تعرّفوا على شفيع السياسيين
في 6 تموز عام 1535، تم قطع رأس القديس توما مور في لندن. وبمناسبة التعديل الوزاري المستجدّ، إنها فرصة مزدوجة لتذكّر هذا البطل وشهيد الإيمان الذي تم تطويبه عام 1935، والذي ضحى بحياته لولائه للعدالة.
وفقًا للصور الموجودة عن توما مور، يبدو رجلًا صارمًا إلى حد ما، لكنه لم يكن كذلك، بل كان مليئًا بالحياة وبحس الفكاهة، وغالبًا ما كان طريفًا ومغيظًا، إذ كان يفضل نقل أفكاره بأسلوب مرح بدلًا من نقلها بأسلوب جدّي ومتصلّب.كان توما مور نجل أحد قضاة لندن البارزين وأحد أعظم الشخصيات الأوروبية في النصف الأول من القرن السادس عشر. كان رجلًا حقيقيًا وإنسانيًا في عصره، وشغوفًا بالحياة وبالفكر والثقافة اللتان عاش في أجوائهما وشارك فيهما على نطاق واسع.
وقد أولى اهتمامًا خاصًا لمنح أطفاله تعليمًا فكريًا وأخلاقيًا شاملًا، سواء كانوا فتيانًا أم فتيات، بخاصة من خلال تدريسهم للفلسفة.كان محاميًا وعضوًا في برلمان لندن، ثم بدأ مسيرة سياسية ناجحة عام 1509 بعد استلام الملك هنري الثامن للحكم، واستمرت لأكثر من عشرين عامًا. أُعجب الملك بروح وذكاء توما، فأصبحا صديقَين وكنّ له الاحترام، وعهد إليه بمناصب موثوقة، لا سيما منصب السفير المتجوّل خلال التفاوض على معاهدة السلام. أخيرًا، تمت ترقية توما إلى منصب مستشار المملكة، وبات أهم شخصية سياسية في ذاك الوقت.كان المستشار الجديد يعمل بحذر واستقامة وعدل، وبقي حذرًا في مواجهة اضطراب الملك.
في الواقع، سرعان ما ظهرت نقطة خلاف بين الرجلين، بعدما أراد الملك أن يطلّق زوجته ليتزوج من آن بولين. لكن بعدما رفض البابا رغبة الملك، قرر هذا الأخير الانفصال عن روما وتحرير نفسه من السلطة البابوية، ما تتطلب دعم عظماء المملكة له. فضّل توما طاعة الله بدلًا من الملك، فلم يتبعه في انشقاقه وقدم استقالته دون الطعن في السلطة الملكية، على أمل الانسحاب ببساطة من الشؤون العامة ليعيش حياة بسيطة مع عائلته. لم يتحمّل هنري الثامن انتقاد الانحرافات التي حدثت في حياته الخاصة والعواقب الدينية التي تلت ذلك، فحكم على توما بالإعدام بتهمة الخيانة ثم بنزع أحشاءه وتقطيع أوصاله. لكن الملك خفَّف الحكم إلى الإعدام بقطع الرأس كـ”خدمة” لتوما، ما ألهم دعابته الأخيرة: “ليحفظ الله أصدقائي بالنعمة نفسها”.
مخلص لإيمانه، لا للملك
تم إعدام القديس توما لأنه فضل البقاء مخلصًا لقناعاته بدلًا من طاعة أوامر الملك. وكان ضميره صالحًا بما يكفي ومستنيرًا بالعقل والإيمان ليعطيه القناعة والقوة للاعتراض على الأمر غير العادل الذي فرضه الملك. من خلال التضحية بنفسه، أطاع ضميره، وبالتالي شهد للعدالة بحرية، وهي تبقى خارجة عن قوانين هذا العالم إلى الأزل. وتندمج هذه العدالة مع الحقيقة والخير.لم يتصرف توما بدافع الشجاعة أو الكبرياء، بل عذبته معارضته لملك إنجلترا الذي كان يحترم سلطته ولم يرغب بالإخلال بالنظام الاجتماعي بسبب عصيانه. وقام بكل ما في وسعه للاستجابة لرغبة الملك، ولكن توجّب عليه ألّا يتخطى الحدود التي يصعب العثور عليها أحيانًا، والتي قد يضطر بعدها أن يعمل مع الشر، ما لم يطاوعه ضميره فعله. عرف توما أن ضميره الذي وهبه إياه الله لتمييز العدل والخير؛ إن هذه الحرية الأخلاقية هي أساس المسؤولية. لذلك، رفض أي حل من شأنه أن ينقذ حياته، لأنه سيُفقده أغلى ما يملك وصداقته مع الله. في سجنه وعلى المقصلة، قال توما: أنا رجل حر لأنني بقيت في العدالة، بدلًا من أن أغرق في عبودية الطموحات والمخاوف والتنازلات.
شفيع السياسيين
إن الإخلاص للضمير ليس سهلًا دائمًا، بخاصة في العصر النسبي الحالي الذي يشك فيه الناس في قدرتهم على تمييز الخير والعدل. لهذا السبب، أعلن البابا يوحنا بولس الثاني توما مور شفيع المسؤولين الحكوميين والسياسيين عام 2000، كمثال للقوة الأخلاقية العظيمة التي استعان بها توما خلال عمله السياسي ولإصراره على اتباع ضميره ولشجاعته البطولية للتخلي عن منصبه السياسي بدلًا من الموافقة على انقسام إنجلترا.ويُعتبر توما مثالًا للنزاهة والتماسك الأخلاقي لجميع المسيحيين، بخاصة العلمانيين. في الواقع، إنه مثال وحدة الحياة الضرورية بالنسبة إلى المؤمنين العلمانيين الذين يتوجّب عليهم أن يقدسوا أنفسهم في الحياة العادية والاجتماعية والمهنية؛ فالنشاطات المختلفة اليومية لا ينبغي أن تكون عقبة أمام الحياة الروحية، بل فرصة لوحدتهم مع الله، ولشهادتهم له ولتحقيق مشيئته.