رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
توبة الأمم وتوبة المسيحي
في الواقع الروحي من جهة الخبرة، هناك فرق عظيم شاسع بين توبة الأمم وتوبة المسيحي المؤمن بمسيح القيامة والحياة، فتوبة الأمم تعتمد على أخلاق الإنسان في المجتمع، فأعظم ما يصل إليه الإنسان الطبيعي هو أنه يكف عن ارتكاب الخطايا والآثام حسب قيم المجتمع الذي يعيش فيه والتي قد تختلف من مجتمع لآخر؛ والإنسان السوي الطبيعي لا يرتكب ما يخالف القانون والأعراف المجتمعية التي تربى عليها، وشعوره الدفين بالخطأ والصواب في ضميره هو الذي يجعله يتجنب كل ما هو خطأ ويحيا بكل ما هو صواب، وكل انحراف عن الضمير يسبب قلق واضطراب عظيم في حياة الإنسان لأنه يشعر بملامة وتبكيت من ضميره في كل مخالفه أو خطأ يرتكبه ضد الأعراف وقانون الناس أو حتى الناموس الإلهي، وأن لم يستطع الإنسان أن يُريح ضميره بعمل الصواب فأنه يبدأ في سياسة تبرير الخطأ ليُسكن ضميره لأنه لا يستطيع أن يتوقف عن السير ضد ما تربى عليه من جهة المبادئ والأخلاق العامة والسلوك السوي في المجتمع.
بمعنى أن أخلاق المسيحي ليست بحسب الإنسان السوي الطبيعي في المجتمع، أو حتى حسب الناموس والعهد الأول، إنما حسب الإنسان الجديد المولود من فوق، المولود من الله في المسيح يسوع ربنا، لأن المسيحي الحقيقي إنسان سماوي، سيرته غير مكتوبة على الأرض بحبر على ورق في كتب أو في مواقع أو في ذاكرة الناس أو التاريخ، لأن مدحه ليس من الناس بل من الله، وسيرته مكتوبة في السماوات: فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِه؛ وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ (فيلبي 3: 20، 21؛ 1يوحنا 3: 2)
أننا لو تركنا الشرور والآثام كلها بدون أن نتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا وندخل في سرّ الصلب مع المسيح لنموت عن إنسانيتنا العتيقة بكل ما فيها من خير وشرّ، ونحيا خليقة جديدة، لن نقترب خطوة واحدة من المسيح الرب حمل الله رافع خطية العالم، بل سنتغرب عنه ونبتعد بعيداً جداً، في نسك وصوم وصلوات ودراسات فكريه وعقلية، وأبحاث ومناظرات ومناقشات، ثمرها في النهاية كبرياء القلب لأنها تُزيد العجرفة وتجعل الإنسان يحيا في معزل عن الله، لأننا لن نرى أثناء هذه المُمارسات الأُممية موتنا الحقيقي بسبب إنسانيتنا الساقطة المنعزلة عن الله، بل سنرى برنا الذاتي الذي سيجعلنا فاقدي البصيرة فلا نرى خفايا القلب ومشكلة أمراض نفوسنا الداخلية، بل سنحيا تحت ستار التقوى الكاذبة من صوم وصلاة وكلام عن الله وخدمة كثيرة وتعب فننال حظوة عند أنفسنا والناس، وضميرنا يرتاح لأنه خُدر باسم النسك والصلوات وعمل كل ما هو واجب علينا حسب الناموس أو قانون الضمير وما تربينا عليه سواء دينياً أو مجتمعياً أو الاثنين معاً، حتى نُصبح أمواتاً تماماً دون أن ندري أو نحس أننا "أموات بالذنوب والخطايا" التي تعمل في قلبنا سراً وتفقدنا اتزاننا الروحي وتفقدنا قوة السمع لصوت الله، بل وكل حس روحي سماوي، فنعيش في خديعة اننا مع الله نحيا ولكننا في بُعد ومعزل تام عنه.
لأننا حينما نتوب فأننا نقف أمام صليب ربنا يسوع، ليتم فحص نوايا القلب بنار الآلام الشافية المُحيية، ليتم الحكم علي الخطية في الجسد، لأن الرب دان الخطية في الجسد عن طريق الصليب ليبررنا ويفكنا من سلطان الخطية والموت، فبالصليب يتم فرز الظلمة من القلب أمام نور الله المُشرق المُبدد لكل قوى الظلام المتسلطة على النفوس الساقطة والمنعزلة عن الله داخلياً، فتظهر الخطية خاطئة جداً، فيبغضها الإنسان صارخاً أرحمني أيها المصلوب الحي وغير طبيعتي وقلبي كله بقدرتك، واعطيني أن أعرفك وقوة قيامتك وشركة آلامك لأتشبه بموتك فأموت عن طبيعتي الساقطة وأحيا للبرّ، فاصلبني معك لأموت بإنسانيتي العتيقة ولا أحيا أنا فيما بعد كإنسان طبيعي، إنما تحيا أنت في داخلي بالإنسان الجديد المخلوق على صورتك، حتى أستطيع كل شيء فيك وأغلب الخطية والشرّ والفساد الذي في العالم الحاضر الموضوع في الشرير، بسلطانك وحدك يا مسيح الله، حتى أحيا فيما بعد بك وأتحرك وأوجد وأسكن في حضن أبيك حيث أنت قائم.
أن الصليب عزاء الخطاة ورجاء الأثمة والفجار، لأن الدم المسفوك عليه، دم حمل الله الحي، الذي هو بحر غسيل الدنسين، فاذكروا اللص الذي آمن بالمصلوب فأخذ الوعد: [اليوم تكون معي في الفردوس]؛ فالصليب هو صلاة التائبين، والتوبة ليست في الامتناع أو الكف عن الشرّ حسب أخلاق الإنسان الطبيعي، لأن هذه هي توبة الأُمم الذين لا يعرفون التدبير الخلاصي الذي لنا في المسيح يسوع، وإنما توبة المسيحيين هي في قبول الصليب بالإيمان لبلوغ قوة قيامة يسوع من بين الأموات، ليحيا الإنسان فيما بعد خليقة جديدة لها أخلاق المسيح الرب، وهذا هو المعنى العملي لسرّ تأليه الإنسان الذي تحدث عنه الآباء وصار محل عثرة لكثيرين لأنهم لم يدخلوا بعد في سرّ التجديد بالنعمة المُخلِّصة، فانظروا وتفرسوا في كلام الرسول: كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ (عَرَّفَنَا بِالْمَسِيحِ (الآب) الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ وَفَضِيلَتِهِ) أو (تبعاً لذلك، فإن كل شيء بالنسبة لنا قد أعطته القوة الإلهية (لنتجه) نحو الحياة والتقوى من خلال معرفة [الشخص] الذي دعانا [بمجده] وامتيازه)، اللَّذَيْنِ بِهِمَا (مجده وامتيازه وفضيلته) قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ (الَّتِي كَانَ قَدْ وَعَدَ بِهَا) لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ (وَبِهَذَا صَارَ بِإِمْكَانِكُمْ – بسبب مجده وفضيلته – أَنْ تَتَخَلَّصُوا مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي تَنْشُرُهُ الشَّهْوَةُ فِي الْعَالَمِ (تتخلصوا من الرغبة التي يصعب إشباعها)، وَتَشْتَرِكُوا فِي الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ) (2بطرس 1: 3 – 4) |
|