رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الصوم عند آباء الكنيسة شدّد آباء الكنيسة، وخصوصاً آباء الكنيسة الشرقية، على البُعد الخلاصي للصوم، فراحوا يمجدونه في كتاباتهم، ويدعون المؤمنين على الالتزام به، وذلك تهيئة للقاء المسيح الفادي والمنتصر على الموت والخطيئة بعد الآلام التي تحمّلها لخلاصنا. فالصوم هو الانتقال مع المسيح من صخب العالم وضجيجه، إلى خلوة الجبل المقدّسة. (جبل الزيتون حيث صلّى يسوع). القديس أفرم السرياني يعتبر الصوم في المسيحية هو هروبٌ من الوليمة الأرضية إلى الوليمة السماوية. إنه استنارةٌ وصلاة وانتصار. صعود إلى الجبل بلونٍ أرضي ونزول إلى الأرض ببهاء سماوي. إنه البهجة والغفران، والعطش إلى الماء الحي والتلذذ على مائدة الملكوت السماوي. فالصوم يفتح خِزانَةَ الروح القدس ليأخذ الصائمُ الوحي الحقيقي ويمجّد الله على معرفة كمال الحقيقة التي لا يصل إليها إلاّ الصائمون البعيدون عن التلذذ بشرَه الأطعمة الأرضية. ويجعلنا الصوم نشترك في وليمة المسيح السماوية، ونفرح بالغذاء العقلي الذي يفيضه علينا، ويزيّن جسدنا ونفسنا بالبهاء، فنصبح آنية مختارة يحلّ فيها الروح القدس. وهو الطريق الأكيدة التي توصلنا إلى المجد بعد أن نتجرّد عن حطام هذه الدنيا الزائلة. أفراهاط الحكيم الفارسي (من بلاد فارس تنصّر وترهّب درس الكتب المقدّسة): يقول: ”أن الصوم في المسيحية هو أنقى شيء في عيني الرب، وهو كنزٌ في السماء، وسلاح ماضٍ بوجه الشرّ، ودرعٌ ضدّ سهام العدو”، وهو يعدد أنواع الصوم:”… لا يقوم الصوم على الامتناع عن تناول الخبز والماء، بل له مقومات وافرة: منهم من يصوم عن الخبز والماء حتى يجوع ويعطش، ومنهم من يصوم بغية الحفاظ على البتولية. إن جاع فلا يأكل، وإن عطش فلا يشرب. هذا الصوم هو في غاية الجودة. ومنهم يصوم بالقداسة، وهذا صوم سليم، بعضهم يصوم عن اللحم والخمر وأنواع المأكل، وبعضهم يصوم إذ يضع لفمه حاجزاً فلا يتفوّه بكلام سيء. منهم من يصوم عن الغضب ضابطاً نفسه لئلا تقوى عليه، ومنهم من يصوم عن أنواع المتطلّبات ليظل يقظاً في الصلاة، وهناك من يصوم عن رغبات العالم لئلا ينتصر عليه الشرير…إلخ.” لكنه رُغم إشادته بأنواع الصوم يؤكد على أمر واحد أساسي ليكون الصوم مقبولاً، وهو نقاوة القلب، ومنع اليدين من فعل الإثم. فإذا صمت عن الخبز والماء فلا ينبغي أن تمزج بالصوم التجاديف واللعنات، واحدٌ هو باب بيتك، وبيتك هو هيكل الله، فعندما يصوم الإنسان عن السيئات ويأخذ جسد المسيح ودمه، عليه أن يحافظ بكل عناية على فمه الذي به يدخل ابن الملك. (جسد ودم الرب). القديس يوحنا الذهبي الفم يؤكد على أن الامتناع عن الطعام وقتاً محدوداً لا يكفي، إذ إن الصائم عن الطعام وحَسب مَثَلُهُ كمثل التائه في البحر، يتوهم أنه قاصد إلى المدينة غير أنه متجهٌ إلى مكان آخر، وذلك لأنه لا يصوم عن الرذائل ويتمسّك بالفضائل مع صومه عن الطعام. فالصوم الحقيقي هو منع النفس عن اللذات البدنية، ومساعدة الآخرين، ورفع الظلم عن البشر وإعطاء الخبز للجائع، وإنصاف الأيتام والأرامل وتجنُّب المكر والغش والتسليم لإرادة الله كلياً. وفي العظة 31 يختصر جميع الفضائل التي تنتج عن الصوم والصلاة والعفة بفضيلة المحبة التي هي من خصائص تلامذة المسيح. بدون المحبة لا قيمة لصيامنا ولصلاتنا ولصدقتنا. إنها الفضيلة التي تميّز المسيحي الحقيقي في كل ما يقوم به. وباختصار، فإن الصوم، وجميع الفضائل المسيحية، في نظره لا قيمة لها إن لم تكلّل بالمحبة. فالمحبة هي التي تبرهن للعالم أننا تلاميذ المسيح الحقيقيين، وليس صيامنا سوى فعل محبة لأننا من خلاله نريد أن نكون فعلاً تلامذة المسيح. اسحق السرياني كان يشدّد على الصوم في المسيحية المقدّس الذي اعتبره أحلى من عطر المسك وأذكى من أريج الزهر وأثمن من كل كنزٍ في هذه الدنيا. فالصوم هو شفاء الانسان من كل مرض، وهو القيامة من الموت، والاتكاء على مائدة الله، والقداسة التي يجملّ بها الله كل مَن يمارسه. هو قوة النفس، وتهذيب الحواس، والطريق إلى معرفة الله الحقيقية، والبُعد عن الخطيئة، الصوم بَدءُ طريق الله المقدّس. الصوم مقدمةٌ لكل الفضائل، بَدَاءَةُ المعركة، جمال البتولية، حفظ العفة، أبو الصلاة، نبع الهدوء، معلم السكوت. وبمجرّد أن يبدأ الإنسان بالصوم، يتشوّق العقل لعِشرة الله. فالصوم في نظره، هو التمثّل بصوم الرب المخلص بعد عماده، تهيئةً للألم والموت في سبيل الإنسان الذي أُبعد من الفردوس بسبب عدم إطاعته لإرادة الله. إنه التوق إلى الشهادة الحقيقية التي تجعلنا فديةَ ذاتنا وفديةَ الآخرين كما المسيح على الصليب. يقول القديس يوحنا السلمي في كتابه “السلم الى السماء” الصوم في المسيحية هو كبح رغبات الجسد وابتعاد عن الأفكار الشريرة وتحرر من التخيلات المذنبة، هو طهارة الصلاة، نور للنفس ويقظة العقل والقلب معاً. فهو انتظار الرب، هو فتح القلب وتحرره من كل شيء يمكن أن يعرقل هبة فصح المسيح فينا. يقول القديس باسيليوس “الصوم في المسيحية يهدئ النفس، ينقي الفكر، يبعد الشياطين ويطردهم بعيداً ويقرّب الإنسان إلى الله”. احذر أن تصوم فقط عن اللحم وتعتقد أن هذا هو كل ما يُطلب منك، إن الصوم الحقيقي هو الامتناع عن كل رذيلة:” ابعدوا عن كل إثم”(أشعيا 58: 4). هو مغفرة كل إساءة للقريب؛ هو ترك الديون للمحتاجين. إنك ربما لا تأكل لحماً ولكنك تنهش أخاك، إنك تمتنع عن شرب الخمر ولكنك لا تلجم الشهوات التي تلتهب في نفسك، إنك تنتظر حتى المساء لتأكل بعد الصيام، ولكنك لا تلبث كل النهار في المحاكم لأجل المخاصمة. إن الغضب هو سكر حقيقي في النفس لأنه يبلبلها. ويتابع:” لست أعني بالصوم ترك الطعام الضروري لأن هذا يؤدي إلى الموت، ولكن أعني ترك المأكل الذي يجلب لنا اللذة ويسبب تمرد الجسد. إن الصوم الحقيقي هو سجن الرذائل وأعني ضبط اللسان وإمساك الغضب وقهر الشهوات الدنسة. كما اتبع هذه الطريق القديسون، ونذكر منهم القديس جان ماري فيانيه (خوري آرس) شفيع الكهنة، الذي اعتمد على الصوم والصلاة لطرد الشيطان:” سأقهرك، أيها الشيطان الخطّاف، بنعمته تعالى”. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مفهوم الصوم عند البعض من آباء الكنيسة |
من هم آباء الكنيسة الأوائل؟ |
كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج |
من هم أباء الكنيسة ؟ |
آباء الكنيسة |