الملح والنور
آ13. أنتم، يا تلاميذي، ملح الأرض. لا ملح أرض اليهوديَّة فقط كما كان الأنبياء، بل ملح الأرض كلِّها أي العالم بجملته. فكأنَّه يقول: إنّي قد اخترتكم أوَّلاً لتستأصلوا رذائل البشر بحكمة كلامكم ومثالكم، كما يَستأصل الملحُ النتانة. ثانيًا لتحفظوهم من الانفساد بالرذائل كما يحفظ الملح الأطعمة. ثالثًا لتجعلوهم مقبولين لدى الله والملائكة والناس، مصلحين لهم كما يُصلح الملحُ الطعام. رابعًا لُتضرموا في قلوب الجميع أوام العطش إلى الأمور السماويَّة كما يهيِّج الملح العطش. فإنْ فسُدَ الملحُ فبماذا يملَّحُ؟ لا يصلحُ لشيء بل يُطرَحُ خارجًا ويُداسُ من الناس. فكأنَّه يقول: إن فسد أحد منكم يا تلاميذي أو من خلفائكم (لأنَّ كلامه يعمُّ بالتبعيَّة كلَّ المنذورين ورعاة النفوس) بواسطة الرذائل أينها كانت فمن يصلح الناس، وذاك الفاسد بمنزلة الملح وقد فسد؟ ولذاك فضلاً عن المضرَّة التي تحصل من عدم وجود من يُصلح خصال الناس، فتكون مضرَّة أخرى لنفس ذلك الفاسد، لأنَّه يُطرح خارجًا فتدوسه الناس أي تحتقره. فليعتبرْ ذلك جيِّدًا كلُّ مرسل أو كاهن أو أسقف قد أفسد قلبَه حبُّ الحنجرة أو المال أو الملذّات اللحميَّة.
آ14. أنتم نورُ العالم لا يُمكنُ أن تَخفى مدينةٌ مبنيَّةٌ على جبل.
آ15. ولا يُوقَدُ سراجٌ ويوضعُ تحتَ مكيال، بل على منارة، فينيرَ الذين في البيت. إنَّ المخلِّص قد علَّم تلاميذه بتشبيهه لهم بالملح والنور والمدينة المبنيَّة على جبل والسراج الموضوع على منارة، أنَّ واجبات وظيفتهم أن يُصلحوا خصال أهل العالم وينيروهم بنور التعليم والسيرة الإنجيليَّة، بعد تسكُّعهم بدياجي الأضاليل والرذائل. وأبان لهم أنَّ أعين الجميع تتَّجه إليهم وإلى كلِّ مرسل ورئيس وكاهن نظير مدينة مبنيَّة على جبل وسراج على منارة، فلا يختفي على أحد. فإن باشروا وظيفتهم كما ينبغي، جذبوا كثيرين إلى المسيح ومدحهم، وإلاّ فيُرجعون كثيرين عن اتِّباع المسيح ويزدري بهم الجميع. وقد أعقب ذلك بقوله:
آ16. فليضئ نورُكم هذا أمام الناس ليَرَوا أعمالَكم الحسنة، أي ليروها ويقتدوا بها ويسمعوا إرشاداتكم، لا ليمجِّدَكم بل ليتعمَّروا منها، ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات، الذي منحكم حكمة وأعمالاً صالحة هذه صفتها. ولذا فاللام في قوله ليروا ليست للغاية المطلقة والأخيرة ،أي إنَّه لا يأمرهم بأن يضيء نورهم أمام الناس لمجرَّد غاية أن يراهم الناس ويمجِّدوهم، بل ليحصل من ذلك المجد له تعالى. وكذا تتَّفق هذه الآية مع قوله في 6: 1 الآتية: انظروا فلا تصنعوا صدقاتكم أمام الناس ليروكم. فهناك ينهى عن التباهي وطلب المجد من الناس، وهنا يأمر بإظهار الأعمال الصالحة لتعمير القريب وتمجيد الله.