مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
الأطفال هم نواة الجيل المُقبل. إن أحسنَّا إعدادهم، أمكننا ضمان جيل سليم نافع. أمَّا إن أهملناهم أو أسأنا معاملتهم، فتكون النتيجة كارثة اجتماعية في المستقبل. ولذلك فالأطفال هم وديعة في أيدينا، سنُقدِّم عنها حساباً أمام الله والوطن. وهذه المسئولية تشمل الأسرة والمدرسة والمجتمع وكافة أجهزة الدولة.
والطفولة تنقسم إلى نوعين: الطفولة المُبكِّرة التي في الخمس سنوات الأولى تقريباً من العمر. والطفولة المتأخرة وهى ما بعد ذلك حتى سن الصبا. وسوف نتحدَّث في هذا المقال عن الطفولة المُبكِّرة وخصائصها وكيف التعامل معها... وما تجده في مقالنا هذا ليس هو نتيجة قراءات في كُتب علم الاجتماع أو علم النفس أو الأنثروبولوجي Anthropology، إنما هو خبرات عملية في التعامل مع الأطفال ودراسة نفسياتهم وطباعهم...
أول قاعدة في التعامل مع الطفل، هى أن تعامله بما يناسبه، بمستوى عقليته ونفسيته. فإن فشلنا في التعامل معه، فغالباً ما يرجع ذلك إلينا. إذ نكون قد أخطأنا فهم الطفل، أو أخطأنا الوسيلة إلى اجتذابه. والوضع السليم هو أن ننزل إلى مستواه، ولا نُكلِّمه من فوق. لابد أن نعرف ما يحبه وما لا يحبه، وأن نفهم طباعه ونتمشى معه، ولا نرغمه على الخضوع لطباعنا.
اجعله يشعر أنك صديق وأنك في صفه. وليكن هذا هو أساس التعامل. وإن قابلت طفلاً لأول مرة، أو رأيته في زيارتك لأسرته، فلا تسرع بحمله على كتفك أو بمداعبته. فربما يصدك، فيؤثِّر فيك هذا الصد، فتأخذ منه موقفاً أو تتجاهله، وهكذا تفقد علاقتك معه...
إنما من طبيعة الطفل إن قابل غريباً، أن يفحصه أولاً ويتأمَّله، أو يتفرَّس فيه، ثم يُحدِّد علاقته به. إنه يحب أن يطمئن أولاً إلى أنَّ هذا الشخص الجديد لا خطر منه. وله حق في هذا. وقد يبني اطمئنانه على شكل هذا الشخص وصوته وملامحه وحركاته ولطفه. فقد يخاف من الشخص الغضوب الذي يتكلَّم بعصبية، أو الذي تكون ملامحه مقطبة (مكشرة)، أو الذي ينتهر طفلاً آخر أمامه. فلا يقبل مداعبة هذا الشخص مهما حاول ذلك، بل يهرب منه. ولكنه يأنس إليك، إن رآك مبتسماً ضحوكاً، منفرج الأسارير وطيب القلب. فاحترس إذن واضبط ملامحك، إن هناك أطفال لئلا تخيفهم.
إنَّ الأُم التي توبِّخ طفلها الصغير بقسوة، وقد تهدده بعنف، ربما يصرخ الطفل في خوف ويستغيث، لا بسبب كلامها فرُبَّما لا يفهمه، أو يكون منشغلاً بملامح وجهها الغضوب، ويرى فيه صورة مزعجة لا يحتملها. وما أسهل أن تترك هذه الصورة عقدة في نفسه أو تُسبب له أحلاماً مزعجة.
الطفل في مرحلة الطفولة المُبكرة يستخدم الحواس أكثر من العقل. ويحب الصور أكثر من المعلومات، أو تصل إليه المعلومات عن طريق الصور. وهو في هذه السن يحب الحيوانات والطيور، ويراها أمامه كما لو كانت تنطق وتتكلَّم. وقد يحتضن لعبة من قطن بشكل قطة أو دُب، ويخاطب تلك اللعبة كأنها كائن حي. وتصلح له في هذه السن قصص الحيوانات. إنها تشبع خياله، وحبَّذا لو كانت هادفة. تعجبه قصص ميكي ماوس وأشباهها. وهو يحب الحكايات، ويحب مَن يحكي له حكايات. لذلك جهز نفسك برصيد من الحكايات، تصير بها صديقاً للأطفال..
والطفل يحب اللعب ويجد فيه تسليته ومتعته. ويحب مَن يعطيه لعباً، كما يحب مَن يلاعبه أو يلعب معه من الكبار. والمفروض أن نوفِّر للطفل مجالاً للعب، وأنواعاً من اللعب التي يحبها. وإن لم نفعل ذلك، سنجعله يلجأ إلى تصرفات من اللعب فيها عبث أو خسارة، أو أنه يُحدث ضوضاء. ثم نلومه على ذلك، واللوم يرجع إلينا. وإلا نسأل: كيف يمكن أن يشغل الأطفال وقتهم، وماذا قدَّمناه لهم؟!
بعض الأسرات تحرص أن يكون عندها حجرة للعب الأطفال. والأغلبية التي لا يتوفر لها ذلك، تلحق أطفالها بعض الوقت في أحد النوادي أو الحضانات.
وهناك ألعاب للأطفال لا تقتصر فقط على التسلية، وإنما تشمل أيضاً تدريبات على الذكاء والخبرة. مثل ألعاب لبعض قطع الكاوتشوك متنوعة الأشكال والألوان، ومعها رسم لبيت يستطيع الطفل بتشابكها أن يبني بيتاً ثم يهدمه ليبني آخر برسم آخر.
البعض يشكو من أن الطفل في لعبه قد يكسر أشياء في البيت أو يتلفها، فمثل هذه الأشياء إبعدها عن متناول يده.
الطفل أيضاً من طبيعته أنه دائم الحركة. له طاقة يستخدمها في الحركة. ولا تستطيع أن تأمره بأن يجلس في مكان صامتاً لا يتحرَّك، لأن هذا ضد طبيعته. فإن أرغمته على ذلك -لكي ترتاح أنت- يكون هذا لوناً من قهر الكبار للصغار. ولا يجوز أن نعوِّد أطفالنا على قبول القهر.
أتذكَّر أن أسرة زارتني في مكتبي بالقاهرة، وكان معهم طفل فوجد أن المكتب واسع، فأخذ يجري ويلعب فيه. فانتهرته أمه وقالت له: "اقعد يا ولد ساكت.
بطَّل لعب لأن البابا ها يزعل منك". ولكنني قلت له: "العب يا حبيبي على كيفك. أنا لا أزعل من لعبك". فاطمئن الطفل وأكمل جريه في المكتب ولعبه. إلى أن تعب من الحركة فجلس هادئاً.
إذن لا تطلب من الطفل أن يتصرَّف هادئاً كالكبار، ولا ترغمه على ذلك بالضرب أو الانتهار. وإلا فإنه سيتعقد من السُّلطة ويشتهي التخلُّص منها.
الطفل أيضاً يُحب ما يضحكه. وقد يضحك أحياناً بلا سبب ندركه نحن. ربما بشيء غير مألوف له يضحكه، أو منظر مُعيَّن، أو كلمة متكرِّرة أو ملحَّنة، أو لعبة تفرحه. وبالضحك يُعبِّر عن سروره أو رضاه، أو عن تآلفه مع شخص مُعيَّن يستريح له، فيضحك في وجهه أو يبتسم، أو أنك تداعبه فيضحك. وهو يسرّ بالإنسان الضحوك، أو الذي يقص عليه قصصاً تضحكه.
الطفل أيضاً له خيال واسع، يستطيع أن يؤلِّف به قصصاً، ويتصوَّر أخباراً لم تحدث، ويصدّقها ويرويه. فلا تقل عن خياله إنه يكذب. فهو لا يقصد الكذب، وإنما يروي خياله كأنه حقيقة. ويمكنك أن تسرح معه وترى نهاية قصصه، أو تصحح مسارها في الطريق، وسيقبل منك التصحيح. ويعتبرك شريكاً معه في تأليف القصة، أو شاهداً معه على وقوع أحداثها!!
الطفل في مرحلة الحضانة وما يليها مُغرّم بالتقليد. فهو يُقلِّد الحركات: حركة اليدين والرأس وطريقة المشي وحركات الملامح أيضاً. وكذلك يُقلِّد طريقة الصوت والألفاظ. ويحاول أن يمتص الشخصيات التي أمامه ويحاكيها...
فإن وجدت الأم أن طفلها يلفظ بلفظة غريبة، أو يأتي بحركة غريبة، فلتعلم أنه لابد قد التقطها من غيره: من أحد أفراد الأسرة، أو من الجيران أو الضيوف، أو من التليفزيون.
وهنا لابد من المحافظة على سلامة بيئة الطفل بقدر الإمكان. وأيضاً فليحترس الوالدان من جهة أسلوبهما حينما يختلفان أمام الأطفال. فإمَّا أن يلتقط الأطفال أخطاءهما ويقلدوها، أو تسقط في نظرهما مثاليات الكبار!
وقد يتحدَّث الكبار أمام الصغار بغير احتراس ظانين أنهم لا يفهمون! بينما يدرك الأطفال ما يحدث. وإن كانوا لا يفهمون كل الكلام، فعلى الأقل سيفهمون ما توحي به الملامح والأصوات والحركات. يكفي المنظر!
ومادام الطفل يحاكي ويُقلِّد، فإن كان أبواه متدينين سيلتقط منهما تدينه، والعكس صحيح. ومن هنا نقول: إنَّ الزواج ليس مُجرَّد علاقة بين زوجين، إنما هو مسئولية عن جيل جديد.
هناك أشياء أخرى كثيرة تُقال عن الطفل لم يتسع لها هذا المقال. ولكني أحب أن أقول لك أخيراً: إنك إن أحببت الطفل يمكنك أن تقوده. فالطفل يتبع مَن يحبه، ويكون مستعداً أن يطيعه لأنه يطمئن إليه. وعلى عكس ذلك ينفر ممَّن لا يشعر بمحبته، وقد يعانده.