خطب بولس في كتاب أعمال الرسل
ثمّة شبه كبير بين الأناجيل وسفر الأعمال. فالأولى تتألّف من أقواله وأفعال جاء بها يسوع في أثناء حياته؛ وينطوي سفر الأعمال كذلك على خطب وأعمال حفلت بها حياة بعض الرسل غداة قيامة السيّد. وتبرز الأحداث الإنجيلية في حركة تصاعديّة تنطلق من رقعة ضيّقة إلى دائرة أكثر اتساعاً، سواء على المستوى الجغرافي أو الدرامي؛ وهذا ما يمكن القارىء في كتاب الأعمال أن يلحظه دونما إبطاء، كلّما أوغل في تقصيّ أخبار الجماعة الرسولية. في الأناجيل يعظم عدد المؤيّدين لدعوة يسوع بشكل موازٍ لتعاقب الأحداث المرويّة؛ وفي كتاب الأعمال يستوقف القارىء تنامي عدد المسيحيّين بشكل موازٍ أيضاً لتقدّم البشارة الإنجيلية. علاوة على نقاط الشبه هذه، هناك أخرى عديدة تقارب بين وجهتي نظر كلّ من مؤلّفي الأناجيل والأعمال.
يترتّب على مثل هذا التشابه في البنية بين كلّ من الأناجيل وسفر أعمال الرسل أمران اثنان: أولهما منوط بالمادّة المنتقاة، وثانيهما مرتبط بالقارىء. أمّا في ما يتعلّق بالأمر الأول فإنه لبديهي أن يفرد الكاتب عدداً من الأحداث التي انطوت عليها سيرة الأشخاص لكي يضمّنها كتابه، دون أن يدّعي لحظة واحدة استنفاذه كلّ أحداث تلك السيرة. فما يرد في يو 21: 25 (أنظر أيضاً 20: 30) غاية في البيان بالنسبة إلى هذه الناحية. وهذا الإفراد لبعض الأحداث إنما يعني أهميّتها بالنسبة إلى الكاتب في تأليفه كتابه. وأما في ما يختصّ بالأمر الثاني فإنه يبين لإدراك عندما يتنبّه قارىء الأناجيل أو الأعمال إلى أنّ الرواية التي يطالعها ترتكز إلى واقع قائم على أساس أحداث جرت في الماضي، وإلى أن كاتبها، بالتالي، يسعى بل يهدف إلى شرح هذا الواقع القائم بناء على معطيات دخلت عجلة التاريخ. فما يورده الكاتب، إذا، في كتابه ذو دور تدليلّي يعكس رؤيته التفسيرية للواقع المستحكم والمستشري في طبقات اجتماعية مختلفة.
فأهميّة المنقول والدور الذي يخوّله إيّاه الكاتب هما، إذاً، قياسان ثابتان يمكن الاعتماد عليهما في شرح ما يبدو شبيهاً بين الأناجيل والأعمال على مستوى البنية الروائية. بل يصلحان أيضاً لشرح نقاط الاختلاف على المستوى المذكور عينه. فإذ تركّز الأناجيل، مثلا، اهتمامها على إبراز الناحية المجّانية في عمل يسوع الرسولي، تورد عدم فهم الرسل معنى أقوال يسوع وإنكار بطرس وهروب التلاميذ في بستان الزيتون؛ فيما نرى كتاب الأعمال وهو يقدّم لنا، بطريقة مخالفة، شجاعة الرسل في إعلان الكلمة ورباطة جأشهم في المحافل اليهودية، إذ هو مهتمّ بالتركيز على إيمان الجماعة الرسولية الأولى الوطيد والراسخ في شخص المسيح. لا هذا فقط، بل إنّ لهذين الاعتبارين -أهمية المنقول ودوره- فضلاً في تبيان ما تماثل في ما بين الأناجيل ذاتها من روايات أو ما اختلف فيها من مقاطع.
إنطلاقاً من قاعدة راسخة كهذه، شئنا للموضوع الذي عُهد به إلينا من أجل معالجته -"خطب بولس في كتاب الأعمال"- تصميماً مبنيّاً على نقطتين: ففي النقطة الأولى سوف نعالج أهميّة هذه الخطب في سفر أعمال الرسل؛ وفي النقطة الثانية نلتفت إلى تحليل دورها في السفر المذكور. لكن هذه الدراسة المقتضبة في نقطتين تغتني في ما تكشف عنه مقدّمة من ملاحظات جدّية حول خطب الرسول في كتاب الأعمال، ويتّسع أفقها بفضل خلاصة تقفل الكلام في الموضوع بنظرة استنتاجيّة رعويّة المنظار.
مقدّمة
لا بدّ لنا، بادىء ذي بدء، من أن نلحظ احتواء سفر الأعمال على 27 خطاباً فقط، مقابل 101 معجزة يوردها في تضاعيف فصوله الثمانية والعشرين. ولعلّ هذا البون الشاسع بين العمل الخارق والقول المبين هو السبب في إضفاء عنوان للسفر خلال القرن الثاني، إذ إنّ تسمية "سفر الأعمال" غائبة عن النصّ الأصليّ للكتاب. فالأعمال التي يشير إليها عنوان السفر إنّما ينبغي عليها، بالتالي، أن تدلّ على "أعمال الرسل الخارقة"، أولاً، أي على المعجزات التي جرت علىء أيديهم في بدء تاريخ الكنيسة، قبل أن تعني في مدلولها الشاسع المبادرات العديدة والمختلفة التي قاموا بها فرادى أو على نحو جماعي. فمن وجهة النظر هذه تحتلّ، إذاً، الخطب منزلة ثانية في عينَي كاتب السفر.
يبدو مثل هذا الجزم لا يقبل منازعة؛ فهو يستند إلى ملاحظة ثابتة المعالم، وهو أيضاً موضوعيّ إذ يتّفق اتفاقاً ورؤية الكاتب الذي شاء لكتابه هذه البنية الانتقائية التي يفوق فيها عدد المعجزات على عدد الخطب. فلا دحض يمكنه أن يقتنص التفسير الذي أضفيناه على هذا العنوان. فمن الوجهة الشكلية لإنشاء الكتاب، تحتلّ الخطب فيه مرتبة ثانية إزاء أعمال المعجزات.
بيد أنّ إعمال العقل في خطّة الكاتب التي عمل بموجبها لتدوين كتابه قد يقلب الاعتبارات رأساً على عقب؛ إذ لا يعقل، من الوجهة الواقعية، أن ينطلق الرسل إلى أعمال تبشيرية وعملهم يغلب على قولهم. فالتقاء الناس في مدنهم وقراهم وإعلان الكلمة ومقارنة الحجج بالحجج وتفسير ما قد يغمض من معانٍ أو ما قد يفوت المبشّر من تفاصيل، تدلّ على قسط أوفر للكلمة منه للعمل، وعلى تفوّق الخطبة إزاء المعجزة. فإن نحن فكرنا في رحلات بولس التبشيرية فقط لوجدنا أن لوقا، كاتب سفر الأعمال، قد اكتفى بذكر خطاب واحد فقط لبولس من مجمل خطبه التي خطب بها الرسول في أثناء رحلته الأولى (أع 13: 17- 41)، وأهمل إيراد باقي الخطب بالرغم من إشارته إلى حدوثها (13: 5، 7، 43، 44، 49؛ 14: 1، 3، 21 إلخ). فلو أخذنا في الحسبان عدد ما فاه به الرسول من خطب، مما يُلمح إليه مجرّد إلماح كاتب سفر الأعمال، وأضفنا عليه ما يمكن أن يستشفّه الفارىء الفاحص من خطب أخرى، ممّا يمكن تحليلاً دقيقا للنصوص أن يفضي إلى التسليم به أو ترجيح تخيّله، لتضاعف ولا شكّ عدد الخطب في سفر الأعمال. وإن نحن سعينا المسعى عينه بالنسبة إلى بطرس خصوصاً، وإلى سائر الرسل الذين يورد عنهم لوقا بعض خطب عموماً، لربا عدد الخطب على عدد المعجزات في طيّات الكتاب.
فللكاتب، إذاً، قصد في إعلاء شأن "الأعمال" على "الأقوال"، يمكن استجلاؤه سواء على الصعيد اللاهوتي أم الكنسيّ. إنّ الكاتب يريد، من جهة، إبراز "عمل" الروح الذي وعد به يسوع رسله الأخصّاء (1: 8) إبرازاً جليّاً للعيون من خلال جريان أعمال معجزة، أي أحداث تدلّ على حضور "عمل" الله في تاريخ البشرية؛ وهو يهدف، من جهة ثانية، إلى إجلاء هويّة الجماعة المسيحية الحقّة من خلال التشديد على الجانب "العملي" والتطبيقي، أي الحياتي المعاش في التزام حسيّ. ويلاحظ في هذا القصد الذي لدى كاتب سفر الأعمال وجه تفسيريّ للواقع الذي عاصره من حياة المسيحية غداة انطلاقتها، ووجه تحريضيّ للمؤمن الذي سوف يطالع صفحات السفر إذ يهُيب به الكاتب إلى التزام جانب "العمل" في حياته المسيحية الخاصة. بيد أن هذا القصد ما كان ليقوم له قائم لولا فرز في أحداث التاريخ بين "أعمال" خارقات و"خطب" بيّنات.
وبناء عليه، ينبغي إذاً إدخال توضيح دقيق على عنوان السفر بغية فهم مضمونه فهماً صائباً. فهناك مستوى أوّل ومباشر يُنظر منه إلى عنوان الكتاب، ومن خلاله إلى مضمونه، هو مستوى "القصد" الذي للكاتب من تدوينه الكتاب. وعلى هذا المستوى، يكتسب "أعمال الرسل" معنى الأحداث الخارقة التي تمّت على أيدي الرسل، دون الخطب التي تبدو في مرتبة ثانوية. وهناك مستوى ثانٍ، منطقيّ وكثر مطابقة للواقع التاريخي، هو مستوى "الحدث" الذي غرف منه الكاتب موادّ مؤلّفه. وعلى هذا المستوى، تمسي "أعمال الرسل" تعبيراً يكنّى به عن حياة الرسل بشطريها، العملي والكرازيّ، دون تمييز أو تفريق بين أفعال أتوا بها معجزات خارقة وخطب تلفّظت بها شفاههم آيات شاهدة، وإن فاقت الأولى منها الثانية عدداً.
هذا ما كان ينبغي إيضاحه بالنسبة إلى الخطب في كتاب أعمال الرسل وتجاورها والمعجزات الواردة فيه. فما من شأن خطب بولس الرسول ضمن هذه المجموعة من الخطب؟ يورد لوقا عشر خطب بولسيّة بين السبع والعشرين خطبة التي ينقلها إلينا في مجلّده الثاني. وهذا العدد يجعل من بولس الرسول الخطيب والمتفوّه الأول بين سائر الخطباء من الرسل الأوّلين، إذ تحتلّ أحاديثه ثلث مجموعة الأحاديث تقريباً، متجاوزاً بذلك عدد الخطب المنسوبة إلى زعيم الرسل وهامتهم، بطرس. وقد وزّع لوقا في كتاب الأعمال خطب بولس العشر هذه لا حسب اعتبارات تاريخية، وإنما في منظار انتقائي ترسم له إطاره صنعة المؤلّف وحاجته الإنشائية. فقد أورد الكاتب خطبة واحدة في كلّ رحلة من رحلات بولس التبشيرية الثلاث (13: 17- 41؛ 17: 22- 31؛ 20: 18- 35)، وأفرد الخطب السبع المتبقّية إلى رحلة الأسر الأخيرة (22: 1- 21؛ 23: 1- 9؛ 24: 10- 21؛ 25: 8- 11؛ 26: 2- 29؛ 27: 21- 26؛ 28: 25- 28). ولا يخفى عن القارىء ما لمثل هذا التوزيع من مأرب تعليميّ أو صبغة اصطناعية: فالكاتب يريد أن يدلّل بذلك، لا شكّ، على مضاعفة الرسول مهمّته التبشرية وانطلاقته التعليمية إبّان أسره دون أن تتمكّن القيود من حدّ رسالته أو من حمله على التقاعس في أداء دعوته. لقد كان له الروح عوناً في الفترة التي كان فيها طليقاً، عندما كان يعظ ويبشّر بالكلمة متجوّلاً من منطقة إلى منطقة بين الأمصار المختلفة والأرجاء النائية. ولكنّ أزر الروح وعضده قد تضاعفا في نفس الرسول عندما أصبح أسيراً مكبّلاً ومقيّداً مسوقاً، إذ قويت فيه غيرته الرسولية وانفكّت عقال توجّسه خوفاً من الحالة التي صار إليها.
إنّ صنعة الكاتب الإنشائية قد سخرت لها أحداث التاريخ بغية البلوغ إلى مأرب. فانتقصت من الخطب حيث وَفُر عددها، وأفاضت منها سردا حيث ضألت. لذلك، تبرز الخطب في زيّ مصطنع. أوَ يُمكن، في الحقيقة، التسليم باعتماد بولس الرسول على خطب ثلاث في غزوه القسم الشرقيّ برمّته للإمبراطورية الرومانيّة؟ أوَ يُعقل أن يتمّ تأسيس كنائس في كل مدينة من مدن آسية الصغرى وأخائية ومقدونيا والوسيلة إلى ذلك خطب ثلاث؟ وكيف يمكن شرح انتصاب مناوئين عديدين لبولس في كلّ مدينة ومنطقة سار إليها في ظلّ وضع مثيل؟ إن نسبة خطب بولس غير المنقولة إلينا لأكبر، حسب اعتقادنا، من تلك التي نُقلت. وخير دليل على هذا التأكيد اكتفاء لوقا بذكر أسماء المدن التي بشّر فيها بولس، دون إيراد مضمون كرازته. لكن ثمّة أيضاً مؤشّراً آخر غير أسماء المدن المذكورة في السفر، يدلّ على نسبة أعظم لعدد الخطب البولسيّة غير المنقولة هو ما يذكره الكاتب بخصوص الوالي فيلكس، ألا أنه كان يستدعي بولس مراراً ليستمع إليه (24: 24- 26)، وبخصوص إقامة بولس أسيراً في مدينة رومة، التي أمضى فيها "سنتين كاملتين... مبشّراً بملكوت الله..." (28: 30- 31). ففي هذين الموضعين يظهر جلياً أيضاً كم يربو عدد الخطب البولسيّة غير المنقولة في سفر الأعمال.
لقد اكتفى لوقا في كتابه المذكور بإيراد غيض من فيض من الخطوب البولسيّة. وإذا كانت نسبة ما أورده لنا منها عظمى في ما بين مجموعة الخطب، فإنّنا لا نرى حرجاً في الجزم بأنّ ما بقي منها مطويّاً في الذاكرة ومكتوماً على العباد ليفوق بكثير عدد المعجزات في السفر. أليس هو الروح القدس من قال، في بدء انصراف الكاتب لوقا إلى الحديث عن رسالة بولس: "إفرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي ندبتهما إليه"؟ (أع 13: 2). وما تكون طبيعة ذاك العمل الذي اختصّ به الروح بولس ورفيقه؟ إنّه عمل التبشير، عمل إيصال الكلمة إلى شعوب الله.
لذلك، فإذ يولي بحثنا هنا اهتمامه دراسة خطب بولس في سفر الأعمال لا يغيب عن منظوره الواقع التالي: إن خطب بولس في كتاب أعمال الرسل نموذج مصغّر، بل كناية عن مقتطفات، قد ضمّنها لوقا مجلّده الثاني. وإذ هذه هي طبيعتها فإن الدراسة سوف تكبّ على نبش أهمية هذه المجموعة من الخطب بالنسبة إلى كتاب الأعمال؛ كما ستلحظ الدور الذي تمثّله في سياق الأحداث المسرودة في الكتاب نفسه. ذلك أنّ لوقا، في معتقدنا، كاتب لا مدوّن للأخبار. وهو ككاتب يسرد ما يهمّ القارىء أن يعرفه، ويعرض على ناظريه ما له دور في تبليغ رسالة كتابه. ويمكنه أيضاً، ككاتب، أن يدع جانباً عدداً وافراً من المواد التي لا تخدم غايته من إنشائه؛ وهذا عينه ما فعله الإنجيليّ لوقا.
1- أهميّة الخطب البولسية
تبرز أهميّة الخطب البولسيّة للقارىء على مستويات أربعة: فهو يجد منها، أوّلاً، أخباراً ومعلومات تفيده للغاية في معرفة تاريخ بعض الأحداث، قديمها الموغل في القدم وحديثها؛ أو، أقلّه، تضيء لديه العديد من مراحل التاريخ الخلاصّي. كما يمكنه، ثانياً، أن يقف من خلالها على المستوى البلاغيّ الذي كان يجيد بولس استعماله في خطبه؛ وذلك من خلال تحليل أدبيّ لنصوص هذه الخطب. كذلك، ففي وسع قارىء المواعظ البولسيّة التي يوردها لوقا في كتاب الأعمال أن يدرك، ثالثاً، أهميّتها على الصعيد اللاهوتي إذ تحتوي على أبرز النقاط الجوهرية للاهوت البولسي. وهو قادر، رابعاً وأخيراً، أن يلتقط من هذه الخطب شهادات حياة غاية في الأهمية بالنسبة إلى معرفة شخص الرسول، لما تتضمّنه في العديد من المواضع من إبلاغ وإفصاح مباشر عن حياة الرسول الخاصّة.
1- 1 المستوى التاريخيّ
يتردّد في العديد من خطب بولس إيضاحات ذات فائدة بالنسبة إلى التاريخ، منها ما يمكن الاعتماد عليه اعتماداً كبيراً لأجل معرفة وقوع بعض الأحداث وتحديد زمانها، ومنها ما يلتفّه الغموض لأسباب مختلفة.
فمن الأمثلة على غموض بعض الإيضاحات التاريخية التي تظهر في خطب بولس، والتي تكتسى بالرغم من ذلك أهميّة كبرى، ما يجزم به الرسول في 13: 20، مختصّاً بتحديد أربع مئة وخمسين سنة زماناً من تاريخ شعب إسرائيل. فقد حار النقلة في شأن ربط هذا التحديد بالحدث التاريخي الذي يكمن في ذهن بولس. وقد تجلّت حيرتهم في تعثّر النصّ الذي يحمل طيّه هذه العبارة في مختلف المخطوطات التي بلغت إلينا: فمنها ما يربط هذه المدّة بحدث إقامة الشعب في مصر في أثناء العبودية ويرى أنها تمتدّ، بالتالي، حتى عودته إلى أرض كنعان وفق الحساب التالي: (400 سنة في مصر "راجع 7: 6"؛ 40 سنة في صحراء سيناء؛ 10 سنوات في صراع مع سكان أرض كنعان قبل الاستيلاء عليها). لكنّ معنى النصّ الذي تعتمده أفضل المخطوطات اعتباراً (المخطوطة الفاتيكانيّة، والإسكندريّة، واللاتينيّة القديمة، والشعبيّة) يغدو إذّاك مؤكّداً على استمرار اعتبار أرض كنعان ميراثاً للشعب اليهودي طوال فترة العبودية في مصر.
بيد أنّ عدداً آخر من المخطوطات يربط مدّة الأربع مئة وخمسين سنة بحقبة القضاة الذين تولّوا إدارة شؤون الشعب في إسرائيل. فحسب. النصّ العبري لسفر القضاة، امتدّت فترة اضطلاع هؤلاء بمسؤولية الشعب أربع مئة وخمسين سنة. وقد بنى نقلة هذه الفئة من المخطوطات اعتبارهم على معطيات النصّ المباشرة، التي تتحدّث عن غربة الشعب في أرض مصر، وعن ترحاله مدّة أربعين سنة في البرّية. فاستثنوا هذين الحدثين من مدلولات التحديد الزمني، ورأوا أنه يدل على النقيض من ذلك على حدث إعطاء الله الشعب قضاة. ولكيما يستقيم اعتبارهم هذا، كان لا بدّ من إدخال تعديل على تركيب الجملة، فنقلوا عبارة "ثم، بعد ذلك" إلى ما قبل عبارة التحديد الزمني.
ومن الأمثلة الأخرى على غموض بعض الإيضاحات التاريخية التي تنطوي عليها خطب بولس تأكيده في 24: 17. ففي هذا الموضع، يلتبس التباسا معنى جزم الرسول بارتياده المدينة المقدّسة، بعد سنين كثيرة، لغرض القيام بصدقات لأمّته. فثمّة التباس أول حول تحديد الحدث الذي يقيس عليه بولس تأكيده أنّ سنين كثيرة قد انصرمت منذ وقوعه حتى قدومه الحديث العهد إلى المدينة المقدّسة، لصنع صدقات: هل هو حدث اهتدائه (أنظر غل 1: 18)؟ أم هو، يا ترى، حدث قدومه إلى المدينة مع برنابا حاملاً إلى الجماعة المسيحية فيها صدقات من مسيحيّ أنطاكية (راجع أع 11: 30)؟ وهناك أيضاً التباس ثانٍ في جملة بولس المذكورة أعلاه، يلفّ مدلول كلمة "أمّتي": فهل هذه تعني الجماعة المسيحية في أورشليم، باستثناء اليهودي؟ أم هي تتضمّن أيضاً الجماعة اليهودية؟
لا شكّ أنّ حضور بولس إلى مدينة أورشليم لأجل صنع صدقات، كما هو مذكور في الآية 24: 17، لا يكتنفه التباس. فهو الذي تمّ في آخر الرحلة الرسولية الثالثة. لكننا لا نعرف من كتاب الأعمال عن هذا الهدف من زيارة الرسول لمدينة أورشليم، في ختام رحلته الرسولية الثالثة. وجلّ ثقتنا وتيقّننا بمطابقة تأكيد بولس في الآية المذكورة أعلاه للواقع التاريخي مقتبس من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثس (16: 1- 4)، والثانية إليهم أنفسهم (8- 9)، ومن تأكيد في الرسالة إلى الرومانيين (15: 25- 26).
بيد أنّ في خطب الرسول معلومات تاريخية أخرى ذات فائدة كبرى، نظراً إلى ما تسديه من خدمة إلى البحث في سبيل إثبات بعض الحوادث زمنيّاً. ففي خطاب الوداع الذي يلقيه الرسول أمام شيوخ مدينة أفسس، بينما كان يقفل راجعاً إلى أورشليم بعد إذ أنهى جولته الرسولية الثالثة، يؤكّد هو نفسه إقامة سابقة له في مدينتهم مدّة ثلاث سنوات (أع 20: 30). إنه لغنيّ عن البيان جعل هذه الإقامة في إبّان رحلته الرسولية الثالثة (ف 13؛ أنظر خصوصاً 13: 8، 10، 22 ب). وبما أنّ بولس قد وقع في الأسر منذ نزوله أورشليم (أنظر 24: 11)، فإنّ إنشاء الرسائل إلى أهل غلاطية وفيليبّي وكورنثس (الثانية أيضاً؟) قد تمّ في أغلب الظنّ خلال هذه الإقامة الممتدّة ردحاً من الزمن في مدينة أفسس.
بل يمكن البحث المضيّ أبعد من ذلك في الإفادة من هذه المدّة. إن الآية 24: 27 تعلمنا أنه قد "انقضت سنتان عندما خلف فيلكس بركيوس فستس". وقد تسلّم هذا الأخير تقاليد الولاية على اليهودية في العام 60 م. فبولس، إذاً، قد أسر في فترة ما من بحر السنة 58؛ وهي السنة التي أتمّ فيها رحلته الرسولية الثالثة. فإذا ما أقمنا اعتباراً لتجوال بولس بين مقدونية وأخائية في بلاد اليونان خلال الأشهر الأولى من تلك السنة عينها، أو ربّما على الأرجح خلال الأشهر الأخيرة من السنة السابقة 57، أمكننا بالتالي الرجوع مع قسط كبير من اليقين إلى السنة 54 والإعتماد عليها للتأكّيد على وجود بولس في أفسس في تلك السنة، وطيلة المدة الفاصلة بينها وبين أواخر سنة 57 أو مطلع سنة 58. وفي الواقع، ثمّة شبه وإجماع بين علماء الكتاب المقدّس المختصّين في كتابات الرسول حول تاريخ تدوين الرسالة إلى الغلاطيين وإلى أهل فيليبّي والأولى إلى الكورنثيين ومكانها: فقد تمّ ذلك في أفسس، بين سنة 54 و 57.
ومن المعلومات التاريخية الأخرى ذات الفائدة التي نقع لها على أثر في خطب بولس مدّة حكم شاول، أول ملك على إسرائيل (13: 21). فالنصّ العبري (راجع 1 صم 13: 1)، منحاز، بلا شكّ، في تثبيته مدّة حكم شاول، إذ يقول عنه إنه ملك ابن سنة، ودام حكمه سنتين، في لهجة ساخرة. وربما سبب هذا التهكّم سيرة شاول نفسه ونهايته المفجعة والمُذِلّة في آنٍ معاً.. أمّا السبعينيّة فقد أعرض المترجمون فيها عن نقل مضمون الآية . إلى اللغة اليونانية، وآثروا إسقاطها إطلاقاً من متن النصّ. لذلك، فنحن نعرف مدّة حكم شاول بناء على خطبة بولس فقط، التي لهج بها في أنطاكية بيسيلية. لقد استمرّ حكم هذا الملك أربعين سنة. ونجد تأكيداً لذلك عند يوسيفوس المؤرخّ في أحد الموضعين اللذين يتحدّث فيهما عن شاول الملك، في مؤلّفه الشهير Antiquités. لكنّ يوسيفوس يذكر في الموضع الثاني، بطريقة متناقضة، أنّ شاول حكم اثنتين وعشرين سنة!
1- 2 المستوى الأدبي
للخطب البولسية أهميتها أيضاً على المستوى الأدبيّ، ومن شأن كلّ باحث في هذا المضمار ألا يغيب عن بحثه دراسة هذه الناحية؛ لأنها تكشف النقاب عن جانب مهمّ من شخصية رجل عرف أن يصبح بأسلوبه "رسول الأمم".
يتمتع بولس بإجادته استعمال فنّ الخطابة. فهو يتقن أساليبه المدرسيّة ويبرع في استقطاب اهتمام سامعيه إلى مناقشته؛ بل يتميّز تميّزاً بين خطباء سفر الأعمال بالاستحواذ على عقول الجموع المحتشدة لسماعه. إنه يعرف، مثلاً، كيف يستأثر بتعاطف المستعمين إليه من خلال الإهابة بهم بألفاظٍ يؤثرونها وبأسماء يشغفون بسماعها: فاليهود "إخوة" له (13: 26؛ 23: 1؛ 28: 17 ب)، وهم "إخوة وآباء" (22: 1)، و"بنو ذريّة إبراهيم" (13: 26). والأثنائيّون "في كل شيء أكثر الناس عبادة" (17: 2)، وفيلكس الوالي "قاضٍ لهذه الأمّة من سنين كثيرة" (24: 10 آ). وبخصوص هذا الأخير، يمكننا أن نلفت الانتباه إلى براعة بولس الخطابية إذ يضيف: "فلذلك أدافع في ثقة عن نفسي" (24: 10 ب). أما مقدمة بولس في دفاعه عن نفسه أمام الملك أغريبا فآية في تملّكه من فنّ الخطابة: "إنيّ أحسب نفسي سعيداً، أيها الملك أغريبا، لأني أحتجّ اليوم أمامك عن كلّ ما يشكوني به اليهود؛ ولا سيّما وأنت خبير بجميع ما لليهود من عادات ومماحكات. فأرجو منك إذن أن تصغي إليّ بطول الأناة" (26: 2- 3).
ففي جميع هذه الأمثلة يبرهن بولس عن تمالك للنفس أمام الحشود التي تستمع إليه. ويدرك تمام الإدراك كم ينبغي عليه من تركيزٍ لقوى العقل وتسخير لطاقات الكلمة وتوظيفٍ لسرعة البديهة حتى ينال بحديثه مبتغاه من كلامه ويجتاز بخطابه إلى أفئدة سامعيه.
علاوة على هذه القاعدة البلاغيّة، يمتاز أسلوب بولس الخطابيّ بقاعدة أخرى لا تنقص عنها أثراً في نفس السامعين إليه. إنها قاعدة إشراك المستمع بقضية المتفوّه من خلال رواية الوقائع التاريخية. ذلك أن سرد حوادث واقعية جرت في الماضي السحيق أو القريب ذات أثر ووقع هامّ في نفس المستمع، لأنها تحمله على مقاسمة المتفوّه موضوعه وتشركه في قضيّته التي يتعرّض لها فتدخله في عالمه، خصوصاً عندما يكون المستمع على اطّلاع على الأحداث التي يسوقها الخطيب. وفي حال جهل المستمع للوقائع التاريخية، لا يني أثر سرد هذه على مسمعه قائماً؛ إذ يجنّد لها طاقات عقله وقوى مداركه حتى يرى فيها الأهمية التي يراها الخطيب فيها، ما دام يلجاً إليها في حديثه.
وبولس، في خطبه التي ينقلها إلينا كاتب سفر الأعمال، يوظّف لنفسه هذه القاعدة البلاغية. ففي خطابه الذي ألقاه في مجمع أنطاكية بيسيذية يستعيد الرسول تاريخ الشعب اليهوديّ بمراحله المختلفة كلّها، منذ اختيار الآباء فالغربة في أرض مصر، ثم عبور صحراء سيناء ودخول أرض كنعان، حتى مجيء "مخلّص هو يسوع"، دون الإعراض عن ذكر القضاة وصموئيل النبيّ وشاول بين قيس، أول ملك على شعب إسرائيل، وداود بن يسّى الذي مدّه الله بالأزر والرضى (13: 17- 25)، ويوحنا الذي سبق مجيئه مجيء المخلّص.
وهو يطبّق أيضاً هذه القاعدة عينها عندما ينتصب أمام الأثنائيين في الآريوباغس خطيباً (17: 23). إلاّ أنّ المادة التي يتعرّض لها في سرده مقتضبة جداً هنا. ويعدّ هذا الاقتضاب وهناً في بلاغة الخطيب، حسب القواعد الكلامية. لكن بولس أرفع بلاغة من السقوط في خطاً مشابه، كما يمكن البرهان من مواضع خطابية أخرى. ولا بدّ من سبب يفسّر هذا النقص البلاغي في خطاب بولس أمام الأثنائيين. لذلك، ربّما يمكن نسب هذه الفجوة في خطاب بولس إلى حالته النفسية المضطربة، بعد إذ دعته نخبة من أئمّة العلم وفلسفة الكلام في المدينة إلى الحديث أمامهم عن موضوع كرازته. فأوجز في المقدّمة عن تسّرع وارتباك، وانهمك في إعداد أحاجيجه سعياً منه في إقناع الحضور كما يظهر ذلك جلّياً في الشطر الثاني من الآية 17: 23.
ونرى بولس يلجاً إلى الرواية أيضاً في خطابه الوداعيّ أمام كهنة الكنيسة في أفسس، المدعوّين. أساقفة (20: 18 ب- 22). وأجدر ما يجب الإشارة إليه في هذا المكان استعمال بولس القاعدة البلاغيّة في خطاب وداعيّ، لا يشكّل الإقناع فيه هدفاً. وفي ذلك دليل على الناحية الثقافية المستحكمة في شخصيّة الرسول، إذ هو يبني حديثه على قواعد كلامية بات الركون إليها أمراً طبيعياً، بل عفويّاً.
إنه من الممكن لنا التحقق من استعمال بولس لهذه القاعدة الكلامية في خطب أخرى. ففي دفاعه الأول عن نفسه أمام الشعب الثائر، بعد إيقافه في هيكل أورشليم، يتمكّن بولس من التقاط انفاس مناوئيه المستشيطين عليه غيظاً وحنقاً طوال فترة كلامه، بفضل ركونه إلى قاعدة الرواية (22: 1- 21). ويحصل هو أيضاً على النتيجة نفسها في دفاعه الثاني عن نفسه أمام الملك أغريبا، دون أن يدع الملل يتسّرب إلى نفس مستمعه (26: 9- 23). ويبدو عليه أنه كان على وشك الشروع بسرد روائي أيضاً في الخطاب الذي انطلق فيه مدافعاً عن نفسه أمام أعضاء المحفل في أورشليم، لولا مقاطعة رئيس الكهنة له بأمره أن يُضرَب على فيه (23: 1). وفي مناسبة المرافعة القضائية أمام الوالي فيلكس، يستعمل بولس هذه القاعدة الذهبية ذات الأثر السحري على المستمعين (24: 11-13). ولا يغفل عن الركون إليها أيضاً في مخاطبته رفاقه في المحنة، عندما كان متّجهاً أسيراً في البحر شطر رومة (27: 23- 24). كما نراه، أخيراً، يعتمد على سّر فتنتها عندما يلتقي اليهود في رومة لأوّل مرة فيشرع بعرض قضيّته على مسامعهم (28: 17 ب-20 آ).
في خطب بولس نواح أخرى عديدة لها أهميّتها على المستوى الأدبيّ. وكلّ دراسة تحليلية للخطب غير خليقة بأن تغفل عن الكشف عنها. وإذ ليس هدف بحثنا هذا التعرّض إلى تحليل خطب بولس تفصيلاً، بل الوقوف على إبراز أهميّتها على مستويات مختلفة فإننا نكتفي بما قدّمناه آنفاً على هذا الصعيد، معتبرين إيّاه كفيلاً بتأدية المرام.
1- 3 المستوى اللاهوتي
تأتي أهميّة دراسة الخطب البولسية في سفر الأعمال من كونها كتاباً مفتوحاً، يمكن الباحث أن يطالع فيه فكر الرسول اللاهوتي. هذا، أولاً، في مضمار الغوص بحثاً وتدقيقاً في الدراسات البولسيّة. لكن ثمّة جانباً آخر لأهميّة الدراسة من زاويتها اللاهوتية، ينجلي لنا في انطواء الخطب على فحوى الكرازة الرسولية القديمة العهد، التي استُعمِلت قالباً لنقل الديانة المسيحيّة الفتيّة إلى العالم الهلّينيّ- الرومانّي الوثنيّ. فعلى هذا المستوى من دراسة الخطب خصوصاً، تبرز لنا أهميّة هذه المقاطع في كتاب أعمال الرسل.
أوّل الأبعاد اللاهوتية التي تبرز بجلاء في خطب الرسول العظيم عقيدة الإيمان إيماناً راسخاً بقيامة الربّ يسوع من بين الأموات. فهذه النقطة هي صدىً، أولاً، لفحوى خطب بطرسٍ (أنظر 2: 22- 24؛ 3: 15؛ 4: 10؛ 5: 30 إلخ)؛ وهي تحتلّ، ثانيا، مركزا مرموقاً في خطاب بولس الأول حسب الترتيب الذي ينسّق وفقه لوقا خطب معلّمه بولس (13: 17- 41)؛ وهي ثالثاً حاضرة في باقي الخطب إمّا حضوراً جليّاً (17: 31؛ 26: 23)، أو منوّهاً به (20: 21) "بربّنا يسوع"، 28 "كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص".
وما يستحقّ حقاً الملاحظة في حديث بولس عن موضوع قيامة يسوع، واجتهاده في نقل هذه القناعة إلى المستمعين إليه، اعتماده موضوع رجاء الشعب اليهوديّ حلقة وصل. فهو يتكلّم، في الخطاب الأوّل الذي ذكرناه أعلاه، على تحقيق "الوعد الذي صار لآبائنا" (13: 32)، في قيامة يسوع من بين الأموات. فهذا الوعد الذي قطعه الله للآباء قد أصبح، إذاً، في نظر بولس، واقعاً حاصلاً بقيامة يسوع، واقعاً طالما رجاه الشعب بالإيمان. وحلقة الربط هذه بين رجاء الشعب اليهوديّ وتحقيق هذا الرجاء عينه بقيامة الربّ يسوع من بين الأموات نتيجة معادلة طرفاها رجاء الشعب اليهودي والإيمان بالقيامة:
قيامة يسوع= جاء الشعب اليهودي + الإيمان بالقيامة.
بناء على ذلك يمكن الاعتقاد بأن لجوء بولس في أحاديثه إلى الكلام على موسى والأنبياء أو لجوءه إلى موضوع القيامة ما هو سوى وسيلة بلاغية، أو مرحلة كلامية، في سياق الاستدلال الذي يسوقه الرسول أمام مستعميه. وفي الحقيقة، لا يمكن تخيّل بولس يثير مسألة كتب اليهود القديمة في أحاديثه وقد عُرف عنه ما عرف من أنه رسولٌ للديانة الجديدة ومبشٌّر غيّور بدعواها. وإذَا ما يخوض فيها فلا لغرض تفسيرها ضمن منظار الإيمان اليهوديّ وهو قد أمسى مسيحياً، بل لغرض تفجير معانيها ضمن منظار الإيمان الجديد. كما لا يمكن الاعتماد بأن بولس يهدف إلى نشر الإيمان بالقيامة إذا ما أثار هذه المسألة في أحاديثه أمام اليهود، لأنه سيغدو إذّاك مبشراً بالفريسية لا بالمسيحية. وبالتالي، ففي كلّ مرة يثير فيها بولس في كلامه مسائل الكتب القديمة أو يتطرّق إلى موضوع القيامة، إنما يجب سماعه وكأنه يعدّ أحاجيجه لأجل إقامة البرهان على أن الإيمان بقيامة يسوع من بين الأموات أمر منطقي ومطابق لقصد الله.
وهكذا، فإنّ دفاع بولس عن نفسه أمام الوالي فيلكس يبيّن بشكل واضح، ولكن بعبارة فيها الكثير من الحنكة الحكيمة، إيمان بولس بقيامة يسوع، بالرغم من عدم ذكر اسمه (أنظر 24: 14- 15). فمجاورة بولس إيمانه "بكلّ ما هو مكتوب في الناموس وفي الأنبياء" بكلامه علىٍ القيامة التي "سوف تكون... للأبرار والأثمة" تتضمّن اعترافاً منه مستتراً بإيمانه بقيامة يسوع من بين الأموات. وإلا، فما معنى إقراره، في الآية 14 آ، بأنه يعبد إله آبائه "بحسب الطريقة التي ينعتونها بدعة"؟ ما هي طبيعة "هذه الطريقة" الخاصّة بالرسول بولس غير أنها ترتكز إلى الإيمان بقيامة يسوع من بين الأموات؟
وفق هذا الخطّ التفسيريّ، يجوز لنا بالتالي فهم كلمة بولس في مقابلته مع يهود رومة: "فإنّي من أجل رجاء إسرائيل أنا موثق بهذه السلسلة" (28: 20 ب)، كأنها تعني: "من أجل الإيمان بقيامة يسوع من بين الأموات...".
لا شكّ، من ناحية، أخرى، في وجود أبعاد لاهوتيّة إضافية في خطب بولس كبُعد ظهورات الربّ (13: 31؛ 22؛ 26؛ 27: 23- 24)، وقصد الله أو تدبير عنايته (13: 17- 41؛ 17: 24- 31) وغيرها. ولكن، في غير مقدورنا الخوض فيها كلّها هنا نظراً إلى ضيق حدود هذه الدراسة، من جهة، وإلى تجنيب عملنا كلّ ميل إلى الإدّعاء الأعجم، من جهة ثانية.
1- 4 المستوى الشخصيّ
تبرز أهمّية الخطب البولسيّة أيضاً على مستوى المعرفة التي يمكن القارىء، أو الباحث، الحصول والاعتماد عليها بالنسبة إلى أحداث شخصية تمتّ بصلة إلى حياة رسول الأمم. لا شكّ أن مثل هذه الأهمية تمسي فريدة بل جوهرية إذا ما أمكن إقامة الدليل على علاقة مباشرة بين نصّ الخطب وشخصية الرسول، دون تدخّل للكاتب لوقا في صياغة أو إثبات ما فيها من شهادات وتأكيدات. لكن ذلك يقتضي تحليلاً دقيقاً ومسهباً لا يخلو في معظم مراحله من الافتراضات أو النتائج المتلكّئة، علاوة على تجاوز مثل هذا العمل مجال بحثنا وهدفه. لذلك، فنحن نخوض في غمار مناقشتنا لمختلف المستويات التي تختصّ بخطب الرسول ومسلمتنا علاقة مباشرة بينه وبين النصّ.
إنّ الخطب التي تفيد في معرفة بعض جنبات من حياة الرسول أربع هي: الخطبة في ميليتس أمام كهنة الكنيسة (18:20-35)؛ ثمّ خطبة دفاع بولس الأوّل عن نفسه في أورشليم أمام الشعب الثائر (22: 1- 21)؛ فخطبة الدفاع الثالث عن النفس، في قيصريّة، أمام الوالي فيلكس (24: 10- 21)؛ وأخيراً، الخطاب الذي دافع به بولس عن نفسه، للمرّة الرابعة، في قيصريّة، أمام أغريبا الملك وبحضور فستس الذي خلف فيلكس الوالي (26: 2-29).
يخيّل للقارىء، لدى قراءته خطبة بولس في كهنة الكنيسة في ميليتس، الذين جاءوا إليه من أفسس بناء على دعوته لهم، أن الرسول يرجع بالذاكرة في حديثه إلى رحلتيه التبشيريّتين السابقتين اللتين قام بهما إلى "آسية"، وأنّ تأكيده خدمة "الربّ بكل تواضع، في الدموع وفي البلايا" (20: 19) يختصّ بكل ما خبره الرسول في أسفاره من محنٍ ونوايا. هذا المعنى المزعوم لحديث بولس ناجم عن فاتحة الكلام: "أنتم تعلمون كيف كانت سيرتي معكم كلّ الزمان، منذ أوّل يوم دخلت آسية" (20: 18).
وفي الحقيقة، يجب ألا يغيب عن عيني القارىء أن المستعمين إلى خطاب بولس هم كهنة الكنيسة القائمة في أفسس حصراً، كما يتّضح ذلك من الآية 20: 17؛ وأنّ الرسول، من ناحية أخرى، يخاطبهم هم الحاضرين أمامه على امتداد كلامه وفي كلّ تفاصيله. وبالتالي، فإنّ تعبير "آسية" الذي يرد على لسان الرسول إنما يدلّ في أول معانيه على مدينة أفسس، من باب تسمية الجزء بالكلّ، ولاسيّما وإن أفسس مدينة المقاطعة المدعوّة "آسية". فلا يصحّ، نتيجة لهذا المعنى، تخيّل الرسول ينوّه إلى رحلتَيه الرسوليّتين الأولى والثانية وكأنّ كلمة "آسية" تشير على فم الرسول في خطابه إلى مقاطعات آسية الصغرى (فريجية، بمفيلية... إلخ).
إلاّ أنّ ثمّة في تضاعيف الخطاب ما قد يضفي على كلمة "آسية" مدلولاً جغرافياً يتعدّى حدود مدينة "أفسس". ففي الآية 20: 25، قد يُظنّ أنّ بعض الحاضرين الوافدين على بولس للاستماع إليه لا يقيم في أفسس، ولا عرف البشارة الرسوليّة في هذه المدينة. ويُستدلّ على هذا المعنى الواسع لكلمة "آسية" من مدلول العبارة "... مررت في ما بينهم...". وبالتالي، يترتّب على هذا التفسير تصوّر آخر لتأكيد الرسول في الآية 20: 19، ألا أنّ البلايا والدموع التي تعرّض لها والتي يثيرها في خطابه الوداعيّ هذا تمتدّ لتشمل عمله في مدن المقاطعة المذكورة الأخرى (كولسيّ، ثياتيرة، إزمير... إلخ)، لا في مدينة أفسس وحسب. ولكنّ الكاتب لوقا لم يخبر في كتابه عن أتعاب الرسول ومضايقاته إلاّ ما عاناه في مدينة الأفسسيّين.
من الواضح، أولاً، أن التفسيرين متّفقان على استثناء الرحلتين الرسوليّتين الأولى والثانية من اعتبارهما، وعلى الاكتفاء بحصر البلايا (20: 19) والدموع (20: 19، 31) التي يذكرها الرسول بإطار الرحلة الرسولية الثالثة. وهما متفقان، ثانياً، على معاناة بولس في أفسس كما يشهد على ذلك تقرير لوقا في أخبار رحلة الرسول الثالثة، ولا تتفاوت نظرتاهما إلا في ما يختص برسم حدود تعبير "آسية"، فترى النظرية الأولى حصرها بمدينة أفسس، فيما ترى النظرية الأخرى اتساعاً أكبر حتى تشمل حدود المقاطعة.
مهما كان شأن تخوم "آسية"، فالأمر الذي نهتمّ له في دراستنا "البلايا" و"الدموع" التي يتكلّم عنها الرسول في خطابه الحميم والوداعيّ. لا شكّ في أن ما يفيدنا به لوقا منٍ أخبار الرحلة الثالثة بشأن ثورة الصاغة في أفسس يمكن اعتباره مرجعاً يذكّر به الرسول من خلال استعماله هاتين الكلمتين. بيد أن صيغة الجمع في اللفظتين لا تطيق شكّاً: إنها تدل بكل صراحة على حوادث عدة مؤلمة. فأين يمكننا الاهتداء إلى وقائع تنير لنا غموض العبارتين وصمت لوقا؟
لقد أشرنا سابقاً إلى مبادرة بولس بتدوين رسائله إلى أهل غلاطية وفيليبّي والرسالة المعروفة كأنها الأولى إلى أهل كورنثس لدى إقامته المطوّلة في أفسس (راجع ص 368)؛ فلا بدّ من اكتشاف آثار فيها توضح علينا خفيات الأحداث الكامنة في لفظتي "بلايا ودموع". وفي الواقع، تتّسم الرسالة إلى أهل غلاطية بطابع ألم مرير حرّ في نفس الرسول نتيجة انقلاب المبشَّرين هناك على رسولهم وانكفائهم إلى طريقة أخرى. وما يرد في خاتمة الرسالة (6: 17) دليل قاطع على اختبار الرسول "بلايا" شتّى قد بقيت بعض آثارها على جسده.
كذلك الحال بالنسبة إلى جوّ الرسالة إلى أهل فيليبّي. فعلى الرغم من تعابير الفرح المبعثرة في سطورها تظلّ رسالة قد دوّنت وبولس قابع في سجن (أنظر 1: 7، 13، 14، 17). بل إنّ بعض التعابير تعكس جيداً صورة نوازل حديثة العهد قد ألمّت بالرسول (1: 2؛ 4: 14).
ولا يختلف الشعور حيال الرسالة الأولى إلى أهل كورنثس، لكنّ المصائب التي تتبدّى لنا من خلال قراءة هذه المراسلة تحمل على رؤيتنا فيها أسباب "دموع" للرسول بولس (5: 1- 2؛ 6: 8... إلخ).
لا ينبغي فهم "دموع" بولس في معنى تخاذليّ أمام الشدائد بقدر ما يجب النظر إليها من وجهة الغيرة الرسولية المتأجّجة في صدر هذا الرجل. فليست دموعه التي يذكرها ناجمة عن ضعف طبعيّ أو عن شعور مرهف تجاه إهانة أو عن حصوله في فاقة أو شدّة. فهو يذكر في نواحي عدّة من رسائله تخطّيه مثل هذه المكدّرات (رو 8: 35؛ في 4: 11- 12؛ 2 كو 4: 8- 10 إلخ)، مظهراً صلابة لا تقهر. لكن دموع بولس مدفوعة بدافع تجابه إخلاصه واندفاعه واستقامته ونزاهته بواقع التألّب عليه أو التصدّي له "عن منازعة وعجب". لقد كان يؤلمه رؤيته من أعطاهم نفسه وأتعابه ومن خدمهم وأحبّهم ينصرفون عنه إلى ترّهات أخرى.
أمّا في ما يختص بالخطب الأخرى التي يمكن الإفادة من معطياتها على المستوى الشخصي لحياة بولس فإنه يسعنا التقريب بين دفاع الرسول الأول عن نفسه، في أورشليم، أمام الشعب الثائر (2: 1- 21) ودفاعه الأخير الذي قام به أمام الملك أغريبا، في قيصريّة (26: 2- 29). ففي كلا الخطابين تقرير مباشر عن اهتداء بولس إلى الإيمان بالمسيح وتأكيد على اضطهاده الديانة الجديد في مرحلة أولى. أضف إلى ذلك أنّ الرسول يكشف في لوحات سريعة، إمّا في الخطاب الأوّل أم الثاني، عن بعض جنبات شخصية من صباه، مثل تلقّيه العلم وهو بعد حدث يافع، وتربّيه على المذهب الفريسي في أورشليم.
وأمّا في ما هو من أمر خطابه أمام الوالي فيلكس (24: 10- 21) فيختص بمعرفة سلوك بولس في أورشليم، بعد إذ قصد المدينة، في ختام رحلته الرسولية الثالثة. لقد كفّ الرسول عن التبشير بيسوع في ما بين اليهود (الآية 12)، ونزل عند رغبة "الإخوة" بالتزامه فرائض التطهير (الآية 18؛ أنظر 21: 24) في الهيكل. وهذا الجانب مهمّ في زيادة معرفتنا بشخصية بولس الرسول. فهو، على الرغم من مواقفه المتشدّدة حيال اليهودية، لا يبدو عليه حرج في السلوك بمقتضيات شعائرها، في أورشليم. وعلى الرغم أيضاً من اتخاذه قراراته بنفسه، متصّرفاً كرأس، يذعن لرغبات "الإخوة" الذين أشاروا عليه بالحذر والفطنة. وعلى الرغم من جعل المسيح يسوع موضوعاً رئيسياً في مجادلاته وغاية في أحاجيجه كلّها، يرفق بجوّ "الإخوة" الذين في أورشليم فلا يطرق الموضوع في دفاعه أمام الوالي كيلا يجرّ عليهم الويلات من اليهود.
ليست خطب بولس في سفر الأعمال الموضوع الوحيد الذي يمكن البحث فيه عن جوانب شخصية لحياة الرسول؛ إذ هناك أيضاً الرسائل. بيد أنّ أهمية الخطب تبرز، في هذا المجال، من حيث كونها وثائق إضافية تدعم ما يتراكم مبعثراً في صفحات الرسائل البولسيّة، من جهة، ممّا يختص بحياة رسول الأمم؛ وتكمّل ما يرد في هذه الأخيرة، من جهة ثانية.
2- دور الخطب البولسية في نظر لوقا
ثمّة بعض ملاحظات لها وزنها بشأن الخطب البولسية كما يوردها لوقا في كتابه الثاني، هي التي قادت بحثنا في هذا الاتجاه من الدراسة. فقد نوّهنا في مطلع هذا البحث إلى عدد الخطب المصطنع في الكتاب وإلى توزيع الخطب وفق تصميم معه للكاتب، الذي جعل لكلّ رحلة رسولية خطابها بشكل لا يتوافق والمنطق العاقل ولا يتماشى والواقع التاريخي. وهنا نريد أن نثير ملاحظات أخرى تتعلّق بخطب القدّيس بولس سعياً في ترسيخ القناعة بدورها الخاصّ الذي نالته في منظار الإنجيلي الثالث.
يلاحظ في أول خطاب يورده لوقا على لسان بولس (13: 17- 41) إطاره اليهودي: فهو يجري يوم السبت، في مجمع مدينة أنطاكية بيسيذية، "بعد تلاوة الناموس والأنبياء". وينبسط كلام بولس في خطابه الأول هذا على طريقة المعلّمين اليهود الذين يقيمون الأدلّة على ما يودّون تعليمه انطلاقاً من تاريخ الشعب ومن نصوص الكتاب. كذلك، يلجاً بولس في استدلالاته التي يعرضها أمام سامعيه إلى أساليب الكلام الربّانية، كما هو الحال مثلاً في الربط بين استشهاد الآية 13: 34، المأخوذ من أش 55: 3 حسب نصّ الترجمة السبعينيّة، واستشهاد الآية التالية 13: 35، المأخوذ من المزمور 16: 10 حسب نصّ السبعينيّة أيضاً. ففي بلاغة المعلّمين اليهود، يجوز إقامة الدليل على مسألة ما بناء على ما يرد في آيتين مختلفتين إذا ما ربط بينهما رابط. وإذ يرد اسم داود في الآية أش 55: 3، ويُعتبر هو نفسه كاتب المزامير، فإنّ الربط قائم بالتالي بين تلك الآية من سفر أشعيا والآية 16: 10 من سفر المزامير.
أما في الخطاب الثاني الذي يورده لوقا في كتاب الأعمال (17: 22- 31) فالإطار كلّه هلّيني، إمّا على صعيد الموضوع وإمّا على 19). وما يسترعي الانتباه بشأن هذا الخطاب إخفاق الرسول الذريع.
لكنّ ما يميّز الخطاب الثالث حسب تصنيف لوقا (18:20-35) فالجو المسيحي الذي يغمره: فالكلام موجّه إلى "أساقفة"؛ وفيه ترداد لكلمات لا يعرفها سوى المؤمنين بالديانة المسيحية، مثل "الروح القدس" (20: 23، 28)، و"ربّنا يسوع" (20: 21، 24)، و"كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص" (20: 28)، وغيرها.
وبالتالي، فالخطب الثلاث الأولى، ذات الصلة بالرحلات الرسولية، تتعاقب وفق نظرة معيّنة تأخذ بالاعتبار واقعاً دينياً قائماً، هو واقع اليهودية والوثنية والمسيحية، من جهة، ثم واقعاً إسكاتولوجياً بسبب العلاقة الناشبة بين الجماعة البشرية وتجاوبها مع التبشير بالكلمة، من جهة أخرى.
يعقب خطب الرحلات الرسولية مجموعة مؤلّفة من أربع خطب يربط بينها كلّها طابعها الدفاعي. وتنقسم هذه الرباعية اللوقاوية إلى ثنائيّتين، بناء على مسرح الأحداث: فالخطابان الأوّلان يجريان في أورشليم، أحدهما أمام الشعب (22: 1- 21)، والثاني أمام المحفل (23: 1- 9)، بينما يحصل الخطابان الآخران في قيصرية، الواحد أمام فيلكس الوالي (24: 10- 21)، والثاني أمام أغريبا الملك (26: 2- 29).
ثمّة بعض ملاحظات أخرى توطّد القناعة بتقسيم الكاتب مجموعة الخطب الدفاعية هذه وفق رؤية معيّنة: إنّ الخطابين الأوّلين بقيا مبتورين، إذ تمّت مقاطعة بولس في كلّ منهما، بينما الخطابان الآخران كاملان. موقف المستمعين إلى بولس عدائي في الخطابين الأوّلين، بينما هو موقف متسامح في الخطابين الآخرين. في الخطابين الأوّلين يبرز بولس مدافعا عن نفسه أمام بني قومه ودينه، بينما يقف في الخطابين الآخرين أمام أناس دخلاء على اليهودية في منبتهم، وما صاهروها إلاّ لغاية انتفاعية. الخطاب الدفاعي الأول (22: 1- 21) والأخير (26: 2- 29) حدّان يتقابلان في هذه الرباعية من الخطب، إذ يعرضان كلاهما خبرة بولس الشخصية في اكتشافه الديانة الجديدة.
وبالتالي، فالخطب الدفاعية الأربع تؤلّف مجموعة متكاملة لها طبيعتها المميّزة التي تفصلها عن المجموعة السابقة لها، الثلاثيّة الخطب. إنهّا منسّقة هي الأخرى حسب نظرة معيّنة لا تغيب عنها أبعاد لاهوتية محدّدة، كالبعد الإسكاتولوجي الذي يبرز بروزاً في دينامية تاريخية، والبعد الرسولي من حيث هو إدلاء بالشهادة، دون وجل. ومن ناحية أخرى، يتوازى مع هذه الأبعاد اللاهوتية لتنسيق الخطب منظار زمني، إذ يبدو بولس يقف تباعاً أمام الشعب مدافعاً عن نفسه، فأمام "رؤساء الشعب" في المحفل، ومن ثم أمام الوالي فيلكس ففي حضرة الملك أغريبا. هذا المنظار الزمني لدفاع بولس عن نفسه في خطبه الأربع يبدي بجلاء اهتمام العالم بقضية هذا الرجل الفذّ.
يلي هاتين المجموعتين من الخطب خطبتان أشدّ ما يقارب بينهما حدوثهما في زمان الأسر الذي انتهى إليه الرسول: أولاهما موجّهة إلى رفاق بولس والبحّارة الذين معه في السفينة (27: 21- 26)، فيما الثانية منهما موجّهة إن أعيان اليهود القاطنين في رومة، وإنّما في مرحلتين متباعدتين في الزمن (28: 17- 20، 25-28). إن كل محاولة تهدف إلى الكشف عن عوامل مشتركة بين هذين الخطابين بائسة.
إنطلاقاً من كلّ ما سبق عرضه من ملاحظات بشأن إيراد الخطب البولسية على النحو الذي تظهر فيه، يمكننا الخلوص إلى تأكيد خطّة أو رؤية لدى الكاتب الذي نسّقها في شكلها الحالي. فهو يضرب، من ناحية، على وتر لاهوتي يصدح شغفاً بالكلمة المعلنة والمنتشرة على اطّراد، ويلمس، من ناحية ثانية، حبل الوقائع. لذا، كان لا بدّ لنا من طرق هذين المستويين أيضاً للخطب في دراستنا دورها الذي خُوِّلَت إيّاه على يد الكاتب لوقا.
2- 1 الرؤية الإسكاتولوجية للخطب البولسية
لا بدّ لنا، في بداية كلامنا، أن نلقي ضوءاً على مفهوم عبارة "رؤية إسكاتولوجية"، قبل أن نشرع في الدلالة عليها عبر خطب الرسول بولس الواردة في سفر الأعمال. إنّ لفظة "إسكاتولوجية" تعني الكلام على المنتهى، أي التبصّر في نهاية الموجود المرئي، والمحسوس المختبر، لا كأنه قد اضمحلّ وزال إلى غير عودة، بل كأنه قد صار إلى حالة أخرى من الوجود، هي حالته "الأخيرة" التي أُعدّ لها ليكون فيها. لذلك، لا وجود للعدم في منظار الإسكاتولوجية، ولا انقطاع في الزمن حسب مفهومها بالنسبة إلى الموجودات. بل على العكس من ذلك، فما تتميّز به التواصل بين مرحلتي الوجود للموجودات، مرحلة الوجود المرئي ومرحلة الوجود غير المرئي. وهذه المرحلة الثانية، التي تؤلّف مرحلة الختام بالنسبة إلى الموجود، في ديناميّة كينونته في الوجود، هي التي أضفت اسمها على الكلام في هذا الخصوص.
و"الرؤية الإسكاتولوجية" هي إظهار المعتقد بمنتهى الموجودات في نصوص موضوعة للإخبار أو التعليم. ففي الأناجيل نصوص مثلاً، ذات رؤية إسكاتولوجية، قد وُضعت بقصد التعليم (تشابيه الملكوت، التطويبات)، ولْصوص أخرى قد وُضعت في إطار روائي (أحاديث الوداع الأخير في العشاء، تنقّلات يسوع بين الجليل واليهودية، الظهورات). فإذا ما طالع أحدنا هذه النصوص وأمكنه استجلاء البعد الإسكاتولوجي فيها يجزم في شأن رؤية كاتبها الإسكاتولوجية. أما في ما هو من أمر خطب الرسول بولس فهذا ما سنحاول تبيينه.
إنّ خطب المجموعة الأولى الثلاث، التي دعوناها خطب المرحلة الرسولية، تتوافق فيما بينها في طريقة بسطها: إنها ترتكز كلّها على عرضت تاريخيّ لأحداث قد باتت الآن قائمة. فالخطاب الأول يسهب في استذكار ماضي الشعب اليهودي (13: 16- 25)؛ ويصوّر الخطاب الثاني عمل الله في الكون (17: 22-28)؛ ويفيض الخطاب الثالث في الكلام على كرازة بولس في ما بين أهل آسية (20: 18- 24). وتتوافق أيضاً في نقطة ثانية، عندما ينتقل العرض من بسط أحداث الماضي إلى الكلام على الزمان الحاضر (13: 38؛ 17: 30؛ 20: 25)، هذا الزمان الذي يكتسب فيه الخطيب والمستمعون أبعاد وجودهم على حدّ سواء. ثم تتوافق هذه الخطب ثالثة فيما بينها عندما تحمل إنذاراً أو تحذيراً إلى السامعين (13: 40؛ 17: 30؛ 20: 28)، لا يمكن تعليله إلاّ ضمن منظار المسؤولية الملقاة على عاتق كلّ واحد منهم. لكنّ هذه المسؤولية المثارة ضمنيّاً بالتحذير ليست مسؤوليّة تجاه الماضي، بل مسؤولية تنبت في الزمن الحاضر وتمتدّ إلى المستقبل. أمّا علاقتها بالماضي فليست بمستثناة؛ لأنها تجد فيه علة لقيامها وحافزاً لانطلاقتها، وقناعة بضرورتها.
بناء على ذلك، يمكن القول إنّ في الخطب الثلاث رؤية معيّنة، ما دامت الأحداث فيها تظهر وفق دينامية معينة. فالماضي مهم بالنسبة إلى الحاضر، لأنه يحفزه نحو رسم المستقبل. وأهمية الماضي موجّهة نحو الزمن الحاضر، بالقدر الذي ينجلي فيه له معناه. فلا بدّ إذا من تقصيّ مدلول الأحداث التي جرت في الماضي؛ ثم لا غنى عن قرارتها قراءة تفيد اليوم الحاضر. كذلك الأمر بالنسبة إلى المستقبل، فأهميته نابعة من التزام جانب المسؤولية في الزمن الحاضر، وإلاّ ما كان هناك أبداً من معنى للمستقبل. فالحاضر الذي يمرّ على الإنسان دون أن يعي هذا ما يتوجّب عليه فيه من مسؤولية لا يستحق أن يُدعى حاضراً، إذ لا يلبث أن يغدو ماضياً عفاه الزمان في برهة. لذلك، يتخذ التحذير في الخطب الثلاث الآنفة الذكر ملء الأهمية وكل ثقل الخطاب، لما يُبرز من دور للزمن الحاضر. فبعد أن استقرأ الرسول الماضي ينبّه إلى مسؤولية الزمن الحاضر وعيناه مصوّبتان إلى مستقبل آتٍ لا محال. هذه الرؤية التي تتكشّف في مجموعة الخطب الرسولية الثلاث هي رؤية إسكاتولوجية.
أمّا بالنسبة إلى خطب المجموعة الثانية الأربع، التي دعوناها خطب الدفاع عن النفس، فالرؤية الإسكاتولوجيّة التي فيها ملونة بطبيعة الخطب. فإذ إنّ هذه الأخيرة منصبّة بكلّيتها على شخص الرسول تتبدّى الرؤية الإسكاتولوجية للخطب في رؤية الرسول الخاصّة إلى سلوكه. وفي رؤية الرسول هذه خير برهان على وجود رؤية إسكاتولوجية للخطب البولسية، لأنها تظهر آنذاك كنقطة إيمان راسخ في معتقد الرسول وكحجر زاوية في بناء عمله الرسولي. مثل هذا الإيمان الراسخ بالبعد الإسكاتولوجيّ للعمل الذي يقوم به بولس ظاهر في العديد من المواضع الأخرى في رسائله (إقرأ رو 2: 6-8؛ 5: 21؛ 1 كو 6: 3؛ 9: 25؛ 2 كو 4: 18 إلخ).
ففي خطب المجموعة الثانية الدفاعية، يعرض بولس قضيته أمام أولي الحلّ والربط جاعلاً من حياته الشخصية بمراحلها المتعدّدة محوراً لها، حتى إنّ المعضلة القضائية، إذا صحّ التعبير، تغدو في نظر السامعين إليه مسألة اختيار شخصيّ، أو قرار التزم فيه هو قولاً وعملاً. ولكن بولس في عرضه لا يتوانى عن ذكر الانقلاب العنيف الذي حدث في حياته بين مرحلة الغيرة الفريسية التي جرى بموجبها في فترة ما ومرحلة الغيرة المسيحية التي انقاد لها أيضاً. وإن بدا غياب هذه النقطة عن سياق الخطاب أمام المحفل (23: 1-9)، فما مردّ ذلك إلا إلى تدخّل رئيس الكهنة السافر والعنيف الذي قاطع بولس في كلامه فأمر أن يُضَرب على فيه. بيد أن الاستهلال الذي افتتح به الرسول خطابه (23: 1) يخفي تهيّؤه إلى خوض غمار الكلام على مراحل حياته، على نحو مماثل لباقي سرده في الخطب الدفاعية الأخرى.
وما تجدر ملاحظته بشأن ذكر الرسول بولس مرحلتَي حياته الواقفتين على طرفَي نقيض الواحدة من الأخرى غيرته المتّقدة في فترة كلّ من تينك المرحلتين. ففي الفريسيّة تصّرف باندفاع وعن قناعة راسخة بحسن ما يعمل، متمسّكاً تمسّكاً حريصاً بما يمليه عليه ضميره، وبارى في مضمار الأمانة لسنن الآباء. وهو قد أكنّ للمذهب الفريسي دوماً احتراماً حتى افتخر به في معرض التصدّي لمفاخرات مناوئيه العداء، بعد كفّه عن السير بموجب قوانينه (راجع في 3: 5- 6)، ولم يرعوِ عن المجاهرة بالانتماء إليه لدى وقوفه في محفل اليهود، في أورشليم، مدافعاً عن نفسه، إذ نادى بمحاكمته على أساس ما فيه من معتقد (23: 26 ب). وفي المسيحيّة، هي الغيرة ذاتها التي اعتملت في نفس بولس، والتجاوب عينه مع حماستها، والاندفاع نفسه الذي انصاع له سابقاً كفرّيسيّ. وهذا الجانب من التساوي في الغيرة بين مرحلتي الحياة بادٍ في خطب هذه المجموعة الثانية. وقد عبرّ عنه أيضاً الرسول في خطابه أمام المحفل خير تعبير بهذه العبارة: "... لقد تصّرفت أمام الله، حتى اليوم، بكلّ نيّة صالحة". هذا التأكيد يختصّ لا بمرحلة حياة بولس في المسيحيّة، بل في الفريسيّة أيضاً.
إنطلاقاً من رؤية الرسول الخاصة هذه إلى سيرة حياته تبرز رؤية إسكاتولوجية متأصّلة إلى الحياة في إطارها الشامل. إن حياة كل إنسان مقسّمة إلى مراحل زمنية، قد تطول إحداها وتقصر الأخرى؛ وقد تسكن في بعض أجزائها وتعصف في بعضها. بيد أن السلوك الملتزم في كل مرحلة من هذه المراحل هو الذي يضفي على تلك المرحلة المحددة بُعد الحاضر، أي البعد الذي يكشف قيمة الحياة بالنسبة إلى صاحبها ونظرته الدينية إليها، كما سبقنا أعلاه فأشرنا إليه. وبالتالي، فالسلوك الملتزم هو مقياس ثابت لتحديد العلاقة بين سيرة ورؤيتها الإسكاتولوجية. وهذا يصحّ إمّا في حال التأكيد على وجود هذه الرؤية الأخيرة، وإمّا في حال الجزم بانتفائها.
ولكن، لا بدّ من التنبيه إلى أمرين: الأول احتمال امتداد السلوك الملتزم لا على مرحلة فقط، بل على مجمل الحياة؛ وفي هذه الحالة تبقى الرؤية الإسكاتولوجية قائمة، طالما الالتزام مرادف لسلوك بحسب الضمير، أمام الله. إن سحابة الحياة، آنئذ، تضحي حاضراً فيه يعمل الإنسان عملاً ملتزماً قياساً إلى رؤية معيّنة لديه للبعد الإسكاتولوجي للحياة. أما الأمر الآخر فيتعلق بحدوث انقلاب حاد في حياة الشخص. في هذه الحالة، يتمّ الحديث عن التزام أو سلوك جارٍ في مراحل. فالالتزام الذي انقضى الإنقلاب عليه يغدو ماضياً، والسلوك الجديد الذي قيّض له أن يبزغ إلى حياة إنسان بالانقلاب يُسمّى حاضراً. ولكن، لا بدّ لهذا الالتزام الجديد الذي نجم عن انقلاب في الرؤية إلى الحياة من أن يراعي صوت الضمير، أي صوت الاستجابة بإخلاص نيّة إلى نداء الله، دون أي تشويش قد يطرأ من مصادر مختلفة. ففي هذه الحالة أيضاً، حالة حدوث انقلاب في التزامات أمرىء، تبقى الرؤية الإسكاتولوجية قائمة ما دام هناك حاضر جديد يمكن الإنسان فيه أن يسعى سعياً من أجل تجسيد رؤيته إلى معنى الحياة.
إنّ بولس الرسول قد خبر الرؤية الإسكاتولوجية من هذه الوجهة الثانية. فمن فريسيّ ملتزم أمسى مسيحياً ملتزماً. أمّا صوابية الانقلاب في الاتجاه الصحيح فيعطيها هو نفسه، إذ ينسب اهتداءه إلى تدخّل مباشر من يسوع في حياته. هذا ما يشهد به الرسول في دفاعه الأول (22: 1- 21) والأخير (26: 2-29). أمّا في الدفاع الثالث فينسب بولس صحّة معيار انقلابه إلى أن "يكون له دائماً ضمير بلا عيب، أمام الله والناس" (24: 16). وأمّا في خطاب دفاعه الثاني (23: 1- 9) فالحديث عن انقلاب وعن معياره غائب، بسبب مقاطعة رئيس الكهنة له.
أمّا في الخطابين الأخيرين (27: 21- 26؛ 28: 17- 20، 25- 28)، اللذين يقفل بهما لوقا مجموعة الخطب البولسية في كتاب الأعمال فتتخذ الرؤية الإسكاتولوجيّة منحى الإيمان بصدق أقوال الربّ الموحى بها على ألسنة مرسليه. ففي هذا الإيمان تعبير عن الاستسلام لمشيئة الرب الذي يَعِد فيحقّق، ويكشف عن إرادته فينتظر جواباً.
تتجلى الناحية الإسكاتولوجيّة في هذا الضرب من الرؤية على جانب كبير من العمق الإيماني، لأن الإنسان يبني سلوكه في زمانه الحاضر على صدق وعود الله في الماضي، ويقيم على الرجاء الوطيد واليقين الثابت بأمانة الله لوعوده، أي بتحقّقها في التاريخ. فالثقة التامة التي يوجد فيها الإنسان تجاه أحداث الزمان الحاضر بأنها ستؤول، دوماً، إلى الخير وإلى تتميم قصد الله هي قياس رؤية إسكاتولوجيّة أيضاً. وما العمق الإيماني الذي يميّز هذه الرؤية الإسكاتولوجيّة الفريدة سوى القدرة على الثبات في هذه الثقة (إقرأ 27: 25 ب؛ 28: 25 ب).
إننا نجد صعوبة جمّة في الاعتقاد بأن لوقا قد قرن جزافاً هذا النوع الثالث للرؤية الإسكاتولوجيّة بخطابي الرسول الأخيرين. فالوضع الذي يوجد فيه بولس، أولاً، في أثناء إلقائه هذين الخطابين، هو وضع الأسر؛ ومن الصعب على المرء أن يركن عادة في مأزق كهذا إلى رؤية الإيمان فيستكين لمشيئة الله بثقة تامة فيه. وبالتالي، فإن لوقا يريد أن يبيّن لنا ثبات إيمان الرسول بحسن تدبير الله من خلال رؤية إسكاتولوجيّة سامية. والظرف الذي يجتازه الرسول، ثانياً، في أثناء هذين الخطابين بائس لا يشجّع: لقد رفض البحّارة التجاوب مع بولس (27: 21)، كما رفض بعض اليهود أيضاً التجاوب مع موقفه (28: 24). لكن خذل الظروف لم يَزِد بولس إلاّ إيماناً بقصد الله. وهذا عينه ما يريد لوقا أن يقيم أيضاً الدلالة عليه.
بعد هذه الاستفاضة في التحرّي عن الرؤية الإسكاتولوجيّة في خطب الرسول، يمكننا الجزم بأنها لم تخلُ يوماً من حياة القديس بولس الذي تقيّد بها دوماً في كل مراحل حياته. لقد شغلت له فكره، ووجّهت قراراته وقادت خطواته، فأوحت له أخيراً أن يقول معبرّاً عنها: "لا، أيها الإخوة، لست أحسب أنيّ قد أدركت الغاية، إنّما أمر واحد أجتهد فيه: أن أنسى ما ورائي وأمتدّ إلى أمامي، ساعياً نحو الأمد، لأجل الجعالة العلويّة التي دعانا الله إليها، في المسيح يسوع" (في 3: 13- 14).
2- 2 الخلفيّة التاريخيّة- الدينية للخطب البولسية
كان الهدف من دراسة الرؤية الإسكاتولوجيّة للخطب البولسيّة إظهار دورها في سياق كتاب أعمال الرسل. إن أهمّ ما تتميّز به هذه الرؤية انفتاحها الدائب على المستقبل، وطاقتها على إيثار العمل على الجمود أو الاستسلام الخامل. وهي، إذ ترتسم في الخطب البولسية، تسهم في إعطاء البشارة زخماً وتبرز دور الخطب في دفع عجلة الكلمة حتى قلب الإمبراطورية الرومانية. لذلك، كان لا بدّ لدراستنا من استكمال البحث في دور هذه الخطب في كتاب الأعمال من وجهة نظر انتشار الديانة المسيحية على أساس عوامل تاريخية ودينية على حدّ سواء.
إننا نلاحظ في الخطب التي ينسبها سفر الأعمال إلى لوقا تسلسلاً يتداخل فيه البعد التاريخي للأحداث والبعد الديني. ففي المجموعة الأولى من الخطب، المؤلّفة من الخطب الثلاث الأولى، يجري الخطاب الأول في مجمع لليهود، ثم الخطاب الثاني في الأريوباغيس أمام الأثنائيّين الوثنيين، والثالث في مدينة ميليتس أمام "كهنة الكنيسة". إن مثل هذا التصنيف للخطب ليبدو قائماً على نظرة تاريخيّة- دينيّة: فانتشار كلمة البشارة بالمسيح قد انتقلت من محيطها اليهودي إلى محيط وثني قبل أن تنتهي في بوتقة مسيحية انصهر فيها كل من اليهوديّ والوثني في الإيمان الواحد.
وفي المجموعة الثانية المؤلّفة من خطب دفاع بولس عن نفسه، يمكننا أن نلحظ التراتب التاريخي- الديني نفسه، باستثنار المرحلة الثالثة إذ لا يحتاج بولس أن يدافع عن نفسه أمام المؤمنين مثله بالمسيح. فقد دافع الرسول عن نفسه أمام الشعب اليهودي أولاً (22: 1- 21)، ثم أمام المحفل (23: 1- 9). بعد ذلك، رافع بولس بخصوص قضيّته أمام الوالي فيلكس (24: 10- 21)؛ ومن ثمّ، في مرّة رابعة وأخيرة، أمام الملك أغريباً والوالي فستس (26: 2- 24). بيد أنه من الأهمية بمكان أن نزيد ملاحظة على ملاحظة، بشأن هذا الخطاب الدفاعي الأخير. فهو قد جرى أمام الملك أغريبا المنتسب انتساباً إلى الإيمان اليهودي، وأمام الوالي فستس الوثني العبادة. لا شكّ أن هذه الملاحظة لا توحي إلينا بمقابلة هذه المجموعة الثانية بالمجموعة الأولى السابقة من الخطب، فندّعي الصواب في مقاربة الواحدة من الأخرى على أساس الرؤية التاريخية- الدينية نفسها. إنّ كلاًّ من الملك أغريبا والوالي فستس غير مسيحيين. بيد أن مثولهما معاً، وكلّ واحد منهما في انتماء ديني مختلف، لدى دفاع بولس الأخير عن نفسه، لا يخلو من تنويه معيّن.
زد على ذلك ملاحظة: ردّة فعل كلّ من الوالي فستس والملك أغريبا. إنّ هذا الأخير لم يحبسٍ نفسه عن الإعلان على الملا وشوك بولس أن يحمله على أن يصبح مسيحياً. أمّا الأول فيقرّ بعلم بولس الكثير. لكن السؤال الذي نودّ أن نثيره بهذا الصدد: ما معنى كلمة "علم" على فم الشريف فستس، في هذا الإطار من الرواية؟
أمّا ما هو خاصّ بخطبتَي المجموعة الثالثة فانعكاس في النظرة إلى تراتب الخطب الديني، إذ يبدو توجّه الخطاب الأول إلى أناس وثنيين، لا بناء على إفصاح النص في هذا الخصوص وإنما على أساس توجّه الخطاب الثاني إلى اليهود الذين في رومة، دون مواربة. ففي الخطابين الأخيرين، إذاً، اختلاف بين الخط التاريخي لمجرى الأحداث والبعد الديني لها. وما يزيد التيقّن من هذا الواقع خلوّ خطاب بولس أمام البحّارة، أولاً، من كل إشارة إلى مفهوم ديني يهودي، كما الحال في خطابه أمام الأثنائيين، وتأكيد بولس، ثانياً، في ختام خطابه إلى يهود رومة على "أن خلاص الله هذا، قد أُرسِل إلى الأمم؛ فهم يقبلونه" (28: 28).
تكشف دراسة خطب الرسول بولس عن نظرة تاريخية- دينية في سفر الأعمال. فمن وجهة نظر التاريخ، انبرى بولس إلى التبشير بالمسيح وبالخلاص الذي تمّ به في أوساط بني دينه وقومه، مبتدئاً بمدينة اهتدائه دمشق (9: 19 ب، 22، 27؛ 26: 25)، ثم في أورشليم (9: 28؛ 22: 18؛ 26: 20)، ثم في أنطاكية (13: 1). وعندما انطلق بولس رسولاً إلى الأمم، بادر اليهود الذين في الشتات أولاً بكرازته، كما يدل على ذلك تجواله في أصقاع آسية الصغرى وأغريقيا. فمن هذه الوجهة التاريخية- الدينية التي امتازت بها رسالة بولس، والتي تتبدّى أيضاً من خلال ترتيب خطبه في سفر الأعمال، يمكن النفاذ إلى استنتاج ذي شأن بالنسبة إلى هيكلية التعليم البولسيّ. لقد ارتكز الرسول، في بداية دعوته، على صور الديانة اليهودية ومفاهيمها وتعابيرها، من أجل نقل فحوى البشارة المسيحية.
وما خصّ الرسول بولس الأمم الوثنية ببشارته إلاّ في مرحلة ثانية، لدى إقامته في أنطاكية (أنظر غلا 2: 12 آ)؛ فم يرَ منذئذٍ حرجاً بالتوجه إليهم في كرازته. لكن اتصاله بهم ما انفكّ يتوثّق بقدر ما كان يلقى مواجهة من قبل اليهود. فهذا الانتقال بالدعوة المسيحية من إطارها اليهودي إلى بوتقة العالم الوثني يظهر من خلال المجموعتين الأوليين لخطب الرسول بولس، اللتين تقومان بالتالي بهذا الدور الملقى عليهما في كتاب الأعمال. ومن الوجهة التاريخية- الدينية، كرز بولس في ما بين الأمم الوثنية مبكراً جدا في تاريخ دعوته الرسولية، فكان له اتصال بهم قبل انطلاقه في رحلاته التبشيريّة. لكن الاهتمام الفائق ما لبث بولس يوليه في عمله الجماعات اليهودية المنتشرة في مختلف مدن الإمبراطورية.
إلاّ أنّ الرسول قد أحدث، في فترة ما، تغييراً في خطّته التبشيرية. لقد بات يفضّل العمل في أوساط وثنية على حساب اهتمامه باليهود بني دينه. وربما كان إقبال الوثنيين الكبير على تقبّل بشارة بولس، وتفشيّ الأسئلة والمشاكل في بيئاتهم نتيجة الاهتداء إلى الإيمان الجديد، من الأسباب المباشرة لإيلاء الرسول إيّاهم جلّ وقته وكبير اهتمامه، علاوة على تحقّقه من بطء اليهود في إحداث الارتداد في حياتهم. هذه المرحلة التاريخية من سيرة القديس بولس قد تكون برزت إلى الوجود في أثناء الرحلة التبشيرية الثالثة، كما يمكن الاستدلال على ذلك من خلال مطالعة أخبار هذه الرحلة في كتاب الأعمال. فهل سعى لوقا، في ترتيب خطب بولس معلّمه، إلى أن يدلّ على هذا التوجه الجديد للرسول في ممارسته دعوته التبشيرية بجعل المجموعة الثالثة من الخطب البولسية معكوسة الرؤية الدينية؟ هل من توازٍ ، بمعنى آخر، بين الرؤية التاريخية- الدينية للخطب في كتاب الأعمال، من جهة، والرؤية التاريخية- الدينية نفسها لسيرة القديس بولس، من جهة ثانية، حتى يمكن الاستدلال على الثانية منهما من خلال الأولى؟ جوابنا على هذا السؤال مستوحى من طبيعة الخطب المصطنعة: عددها، توزيعها إلخ. فإذ إنّ لوقا قادر على اللعب بما هو تاريخي، أنبقيه عاجزاً عن التحكّم بما هو بلاغيّ؟
خلاصة
لقد حاولت دراستنا أن تتقصّى مواطن الغنى الكامن في خطب الرسول كما يعرضها علينا لوقا في كتاب أعمال الرسل. فأخرجت أولاً أهمية هذه الخطب على مستويات عدّة، ثم اجتهدت في إبراز دورها بالنسبة إلى عرض الكتاب. كما أنها أسهمت في إقامة الدليل على براعة الكاتب لوقا في الإفادة من الخطب البولسيّة لكي يوجّه ذهن القارىء وفق الناحية السرديّة التي ينبري لها في اهتمامه الأول، دون إسدال الستار على الناحية اللاهوتية.
إنّ ما يجب علينا الإشارة إليه في ختام هذا البحث ذو منحىً رعويّ للدراسة التي قمنا بها. لقد بيّنت لنا هذه الأخيرة دور الكلمة الفائق بالنسبة إلى الرسول. فما من إنسان يريد أن يصبح رسولاً للمسيح وهو عاجز عن أن يمتلىء منه. لقد كان بولس ممتلئاً غيرة ورسوخاً في ما هو من أمر يسوع. وهذا الامتلاء الصادق هو وحده الكفيل بأن يمدّ الإنسان كلاماً على الرب. أليس "من فيض ما في القلب يتكلّم اللسان؟". فما برسول حقيقيّ، بالتالي، الرسول العاجز عن افصاح ما في عقله وقلبه من محبّة وأمانة للسيّد، أو الرسول الذي يتكلّم عن المسيح والفادي كلاماً لا يعدو كونه ألفاظاً أو مجرّد كلمات. الرسالة دعوة المسيحيّ، قوامها وجوهرها الملء من شخص يسوع.
ثمّة أمر آخر رعوي يتعلّق بالخطاب البولسيّ، إنّ الكلمة الرسوليّة ملقاة لإفادة سامعها؛ لذلك، تجب العناية بها والاجتهاد في البلوغ بسامعها إلى الهدف الأخير الذي تصبو إليه، إلى المسيح. فلا بدّ، بالتالي، من إتقانها وحسن صياغتها وإسنادها إلى ثابت القناعة الداخليّة، مع مراعاة وضع السامع إليها. لقد به لنا بولس في خطبه المتنوّعة هذه الأبعاد كلّها، وأظهر قدرته البارعة في إجادة التأثير على المستمعين إليه.
كم من شهادة للمسيح ومن دور فعّال يمكن رسل اليوم أن يقوموا به في خدمة الكنيسة عندما يعرفون أن يبلّغوا الكلمة إلى المؤمنين. كم من خير روحيّ يُرتجى على أيدي رسل المسيح