اهداف زائفة
ولكن الشيطان لا يعجبه هذا إنه يجول في الأرض يوزع أهدافاً .
ويبذر ويزرع أغراضاً وآمالاً ورغبات وكل ذلك بغية أن يتوه الإنسان عن هدفه الروحي الوحيد الذي هو الالتصاق بالله ، والاستعداد للأبدية . وبالأهداف العالمية التي يوزعها الشيطان : يتلظى أهل العالم في جحيم من الرغبات ، لا يمكن أن تشبعهم إذ أن في داخل حنيناً إلى غير المحدود . وكل ما في العالم محدود ...
أول هدف يقدمه الشيطان هو بالذات ...
فتصير الذات صنماً يعبده الإنسان وتصير ذاته هي محور ومركز كل تفكيره يريد أن يبنى هذه الذات ، ويكبرها ويبنيها ، ويجعلها موضع رضي الكل ومديحهم . وينشغل بذاته بحي يهمل كل شئ في سبيلها ، حتى علاقته بالله .
هكذا تصير الذات منافساً لله ...
تدخل أولاً إلى جوار الله في القلب ثم تتدرج حتى تملك القلب كله ، وتبقي وحدها فيه ، فيتحول الإنسان إلى عبادة الذات ويظل كل يوم يفكر : ماذا أكون ؟ ومتى أكون ؟ وكيف أكون ؟ وكيف أتطور إلى أكبر وأعظم ... ؟
ويا ليته بذاته اهتماما روحياً ...
إذن لكان يبذل من أجل الله ومن أجل الآخرين ، ويحيا من أجل الآخرين ، ويحيا حياة المحبة التى تضحي ، وتبذل نفسها فدية عن الآخرين . وحينئذ يجد ذاته ، أعنى الوجود الحقيقي يجدها في القاسة وفي البر والكمال ، في الله نفسه ... إن بولس الرسول ، من أجل الحياة مع الله قال " ولا نفسي ثمينة عندي " ( أع20 : 24 ) . أما الذي يهتم بذاته بربطها بشهوات العالم فإنه بالتالي :
يجعل شهوات العالم هدفاً له .
وهكذا يضع أمامه بريق العالم الحاضر وأمجاده ، وملاذه ولهوه ، وأحلامه وأمانيه ، وينشغل بكل هذا حتى ما يتفرغ لأبديته . ويبقى مخدراً بشهوات الدنيا ، ما يضيق منها إلا ساعات الموت ، حينما يتركها كارهاً ...! أما أنت ، فلا يكن لك هذا الفكر ولا هذا الاتجاه ، وإنما :
كل هدف يبعدك عن الله وعن خلاص نفسك اعتبره خدعه من الشيطان وارفضه في حزم ...
وكذلك أرفض كل وسيلة تبعدك عن هدفك الروحي . ولا تسمح مطلقاً بأن تكون ذاتك منافساً لله في قلبك ، ولا تسمح بأن يصير العالم هدفاً . فإن الكتاب يقول إن " العالم يبيد وشهوته معه " ( 1يو2 : 17 ) . ويقول أيضاً إن محبة العالم عداوة لله ( يع4 : 4 ) .
إذن راجع منذ الآن كل أهدافك وكل وسائلك ، في ضوء اهتمامك بأبديته : وفي ضوء هدفك الروحي الذي هو محبة الله .
إن كل هدف ضد ملكوت الله هو انحراف عن الخط الروحي .
وكل شئ يصطدم بمحبة الله في قلبك ، اتركه مهما تكن قيمته . كما قال القديس بطرس للرب " تركنا كل شئ وتبعناك " ( متى19 : 27 ) .
إن يوسف الصديق خسر حريته حينما بيع كعبد وخسر سمعته حينما ألفي في السجن ، وخسر أبوية وأخوته ووطنه حينما عاش في بلد غريب ... ولكن كان يكفيه وقتذاك ، الله وحده . كان هو هدفه .
الذي هدفه هو الله لا يتأذى إن خسر أي شئ عالمي .
إبراهيم أبو الآباء كان الله هو هدفه لذلك سهل عليه أن يترك أهله وعشيرته ووطنه ( تك12 : 1 ) ويتغرب وهو لا يعلم إلى أين يذهب ( عب11 : 8 ) بل سهل عليه أن يأخذ أبنه ليقدمه محرقة للرب ... وبولس الرسول سهل عليه أن يترك المركز السلطة والصلة بالقادة ، إذ لم يكن شئ من هذا هو هدفه ... واستطاع أن يقول " خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية ، لكي أربح المسيح " ( في3 : 8 ) . وهذا هو هدفه الذي من أجله خسر كل شئ ، دون أن يحزن .
ودانيال النبى : لم يأبه بالقصر الملكي ، ولا بالوظائف ، ولا بكل أطايب الملك ، ولم يأبه حتى بحياته إذ ألقى في جب الأسود ، إذ كان له هدف واحد تضائل أمامه كل شئ ...
إن الذي هدفه هو الله لا يجعل حتى الأمور الروحية هدفاً له !
البعض قد يجعل الصلاة هدفاً له ، فيصلى ليس من أجل محبته لله ، وإنما لكي يكون رجل صلاة ! ويتهم بالدراسة اللاهوتية كهدف ، لا لكي يعرف الله فيثبت فيه ، إنما لكي يصير من علماء اللاهوت ، يعطية العلم شهرة ومكانه وعظمة ! وهكذا ، أيضاً ، قد يتحول الصوم إلى هدف ، ويتحول كل عمل روحي إلى هدف ، يعمل الإنسان لكي يرضي عن نفسه ، أو لكي يرضى الناس عنه !!
بينما كل هذه وسائط وليست أهدافاً ، فالهدف هو الله .
الصلاة والصوم والمعرفة : وكذلك التأمل والقراءة ، كل هذه هي مجرد وسائل توصلك إلى هدفك الوحيد الذي هو الله ومحبته . والارتباط به . فإن جعلتها هدفاً تكون قد قصدتها لذاتها ... وقد تتقدم فيها ، وتكون بعيداً عن الله الذي قال " هذا الشعب يكرمني بشفتيه . أما قلبه فمبتعد عني بعيداً " ( متى15 : 8 ) .
وقد تصبح الرهبنة والتكريس هدفاً !
ولكن الرهبنة هي مجرد وسيلة توصل إلى الله . ولذلك عرفوها بأنها ـ الانحلال من الكل للارتباط بالواحد ـ فإن تحولت إلى هدف ، تحولت الوحدة إلى هدف ، والصمت إلى هدف فما أسهل أن تكسر وصايا الله من أجلها ! فيتخاصم الراهب مع الدير من أجل حياة الوحدة . يعيش كمتوحد دون أن تكون له فضائل الوحدة ، دون أن ينمو في محبة الله . وفي هذا قال مار اسحق " هناك من يجلس خمسين سنة في القلاية ، وهو لا يعرف طريقة الجلوس في القلاية " .
والبعض قد يجعل الإصلاح هدفاً ...
وبسبب الإصلاح يثور ويتخاصم : ويدين الآخرين ويشهر بهم ، ويفقد محبته للناس ، ويفقد هدوءه وسلامة ويشتم ويسب ، ويتحد ويصخب ، ويتحول إلى قنبلة متفجرة تقذف شظاياه في كل مكان . وفي كل ذلك تبحث عن علاقته بالله ، فلا تجدها . لقد أصبح ـ إصلاحاً ـ بدون الله وبدون محبة وصارت غيره بلا تدين !
وهكذا أيضاً في الخدمة :
كثيرون بدأوا بالخدمة .. وأنتهوا بأنفسهم !
بدأوا بالسعي إلى مجد الله ، وانتهوا بمجد أنفسهم ! بدأوا الخدمة وهدفهم هو الله . ثم وضعوا الخدمة إلى جوار الله : وأحياناً قبله . ثم تركزوا في الخدمة وصارت لهم هدفاً ونسوا الله . ثم بحثوا عن نجاح الخدمة . ثم صار نجاح الخدمة هو نجاحهم الشخصي . وانتهوا إلى الذات وإذ وصلوا إلى هذا ، تحولت الخدمة إلى مجال للسيطرة والظهور ، وأصبحت مجرد نشاط واستخدام للطاقة وربما أصبحت وسائلها بعيدة عن الله تماماً ، فيها الذكاء والحيلة والدهاء . وضاع الهدف الروحي الذي هو الله !
أما أنت ففي كل عمل روحي ، قل مع داود النبي :
جعلت الرب أمامي في كل حين :
وليكن الله هو هدفك الوحيد . أنت من أجله تخدم . وإذا تعارضت الخدمة مع الله ، اتركها . لأنه ما أسهل على الشيطان أن يتيهك حتى في داخل الكنيسة . وتذكر إن الإبن الضال الكبير ابتعد عن محبة أبيه وهو في صميم الخدمة " يخدمه سنين هذا عددها " ( لو15 : 25 ـ 32 ) .
لذلك كله فإن الله يسألك أين أنا في وسط أهدافك ؟
أجب عن هذا السؤال بصراحة كاملة : هل الله أحد أهدافك ؟ أم هو الهدف الأول ؟ أم الهدف الوحيد ؟ أم أنه ليس هدفاً على الإطلاق ؟ أم تضعه في آخر القائمة : قد تتذكره أحياناً ، وقد لا تتذكره ! أم أن الله قد تحول في نظرك إلى مجرد وسيلة لتحقيق أهدافك ! وإن لم يحققها لك : تغضب منه وتثور ، وقد تقطع صلتك به .
هل تحب الله كما أحبك ؟
وهل قلبك كله له ؟ أم هناك أهداف جانبية إلى جوار الله ، تسعي أن تكون هي الأصل ؟
هل تفكر في أبديتك ـ وقبل أن تصل إلى أحضان القديسين ، تصل إلى أحضان الله ؟
حسبما يكون هدفك هكذا تكون حياتك وهكذا تكون وسائلك . فراجع نفسك ...