رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
ومضة على رواية (الجريمة والعقاب) لعملاق الأدب الروسي (فيودور دويستويفسكي)
نجد في الجريمة والعقاب ليست مجرد رواية عادية أو سهلة، بل هي ملحمة متشابكة ومعقدة من الإثارة والألغاز, والغموض، والعذاب النفسي، والمآسي الإنسانية التي لا توصف، وسلسلة متواصلة من الأمراض النفسية والاختلال العقلي. فهذا هو البطل الرئيسي الشاب الهزيل المصاب دوماً بالحمى (راسكولينكوف) شاب مفحم بالفضيلة حتى طفحت على جسده، نجده يتخبط في مضارب الأرض، ويبتعد حيثما تعيش أمه وأخته ليخفف من أعباء حمله عليهم، ليعيش وحيداً كئيباً في غرفة تبعث على القئ في إحدى الشوارع القذرة بمدينة سان بطرسبرج، فيعمل تارةً حين مدرس يعيش على أجور التلاميذ من خلال الدروس الخاصة ( لأن ضيق الحال لم يمكنه من إكمال دراسته الجامعية التي كان الكل يتنبأ له بمستقبل باهر في القانون)، فيتخبط سنين طوال في هذه الغرفة ما بين وحشة الدنيا وعبث الحياة. تسحقه الظروف تارةً فتارةً حتى يتراخى كيانه أمام طعنات الإكتئاب حتى يخر صريعاً ولا يستطع مواصلة إعطاءه للدروس، أو الحديث مع البشر، فينطوى على نفسه بغرفته ويعيش مديوناً وينتظر بين الحين والآخر إعانات والدته التي تأتيه من معاشها بين الحين والآخر. تسأم نفسه أن تمتد إلى ما ترسله إليه والدته، فبلغ حداً من الفضيلة إلا أنه بإمكانه إعطاء - كل ما أرسلته والدته إليه - إلى أي سائل في الطريق أو ذي حاجة. وهنا يصطدم بواقع الحاجة وتدفعه الظروف لرهن ما يملكه من هدايا من أبيه الراحل أو مقتنيات شخصية عند عجوز مرابية تأخذ أضعاف الرهن المعطى للسائل وتحدد له مدة ضيقة. تجبره ظروفه النفسية السيئة التي يعيش فيها دون أن يشعر به المجتمع ولا العالم من حوله ولا حتى القسيس الذي لم يجد حلاً لمأساة أحد الشخصيات في الرواية سوى أن قال لها : " الله رحيم .. أملي في عون الرب". تتعقد حياته أكثر فأكثر في تلك الغرفة الكئيبة ذات السقف الضيق فيتعرض لحالات من الإضطرابات العصبية والهذيان، ويخور في عقله حوار سمعه ذات يوم في صالة بلياردو بين ضابط شرطة وطالب، وتدور تلك الفكرة في ذهنه ويظل يعمل على تفتيتها ثم إعادة بناءها، وهنا يضع (دويستويفسكي) العالم أجمع في محكمة نصبها لنا دون أن نجد محامي منطقي يمكنه أن يدافع عنا وهو يسأل على لسان راسكولينكوف : هل يتضرر العالم إذا ماتت تلك العجوز التي تكنز المال في شقتها وتم إعادة توزيع هذا المال على العجزة والأطفال ومن يستحقه !، ثم ينصب محاكمة أخرى قاسية للضمير والآله ويسأل سؤال آخر رهيب وهو : هل يأبه الله لكائن مثل تلك العجوز الشنيعة إذا ماتت !! فهل يهتم الله لهذه القملة بينما الأرواح الأخرى التي تتعذب وبحاجة لذلك المال ويستحقونه فهل هذا عدل ! ( هذه هي الأسئلة غير المباشرة التي نصبها راسكولينكوف) حتى أعجزنا جميعاً عن الحكم. فنجد أن تلك العجوز وظيفتها في الحياة مجرد امرأة مترهلة حقير تكنز المال بالربا ولا تنفقه في شيئاً مفيداً بينما تحوط حول جيدها دائماً صليباً من ذهب. تتداخل الظروف والتعقيدات شيئاً فشيئاً ويتيه راسكولينكوف في الأرض حتى يرتكب جريمته التي يراها لها كل الدوافع الإنسانية السامية في إقامة عدل بشري، حتى أنه بعدم قضى على العجوز بضربة ساطور، لم يرتكز ذهنه إلى السرقة التي لم تكن دافعه من الأساس حتى أخذ منها صرة نقود وإحدى أشياءه المرهونة ليدفنهم تحت صخرة، هذا قبل أن يصطم بالأخت البريئة الشاب لتلك العجوز، التي كانت تعاملها تلك العجوز بعنف وقسوة وتستعبدها، فتتلقى ضربة هي الأخرى بهدف إسكاتها فتلحق بأختها المرابية. يتدحرج راسكولينكوف مرة أخرى في عذاب الضمير ما بين قتل القملة والمسكينة التي لا ذنب لها سوى أن القدر زج بها في خضم ذلك العبث. وهنا نجد راسكولينكوف قد أنفذ حكمته القانونية وعدله الذاتي وهو في حالة حمى .. وهنا يضعنا دويستويفسكي في أزمة أخلاقية أخرى وهي : هل يجوز الحكم على هذا القاتل المريض النفسي المرتاب في إصابته باختلال عقلي وفوق كل ذلك أنه كانت تعتريه بوادر الحمى عند إرتكابه للجريمة !! وبينما يحتضر راسكولينكوف في عذاب ضميره وما بين أنه أقام عدلاً أرضياً يصطدم بالعديد من المفاجآت والشخصيات اللتان تسببتا في إرباكه وإنخراطه في محاور جديدة من الأزمات النفسية والأخلاقية. - مارميلادوف : ذلك الموظف المسكين صاحب الأسرة والحمل الثقيل الذي لا يستطيع مواكبة الحياة والتغلب عليها دون خمر، فيصبح أسيرها ومدمناً لها، فتنهار حياته تماماً من موظف محترم لعائل أسرة كريمة لرجل سكير دوماً لا يعبأ بالحياة، حتى تنتفض زوجته دوماً سباً وشتماً فيه، وتضطر ابنته الكبرى من زوجته الأولى للعمل في مجال الدعارة للإنفاق على الأسرة. والسؤال هنا أيضاً : هل قتل القملة وإقتناص جزء من مالها للإنفاق على المحتاجين من أمثال هذه الأسرة بدلاً من إنخراط الشابة في إمتهان الدعارة يجوز منطقيا ً أم لا ! كاترين إيفانوفنا: زوجة مارميلادوف المسكينة التي تتأرجح طوال الوقت داخل الرواية ما بين ندب حظها من أنها كانت متزوجة في المرة الأولى من رجل من طبقتها النبيلة، ثم هوت في قاع الفقر مع هذا الرجل التعس، الذي لم يستطع مواجهة شقاء الحياة في الخارج، وتقوم بإعادة تدوير ما تلاقيه من ضغوطات نفسية على أطفالها سواء بالضرب وأحياناً كثيراً بضرب زوجها نفسه وجره من شعره عندما يعود مخموراً أمام الجيران، ثم نراها عندما يفشل القسيس عندما يقوم بجلسة الإعتراف الأخيرة لزوجها عند الموت في أن يجد حلاً لمأساة أطفالها وأسرتها، وغياب المجتمع تماماً عن مساعدتها، فتهرع بأولادها في الشوارع لتستجدي صدقات الناس من خلال دفع الأطفال للغناء والرقص في الشوارع، حتى تقع ضحية مخالفة من قبل شرطي في إحدى الشوارع، فتلطم وجهها وجبينها ولا تدري من في الأرض أو في السماء يمكنه إنقاذه .. فأين الرحمة ؟ فتنهار ( وهي كانت مريضة بالسل في حالة متأخرة ) وتموت. - السيد لوجين : وهو رجل حقير يعمل مستشاراً ويعزم على الزاوج من أخت راسكولينكوف لأنه كان مؤمناً بنظرية أنه كلما كانت الفتاة فقيرة ويصيبها العوز .. كلما كانت أصلح للحياة الزوجية حتى إذا ما فكرت في ترك حياة الزوجية تذكرت فضل هذا الرجل عليها فتتراجع عن قرارها تماماً. وهنا يقف لها راسكولينكوف بحيل - شديدة التعقيد بالمرصاد - أمام مخططه الآثم ويفسده تماماً. ولقد بلغ لوجين من الوقاحة أنه أراد تشويه صورة راسكولينكوف أمام أخته وأمه بأنه ينفق الأموال التي ترسلها له أمه على العاهرات ( قاصداً هبات راسكولينكوف لعائلة مارميلادوف)، بل وبلغ من الدناءة أنه طلب ابن مارميلادوف التي امتهنت الدعارة ( صونتشيكا) بحجة إعطاءها مال كصدقة للأسرة، ثم يأتيهم إلى منزلهم ليتهمها بسرقة هذا المال أمام الجيران محاولاً مرة أخرى وأخيرة لتشويه صورة راسكولينكوف حتى يستطيع الظفر بالغزال الجريح أخته. - سفدريجايلوف : وهو رجل يتأرجح داخل الرواية ما بين الوقاحة والنبل، فهو يحاول عديداً أن يوقع أخت راسكولينكوف في شباكه (عندما كانت تعمل خادمة عند زوجته) ثم يفشل، ثم تتردد الأحاديث عنه كثيراً انه ارتكب جريمة قتل في شبابه، وأن زوجته الثرية تلك كانت وحيدة عانسة فحاولت بعلاقاتها ومالها أن تخلصها من تلك الورطة شريطة أن يصبح زوجها مدى الحياة وقد وافق ووهبته كل مالها، وأخذت عليه بعض الإيصالات حتى تضمن بقاءه، ولكنها مزقتها من حبها له. فنجد هذا الرجل الذي أغوى العديد من الخادمات قبل أخت راسكولينكوف، وبلغ من الإنحطاط أن يعامل الآخرين من الخدم ومن هم أقل منه شأناً بدونية شديدة ووقاحة تامة مسقطاً عليهم أمراضه النفسية حتى دفع أحد خدامه إلى الإنتحار في إحدى المرات، وبعد محاولات عديدة مع راسكولينكوف لإجباره بالتراضى أو التهديد للزواج من أخته، يضع خطته الخبيثة لإغتصاب أخته في منزله، ولكن بعد أن سأله هل تحبينني ؟ وأجابت بالنفي. ينهار نفسياً ويبدد كل ما ورثه عن زوجته الثرية على الفقراء والمحتاجين ثم ينتحر. صونيا مارميلادوفا (صونتشيكا) : تلك الفتاة التي رأى فيها راسكولينكوف أخيراً ضالته، ورآها لا تقل قداسة عن مريم العذراء في نظره، فالمرأة التي يدفعها هذا الكم من النبل فلا حيلة لها وتضحي بسمعتها ونفسها لتنقذ أسرتها، حتى ان راسكولينكوف نفسه قبل قدميها مرات عديدة وكانت الإنسان الوحيد الذي اعترف لها بارتكاب تلك الجريمة. ونجد في إشارات وتلميحات عديدة مباشرة وغير مباشرة من راسكولينكوف بمسألة المصير المشترك الذي يجمع صونيا به، فالاثنان ضحايا المجتمع، والاثنان قد ارتكبا ما أمكنهما به إنقاذ المجتمع ومن حولهما، فيحضها على الهروب معه، بينما هي تحاول مرات عديدة إقناعه عن التكفير عن خطيئته والمثول أمام العدالة، ويفند بالأدلة كثيراً لها أن جريمتها لم تكن بهدف السرقة أو القتل وإنما هو قد خلص المجتمع من مجرد قملة لا شأن لها، تعيش عبئاً على العالم وتكتنز أمواله فقط ليس إلا. وبعد أن يحمل أخيراً راسكولينكوف صليبه ويقدم نفسه فداء مثلما فعل المسيح موقناً في نفسه أنه لم يرتكب جرماً يستحق عليه العقاب، وإنما العالم لم يفهم حقاً مغزاه فيما فعل، ولكنه رضخ أمام رغبة الملاك صونتشيكا التي وعدته بانتظاره حتى خروجه، ثم تتهاوى الأحداث المأساوية بعد سجنه بوفاة والدته قهراً على غيابه، فقد خبأ الجميع مصيرها عنه. وأخيراً وبعد صراع عنيف من الخبث والدهاء في صراع كشف الحقيقة والإستجوابات غير الرسمية والمباشرة من المحقق بورفير بتروفتش، يعترف راسكولينكوف بجريمته على الرغم من أنه قد ألصقت بأحد عمال الطلاء الموجودون في نفس ذات يوم ووقت ارتكاب الجريمة، ويعانى أيضاً داخل السجن مع زملاؤه الذين لا يفهمهم ولا يفهمونه، وينعتونه بالملحد أوقاتاً كثيرة، وفي ذات يوم بعد زيارات عديدة يتجاهل فيها ذلك الملاك صونتشيكا، يظل صامداً جامداً بجانبها كعادته فيخضع عند ركبتيها باكياً وقد فهما كلاً منهما أن مشاعره تجاه الآخر لم تكن خاطئة، ولم يعد أمامها إلا الإنتظار سبع سنوات إذا أراد القدر أن يهب لأراواحهما الوديعة العيش في سكون بعيداً عن عبث العالم. حقاً لقد كان راسكولينكوف يحمل من النبل والفضيلة والتلقائية في كل شئ حتى عبر عن ذلك عندما سأله صديقه الوفي رازوميخين وهو يهبط السلم وراءهما (راسكولينكوف وصونتشيكا) : - أأنت لا تغلق بابك إذن بالمفتاح ؟ فأجابه راسكولينكوف بقوله : أبداً. ثم أضاف يقول بإهمال : على أننى أنوي منذ سنتين أن أشتري قفلاً. ثم التفت إلى صونتشيكا مخاطبها قائلاً : ما أسعد الذين لا يملكون شيئاً يستحق أن يوصدوا عليه الأبواب بالأقفال .. أليس كذلك ؟ Mahmoud Darwish |
25 - 09 - 2019, 02:24 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية الجريمة والعقاب
شكرا على الرواية |
||||
25 - 09 - 2019, 02:26 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
..::| الإدارة العامة |::..
|
رد: رواية الجريمة والعقاب
ميرسي على الرواية
|
||||
17 - 10 - 2019, 02:26 AM | رقم المشاركة : ( 4 ) | |||
..::| مشرفة |::..
|
رد: رواية الجريمة والعقاب
ألف شكر على تلك الرواية العالمية ربنا يبارك تعب محبتك
|
|||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
وما الحياة إلا محطات وفي كل محطة رواية لكل رواية |
تحت الآلام .. تحت القصاص والعقاب |
الباعة والعقاب الأخير |
الصبية والعقاب |
عاموس والعقاب القاسى |