأ لاهوتي: شمولية الخلاص. فيدلّنا على امتداد ملكوت الله امتداداً تدريجياً إلى العالم كله. فبعد انتشار الكلمة وسط اليهود، تنتقل البشرى إلى الوثنيين. وهذا الإمتداد يوجّهه الروح منذ بداية حياة يسوع العلنية (لوقا 4: 1، 18)، وفي "معمودية" اليهود في أورشليم (أع 1: 5؛ 2: 4، 41) وطوال مسيرة الكلمة، مروراً بمعمودية السامريين (8: 4- 25) ومعمودية الوثنيين في بيت كورنيليوس (10: 44- 48) حتى أقاصي الأرض. هذه الأحداث المتتابعة، تُظهر لنا استمرارية التاريخ المقدّس، وديمومة مخطّط الله الخلاصي بفضل تدفُّق مواهب الروح القدس وفيض نعمه.
1- المعمودية في أعمال الرسل
يقسم المؤرخّ لوقا تاريخ الخلاص إلى ثلاث حقبات متواصلة:
* الحقبة الأولى
وهي العهد القديم، تنتهي مع يوحنا المعمدان يوم إلقائه في السجن (لو 3: 19- 20) (ملاحظة: وضع لوقا سجن يوحنا قبل معمودية يسوع ليدلّ على أن رسالة يوحنا ورسالة يسوع تمثّلان حقبتين تاريخيّتين مختلفتين في تاريخ الخلاص).
* الحقبة الثانية
وهي عهد "المخلّص" (لوقا 2: 11) Sôtêrالذي دُشّن بمعمودية يسوع وحلول الروح القدس (لوقا 3: 22). وتتميّز هذه الحقبة بعودة روح الرب إلى شعبه، لأن التقليد اليهودي يذكر أن المئة والخمسين سنة السابقة لمجيء المسيح هي فترة "صمت الله وتوقّف عمل الروح" كما يقول التلمود: "منذ موت الأنبياء حجاي، زكريا وملاخي، توقف عمل الروح في إسرائيل" (توسفتا، سوتا 13: 2). فالحقبة التي يفتتحها يسوع هي حقبة فيض الروح القدس، وهذا الفيض الروح قدسي لن يصبح شاملاً، أي لن يكون لكل إنسان، إلا بقيامة الرب من الموت. هذه الشمولية تحققت في الحقبة الثالثة وهي العنصرة وانطلاقة الكنيسة في كل الأرض.
وعن شمولية الخلاص، تحدّث لوقا مسبقاً في بداية إنجيله، فاستقى الفكرة من أشعيا النبي القائل: "وكل ذي جسد pasa sarxيرى خلاص الله" (لوقا 3: 6؛ راجع أشعيا 40: 3- 5). فنستشف من عبارة "كل ذي جسد" أن الخلاص قد وُهب لكل إنسان. وما قاله بولس في روما في خاتمة سفر الأعمال: "إن خلاص الله هذا أُرسل إلى الوثنيين وهم سيستعمون إليه" (أع 28: 28) يؤكّد على تحقيق نبوءة أشعيا التي ذكرها لوقا.
فخلال مسيرة البشارة من أورشليم مروراً بالسامرة وبيت كورنيليوس وصولاً إلى روما، ستتعاقب مراحل ثلاث، تختبر فيها الكنيسة الإنفتاح على الآخرين. وكل مرحلة من هذه المراحل، تبدأ بكرازة خلاصية وتنتهي بمعمودية مقدّسة.
أ- المرحلة الأولى: معمودية اليهود في أورشليم (أع 2: 1- 41)
بعد أن نال الرسل معمودية الروح القدس يوم العنصرة (أع 2: 1- 13)، إنطلقت هذه الكنيسة الصغيرة من علية صهيون وابتدأت مسيرة الكلمة. فيهود الشتات الآتون من كل أمّة تحت السماء والمجتمعون في أورشليم (أع 2: 5)، إنذهلوا أمام هذه المعجزة التي لا تُفهَمْ على مستوى البشر. فتقدم بطرس وفسّر لهم الحدث تفسيراً نبوياً متوجهاً بعظته (2: 14- 36) إلى اليهود مباشرة. فخاطبهم قائلاً: "أيها اليهود... يا بني إسرائيل اسمعوا هذا الكلام" (2: 22؛ راجع 2: 14؛ 2: 36). وبيّن لهم مخطط الله الخلاصي الذي تجلّى لإسرائيل عبر الكتب المقدّسة (يوئيل 3: 1- 15؛ مز 16: 8- 11؛ مز 110- 1) وأنهم هم المعنيون الأوَّلون بحدث العنصرة إذ فيه تمّ الرجاء الإسكاتولوجي لبني إسرائيل.
تجاوباً مع الكرازة البطرسية، سأل اليهود هامة الرسل ورفاقه قائلين: "ماذا نعمل، أيها الاخوة"؟ فقال لهم بطرس: "توبوا، ليتعمّد كل منكم باسم يسوع المسيح لغفران خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس" (2: 37-38). فبعد هذه الكرازة، قَبِلَ اليهود الكلمة وتعمّدوا باسم يسوع ثم انضمّوا إلى جماعة الرسل. فيوم العنصرة ابتدأ بمجموعة صغيرة منعزلة في عيلة (1: 12- 14) وانتهى بمجموعة كبيرة (ثلاثة آلاف نفس، أع 2: 41). وهكذا، بكرازة الكلمة وقبول المعمودية، انطلقت الكنيسة في أورشليم، منهية المرحلة الأولى وهي معمودية اليهود.
ب- المرحلة الثانية: معمودية السامريين (أع 8: 5- 25)
بعد معمودية اليهود وبدء مسيرة الكنيسة، تتواصل البشارة من أورشليم، فتنتقل من مكان إلى آخر فتبلغ بوجه خاص السامريين على يد فيليبس (أع 8: 5- 40)، ثم إلى الوثنيين في قيصرية على يد بطرس (أع 9: 32- 11: 18)، وإلى أنطاكية على يد الهلينيين (أع 6: 1)، في حين أن رسول الأمم في المستقبل بعد أن يهتدي، يباشر الوعظ (9: 1- 30). لقد ساعد الإضطهاد، عن غير قصد، ذلك "التفجير الرسولي" الذي يربطه لوقا ربطاً وثيقاً باستشهاد اسطفانوس (أه 7: 2). فيؤلّف الفصل الثامن إذا، مرحلة رئيسية في سفر الأعمال، وهو الإنتشار خارج أورشليم. ورائد هذا الإنتشار، في اليهودية والسامرة، هو الشمّاس فيليبس أحد السبعة (أع 6: 1-6). ويذكر نشاطه الرسولي في إحدى مدن السامرة (أع 8: 5- 3)، ثم على الطريق بين أورشليم وغزة (أع 8: 26- 39)، وأخيراً في كل المدن من أشدود حتى قيصرية (أع 8: 40). ففي هذه المنطقة وجد فيليبس نفسه مبشراً بالكلمة وكانت الجموع تصغي بقلب واحد إلى تعاليمه (أع 8: 6). وبعد الكرازة بالكلمة، فعل كما فعل بطرس يوم العنصرة، فتعمّد أهل السامرة جميعاً رجالاً ونساءً (أع 8: 12). وقد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع، ولكن الروح لم ينزل على أحدٍ منهم كما حصل في العنصرة وعند كورنيليوس. فسينالون الروح حين يضع بطرس ويوحنا أيديهم عليهم (أع 8: 17).
ثم أن عماد خازن ملكة الحبشة (أع 8: 26-40) يؤلّف مع عماد السامريين خطوة نوعية في انتشار الكنيسة. فالخَصِيُّ الذي كان يُعتبر عند اليهود مرذولاً وخارج الجماعة حسب سفر تثنية الإشتراع (تث 23: 2)، أصبح مع المسيح من أبناء بيت الله: الكنيسة.
من هنا نفهم، أن في سفر الأعمال صيغتين للمعمودية: عماد من دون الروح القدس، وهو عماد باسم الربّ يسوع (كما في معمودية السامريين)، وعماد في الروح القدس كما حصل في العنصرة وفي معمودية كورنيليوس وأهل بيته. إن علاقة المعمودية بالروح القدس في سفر الأعمال لها عدّة أوجه:
1- يحدث قبول مؤمنين في الكنيسة دون أن يُذكر أنهم قبلوا العماد (أع 4: 4) فيُستبدل فعل "عمّد" بالعبارات التالية: "إنضمّ إلى الجماعة" (أع 2: 41؛ 5: 14)؛ "ضمّ الربّ إلى الجماعة" (أع 2: 47)؛ "إنضمّ إلى الربّ بالإيمان" (أع 5: 14؛ 16: 31).
2- عماد يحتاج إلى وضع يد بطرس ويوحنا (أع 8: 4- 17) أو بولس (أع 19: 1- 7) لقبول الروح وليكون العماد تاماً.
3- هناك أوقات يكفي فيها العماد وحده لقبول الروح القدس (أع 2: 38).
4- هناك أوقات يحلّ فيها الروح قبل العماد، فيكون العماد تثبيتاً لعمل الروح (أع 10: 44-48).
5- إن كلمة "معمودية baptisma" في سفر الأعمال تدلّ على معمودية يوحنا المعمدان.
6- يُستعمل الفعل "عمّد baptizô" في صيغة المجهول: ويشدّد أن فلان عُمِّدَ، لا على دور الذي عمّده (إلا في معمودية يوحنا المعمدان وعمل فيلبس في قيصرية).
إن ممارسة الكنيسة لسريّ العماد والتثبيت لم تكن ثابتة منذ البداية، بل تنظّمت تدريجياً عبر التاريخ. وكل جماعة مؤمنة اتخذت منهجاً معيّناً قبل أن تنتظم الأمور. والإنجيلي لوقا نقل لنا بصدق كيف مارست الكنيسة الأولى الأسرار الإلهية وصيغها المتشعّبة.
ج- المرحلة الثالثة: معمودية الوثنيين (أع 10: 1- 11: 8)
بعد أن اجتازت الكنيسة المرحلة الثانية: "إذ كانت الكنائس في جميع اليهودية والجليل والسامرة تنعم بالسلام، وكانت تمتدّ وتسير على خوف الرب وتتقوّى بمعونة الروح القدس" (أع 9: 31)، لم يبقَ أمامها إلاّ المرحلة الثالثة التي سيدشّنها بطرس الرسول بتبشير كورنيليوس واعتماده مع جميع أهل بيته (10: 1- 11: 18). فحين وصل بطرس إلى بيت الوثنيين (أو المتّقين الله)، لم يبادر إلى تعميده وقبوله في الكنيسة، فالله تدخّل عبر عطية الروح القدس. فهو الذي أرسل ملاكه إلى يافا ليأتي ببطرس إلى قيصرية، وهو الذي أراه في رؤية السماط الذي عليه الحيوانات التي خلقها الله في سفر التكوين (تك 1: 21 و24؛ 6: 7 و 14) أو المذكورة في حدث الطوفان (تك 6: 20) (هذا يوحي بأننا أمام سفر تكوين جديد). ومبادرة الله هذه تبقى حتى النهاية: "وكان بطرس لا يزال يروي هذه الأمور إذ نزل الروح القدس على جميع الذين سمعوا كلمة الله" (أع 10: 44). هذا الحدث يجدّد حدث العنصرة: الأول كان محفوظاً لليهود دون سواهم، أما الثاني فللوثنيين الذين نالوا الروح القدس (10: 45): وأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغتهم ويعظّمون الله (10: 46). وتأتي في النهاية المعمودية لتختتم الحدث وتعلن بصفة رسمية دخول الوثنيين في حضن الكنيسة. وهذا ما جعل بطرس يقول: "هل نقدر أن نمنع ماء المعمودية عن الذين نالوا الروح القدس مثلنا نحن"؟ (أع 10: 47).
فالمعمودية حلّت مكان الختان، وأُعطِيَت باسم يسوع وأصبحت بنعمة الروح القدس، باباً مشّرعاً أمام الذين يريدون الدخول إلى بيت الرب، إلى "كنيسة دون حدود" ويعلنون معها وفيها أن يسوع هو الرب القائم من الموت.
بدأت البشارة في أورشليم بمعمودية اليهود، وانتقلت إلى السامرة فعمّدت أهلها، ثم انفتحت على الوثنيين وستتابع سيرها حتى "أقاصي الأرض".
نستخلص هنا ثلاثة أمور تميّز المعمودية في أعمال الرسل، نجدها في خطبة بطرس يوم العنصرة: "توبوا، وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس" (أع 2: 28). إذاً:
أولاً: التوبة والمعمودية بالماء لمغفرة الخطايا
العماد بالماء تلازمه التوبة الصادقة دلالة على أن العماد ليس عملاً خارجياً محضاً ينضم به إنسان إلى الجماعة المؤمنة، بل هو ارتداد داخلي جذري metanoia (توبة إلى يسوع وتغيير الفكر بالنظر إليه وتغيير مسلك الحياة). وهذا العماد يمنح مغفرة الخطايا ويوحّد المعمّد بموت وقيامة الرب.
ثانياً: المعمودية باسم يسوع المسيح
ترد هذه العبارة "باسم يسوع المسيح" مراراً في سفر الأعمال (10: 48؛ 19: 5؛ 22: 16) وتعني أن من يعتمد يعبّر عن إيمانه بأن يسوع هو المسيح والرب الفادي (أع 4: 12). فالكرازة التي تسبق المعمودية لا تهدف إلاّ إلى الوصول بالمستمعين إلى إعلان الإيمان بأن يسوع هو المخلص، وأنه باسمه يجب أن يعتمدوا (مثلاً كرازة فيلبس في السامرة أع 8: 12)؛ كرازة فيلبس لخازن ملكة الحبشة وعماده أع 8: 35-38؛ خطبة بطرس أمام كورنيليوس وأهل بيته: إذ بدأ بتبشيرهم بيسوع المسيح، بعد أن رأى أن الروح القدس حلّ على جميع الذين سمعوا الكلمة وآمنوا بالمسيح، "أمر أن يعمّدوا باسم يسوع المسيح" (أع 10: 34-48). بالمعمودية باسم يسوع المسيح يعترف المؤمن أن يسوع هو الرب الفادي ويتّحد اتّحاداً قوياً بشخص يسوع.
ثالثاً: المعمودية بالروح القدس
يوم تعمّد يسوع، قبلَ الروح القدس (لوقا 3: 22). وقبل صعوده إلى السماء، وعد تلاميذه بأنهم سيُعَمَّدون هم أيضاً بالروح القدس (أع 1: 4- 5). وهذا ما يعلن بطرس تحقيقه يوم العنصرة مستشهداً بنبوءة يوئيل (أع 2: 16- 33).
وعمل الروح القدس هذا، هو إشراك المؤمن في شخص يسوع ورسالته النبوية. وهذا ما يوضحه لقاء بولس الرسول مع بعض التلاميذ في أفسس الذين قبلوا معمودية يوحنا المعمدان فقط (أع 19: 1- 6). فحلول الروح القدس ملازم للمعمودية باسم يسوع. فكل من يعتمد باسم يسوع يناله الروح القدس كما ناله الرسل يوم العنصرة. فالعماد في بداية المسيحية كان يُمنح "باسم يسوع" (أع 2: 38؛ 8: 16؛ 10: 48؛ 1 كور 1: 13- 15؛ غلا 3: 27؛ روم 6: 3). أي أن المعمّد يصبح ملكاً ليسوع فيكون ليسوع سلطة عليه (ونحن نعرف قيمة "الإسم" في العهد القديم). ويشترك في حياته، في موته وقيامته، كما يشترك في نبوّته وفي روحه.
هذا هو معنى تطوّر صيغة العماد: من العماد "باسم يسوع" إلى العماد "باسم الآب والإبن والروح القدس" (متى 28: 19). فالصيغة الأخيرة هذه -وقد فرضت نفسها في نهاية الأمر، خلافاً للصيغة الأولى- تتضمن الإشتراك في حياة الثالوث الأقدس، إنطلاقاً من حياة يسوع نفسه ("باسم يسوع"). وهذه الصيغة الأخيرة هي توضيح عقائدي للمعمودية باسم يسوع المسيح، إذ تعلن أن يسوع المسيح الذي تُمنَح المعمودية باسمه هو الإبن المرسل من قِبَلِ الآب، وهو الذي يمنح الروح القدس للذين يعتمدون باسمه. وتعلن كذلك أن من يعتمد باسم يسوع يصير مثله ابناً للآب وهيكلاً للروح القدس.
فالمعمودية في سفر الأعمال، هي حقيقة لاهوتية خلاصية كاملة. فإن مُنحت في أورشليم، في انطاكية أو في كورنتس، أو في السامرة وقيصرية تحت سلطة بطرس أو بولس، حننيا أو فيلبس، المعمودية هي هي، وحدة كاملة لا تتجزّأ وكما يقول بولس الرسول: "إله واحد، إيمان واحد، ومعمودية واحدة" (أف 4: 5).
2- الافخارستيا في سفر الأعمال
يخبر لوقا عن حياة الجماعة المسيحية الأولى قائلاً:
"وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات" (أع 2: 42). وهذه الآية تلخّص جوهر الحياة المسيحية الأولى:
سماع الكلمة، العمل بها والإشتراك في الأسرار. ويعبرّ الفعل proskartereô = واظب، داوم؛ عن استمرارية وديناميكية الحياة الروحية في الكنيسة الأولى. فالحياة المسيحية هي مداومة وثبات، هي خطوة جديدة نحو الأكمل. وهذه المداومة على تعليم الرسل Tê didachê والحياة المشتركة Koinônia وكسر الخبز Klasei ton arton والصلوات هي تعبير إيماني عن ديمومة سّر الافخارستيا وحدثي الجلجلة والقيامة. فالإتحاد بالمسيح القائم من الموت عبر هذه "المداومات الأربع"، هو أساس الإتحاد بين أبناء الكنيسة الأولى والشركة Koinônia التي تتجلى في "كسر الخبز- الافخارستيا" ]الفعل Klaô = كسر، الوارد في أع 2: 46؛ يُذكَرُ خمسة عشرة مرّة في العهد الجديد، خاصة عند لوقا، ودائماً على علاقة مع الافخارستيا في أع 2: 42، عبارة "كسر الخبز Klasei" ترد في حدث تلميذَي عماوس: "فرويا ما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز Klasei" (لوقا 24: 35)[.
وإن رائد هذه Koinônia، كما في المعمودية هو، الروح القدس، فإن عمله لا يقتصر على نشر الكلمة وانتقالها من أورشليم إلى الوثنيين عبر السامرة وقيصرية، بل يهدف إلى جمع المؤمنين وتحقيق كمال وحدة الكنيسة في سّر الافخارستيا.
فكانت الجماعة الأولى "تكسر الخبز" في اليوم الأول من الأسبوع (20: 7) الذي هو "يوم الرب" (رؤيا 1: 10)، ويجتمعون في الهيكل لصلاة مشتركة (2: 46)، ويحتفلون بالافخارستيا في البيوت (5: 42) (مثلاً في بيت مريم أم يوحنا مرقس 12: 12).
وبولس يتحدث عن تجمّعات مماثلة تحصل في عدة بيوت (روم 16: 5؛ 1 كور 16: 19؛ كول 4: 15). وتشهد (2: 46) على المداومة على الصلوات اليومية وعلى الروح التي تسود هذه الإجتماعات "يلازمون الهيكل كل يوم بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بابتهاج وسلامة قلب Aphelotêti kardias (أع 2:46).
يستعمل لوقا الكلمة Agalliasei ليعبّر عن البهجة والفرح اللذَّين يسودان هذه الإحتفالات الافخارستية. Agalliasei توحي بالبهجة التي يسبّبها حضور الله، وبعض المرات لها نفحة اسكاتولوجية. فصاحب المزمور (51: 14) يطلب من الرب أن يمنحه "بهجة خلاصه"؛ والعذراء تنشد أيضاً: "وتبتهج روحي بالله مخلّصي" (لوقا 1: 46).
وعبارة "سلامة قلب" تعبرّ عن محبّة وتواضع المؤمنين وصدق نيتهم في المشاركة الفعلية بالافخارستيا، كما تحمل توبيخاً خفياً للتجاوزات التي قد تكون دخلت إلى الوليمة الافخارستية (راجع ما يقوله بولس في 1 كور 17:11).
ولقد وعت الجماعة الأولى أن الافخارستيا تجدّد وحدة المؤمنين الكيانية وتثبتها وتعمّقها. ففي تقاسمهم للخيرات بين بعضهم البعض واشتراكهم في الخبز الواحد، أصبحوا كائناً واحداً في المسيح وحياة واحدة عبر الزمان والمكان كما قال لوقا: "وكان جميع الذين آمنوا، جماعة واحدة، يجعلون كل شيء مشتركاً بينهم" (2: 42).
والغاية من هذه المداومة الافخارستية هي تحويل الكنيسة الناشئة، والكنيسة الجامعة فيما بعد، إلى قربانَ محبةٍ مع المسيح وتحقيق رغبة، الإشتراك معه في الوليمة السماوية في ملكوت الآب. فكلّ مرّة كانت الجماعة الأولى تجتمع "لكسر الخبز" تذكر عشاء الرب الأخير وتذكر قيامته وتنتظر مجيئه. وهكذا بالافخارستيا، دخلت الكنيسة الأولى في الاسكاتولوجيا. والاسكاتولوجيا ليست فقط ما ننتظر تحقيقه في نهاية الأزمنة، بل هي البعد الإلهي الذي دخل عالمنا في شخص المسيح.
والافخارستيا تجمع المؤمينن وتدخلهم فصح المسيح في لحظة قيامته، لتجعلهم أبناء القيامة.
ولقد وعى لوقا هذا السّر الإلهي. ففي معرض حديثه عن ارتداد بولس، وبالتحديد، بعد أن وضع حننيا يده عليه في بيت يهوذا في دمشق، إمتلأ الرسول من الروح القدس، فأبصر وقام (Anastas) فاعتمد، ثم تناول طعاماً فعادت إليه قواه (أع 9: 18- 19).
فالفعل Anistêmi = قام، وقف، هو فعل فصحي، وكثيراً ما يستعمله الإنجيليون وخاصة لوقا للتعبير عن القيامة (يوحنا 6: 39، أع 2: 27؛ 9: 41؛ 13: 34). (هذا الفعل نجده في حدث إحياء طابيثة في يافا على يد بطرس الرسول (9: 39-43). فالعبارة اعتمد ثم تناول طعاماً فعادت إليه قواه الواردة بعد الفعل، Anistémi، ترسم لنا البعد اللاهوتي العميق القائم بين الحدث الفصحي والعماد والافخارستيا والذي وَعَتْهُ الكنيسة الأولى منذ نشأتها.
فهناك موت عن ماضٍ مظلم وقيامة بالرب يسوع بالعماد والافخارستيا. وهذا التضاد الموت- القيامة- نزول- صعود، يعبّر عنه لوقا أجمل تعبير في حدث أفطيخس في طرواس (أع 20: 7-12). سقط Piptô الفتى ميتاً، وبعد تدخّل بولس صعد Anabainô أفطيخس حياً واشترك في كسر الخبز. فالافخارستيا هي اشتراك في شخص المسيح القائم من الموت واشتراك في قيامته ومجده.
خلاصة:
يبدو لنا في سفر الأعمال، الرباط بين المعمودية والافخارستيا. فهذان السرّان يندرجان ضمن دينامية واحدة تهدف إلى لقاء حقيقي بين المؤمن والرب يسوع في الشركة الافخارستية.
بالمعمودية يصير الإنسان ابن الله بالتبنّي. وهذا التبنّي لا يصل إلى كماله إلاّ متى اشترك المؤمن في الوليمة الافخارستية، أي في عشاء الرب القائم من الموت. إذ ذاك يدخل المؤمن في عالم القيامة، ويجلس مع الكنيسة على مائدة الوليمة السماوية التي يشترك فيها منذ الآن. المعمودية هي سّر الدخول الى الكنيسة، والافخارستيا هي سّر الكنيسة في كمال حقيقتها