السلوك في الطريق وحياة القداسة
· فكما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه؛ لأنكم كنتم قبلاً ظُلمة وأما الآن فنور في الرب، اسلكوا كأولاد نور؛ اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد؛ اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة.[1]
· فأن الذين يحفظون بقداسة ما هو مُقدَّس يُقدَّسون، والذين يتعلَّمون هذه يجدون ما يحتجون به؛ الله لم يَدْعُنَا للنجاسة بل في القداسة.[2]
الله دعانا دعوة سماوية عُليا شريفة للحياة والمجد،
وحينما قبلنا دعوته بالتوبة وبوعي الإيمان دخلنا في سرّ الولادة الجديدة الفوقانية، صرنا أبناء الله الآب في المسيح يسوع، وهذا ليس نتيجة أعمال عملناها نحن، لأننا لا نستطيع، لأن ليس هذا في إمكانيتنا بسبب تملك الخطية بالموت علينا حتى صرنا عبيد شهوات قلوبنا وأرض قلبنا لم تُفلح فلاحة الله، لأنها أرضاً غير جيدة لا تتقبل غرس كلمة الله الصالحة، بل بسبب الشوك والحسك الذي فيها فأن حينما تُلقى فيها بذرة كلمة الله فأنها تنمو إلى حين ثم يخنقها الشوك فلا تنمو حتى تُثمر، لكن من أجل تجسد اللوغوس ابن الله الحي صارت ارضنا مهيأة لزرع الله الخاص، لأن وحيد الآب أتخذ جسدنا رداءً لهُ متحداً به اتحاداً تاماً لا رمزية فيه، بسرّ فائق لا يُشرح أو يوصف، حتى يكون هو رداء عُرسنا الدائم، ونصير متحدين به، فنحن آمنا به ابناً وحيداً للآب، فدخلنا – بالتالي – في سرّ البنوة، ولما تبعناه – حسب دعوته لنا – وحسبنا كل الأشياء خسارة ونفاية، دُعينا مسيحيين لا بالاسم بل بالفعل، لذلك صرنا الإخوة القديسين[3] المؤمنين في المسيح يسوع[4]، شركاء الدعوة السماوية[5].
لذلك فأنه من المستحيل أن نصير إخوة من طبع واحد جديد،
شركاء الدعوة السماوية، ونحن لم نحيا بعد حياة القداسة في سرّ التقوى، لأن كيف نقول إننا مؤمنين بالمسيح ونحن لسنا بعد قديسين، أو لم تتحقق فينا القداسة بعد، وذلك بفعل عمل الروح القدس روح القداسة والبرّ، لأن الإيمان بالمسيح معناه أن كلمته انغرست فينا، وبدأنا نتغير عن شكلنا ونصير قديسين ومقدسين في الحق، باستمرار ودوام ونمو دائم.
وما هي القداسة التي بدونها لن يُعاين أحد الرب، والتي أعلنها لنا الإنجيل؟
+ القداسة في أصلها هي هبة المحبة الكاملة من الله للإنسان،
أي أنها عطية خاصة مُميزة، يُميزها ملء الروح القدس. لذلك فأن القداسة هي تقديس النفس وتخصيصها لله وحده، وهي تتضمن – بالتالي وبالضرورة – تجديد النفس وتغييرها باستمرار، وهذا التجديد يأتي من النظر لوجه النور بدوام، لأن الروح القدس يفتح العينين على مسيح القيامة والحياة لننظر إليه فنستنير، فنثبت أنظارنا عليه لا على أنفسنا. وبذلك تتوجه الرغبات والميول والأفكار والأهداف نحو الله، بحيث تتحطم قوة ميل الخطية من داخل قلب الإنسان يوماً بعد يوم، وتُصبح الطهارة والبرّ والصلاح والتقوى رغبة وصرخة القلب القوية والتي وحدها صار لها السلطان على ميل القلب الخفي، لأن الروح القدس نفسه يولِّد هذه الأشواق ويزرعها في داخل النفس سراً، لتصير محور طلب الإنسان وسعيه الدائم المستمر حتى تملأ الكيان كله وتنفرش عليه، وتشع وتغطي حتى الخارج فيكون كلياً مكسياً برداء القداسة والطهارة، حتى يظهر كأن هذا هو حاله الطبيعي، ولا عجب، لأن الطبيعة الجديدة التي نلناها من الله هي طبيعة نورانية مملوءة قداسة وبرّ المسيح الرب، ولا ترتاح إلا حينما يتم فيها قصده، إذ تتشبه به في كل شيء، لأن لا يرتاح المثيل إلا على مثيله، لذلك نجد القديس بولس الرسول يُصلي للتسالونيكيين ويقول: وإله السلام نفسه يُقدسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح[6]؛ حيث (يقدسكم) هنا تُفيد معنيان:
(1) الفرز والتخصيص، (2) التطهير والتنقية
وإن كان المعنيان متلازمان، ولكن المقصود هنا هو التطهير والتنقية[7]،
والمقصود بها قوة التحرير الكامل من الفساد الروحي[8]، وأيضاً الكل كاملاً[9]، وأيضاً كل الأغراض والمقاصد وجميع قواكم مجتمعة ومجزأة، والقصد هو عجن الطبيعة الإنسانية، أي أن كل جزء منكم بالتمام يصير مُخصصاً للرب، أي مُقدس ومحفوظ في الكمال ليكون بلا لوم.
وهنا يقف الإنسان عاجزاً بالتمام عن هذا العمل العظيم،
لا يستطيعه من ذاته ولا يقوى عليه بأعماله، ولئلا يظن أحد أنه يقدر – من نفسه – أن يفعل ذلك، يُلاحقنا القديس بولس بالقول: أمين هو الذي يدعوكم، الذي سيفعل أيضاً.[10]، فالله الذي دعانا بالمجد والفضيلة[11] دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية[12] هو الذي – بنفسه وبذاته شخصياً – سيفعل ويتمم فينا إرادته (أن أطعناه) ليُكملنا في كل عمل صالح لنصنع مشيئته، عاملاً فينا ما يُرضيه بيسوع المسيح ربنا[13]
+ فالله في طبيعته قدوس بار:
من مثلك بين الآلهة يا رب. من مثلك معتزاً في القداسة[14]. وفي طبيعة الله القدوس تعني هنا الخلو الكامل والتام من شبه خطأ مع الطهارة التامة المُطلقة، وهي أخص صفاته، وتُميزه بنوع كُلي عن جميع الأفكار الإنسانية عن الألوهة، وتجعله يبغض المعصية والخطية، ويُؤدب الخاطئ والأثيم حسب محبته الأبوية، ليضع حداً للآثام والشرور لتُنزع نزعاً من داخل قلب الإنسان ليصير طاهراً.
+ والله خلق الإنسان وشكله على صورته كمثاله (شبهه)
أي خلقه في البرّ والقداسة[15]، ومع أن الله يترفق بضعفنا متذكراً بأننا تراب ولم نحفظ صورته فينا، بل شوهناها، بل وفقدنا مثاله فينا، وذلك لأنه يعرف جبلتنا الضعيفة، يذكر أننا تراب نحن[16]، ولكنه مع ذلك يُطالبنا ويُريد قداستنا كأمر هام ومُلِّح لحياتنا وشركتنا وعلاقتنا معه.
v ويكون الذي يبقى في صهيون (رمز الكنيسة المسيحية) والذي يُترك في أورشليم (رمز لمدينة الله السمائية) يُسمى قدوساً كل من كُتب للحياة في أورشليم، إِذْ يَغْسِلُ الرَّبُّ قَذَرَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ، وَيُطَهِّرُ أُورُشَلِيمَ مِنْ لَطَخَاتِ الدِّمَاءِ بِرُوحِ الْعَدْلِ وَبِرُوحِ النَّارِ الْمُحْرِقَةِ[17]
+ فآدم الذي خُلق على صورة الله كمثاله فَقَدَ قداسته بالسقوط،
أي من حالته المخلوق عليها، وسقطت معه البشرية كلها من هذه القداسة، لأن الكل بدوره أخطأ أيضاً بكامل حريته وإرادته: من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع.[18]، فالموت اجتاز ووصل للجميع بلا استثناء، بل وقد تثبت سلطانه وقويت شوكته إذ أن الكل أخطأ وزاغ وفسد.
فأصبح مركز شخصية الإنسان هو ذاته،
ونتاج حياته (أي قلبه) دنس وموت وفساد، فصار العيب كله يصدر من القلب، أي من الداخل وليس من الخارج، وبذلك تدنست روح الإنسان، فتولَّد حُزن وقلق وعدم سلام في أعماقه بسبب وجعه الداخلي، لأن الينبوع يُخرج مرارة، أي أن نبع حياته نفسه شرّ والخطية متجذرة فيه[19]، لا يستطيع ان يقتلعها لأنها حاملة سلطان الموت، لذلك صرخته إلى الله: قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدده في أحشائي.[20]
فلا مفرّ من خلق قلباً جديداً في داخله، وروحاً مستقيماً في أحشائه،
لأنه لن ينفعه تصحيح أو أن يُصلح ويُرمم ما قد هُدم، لأن القديم الساقط لا يُمكن أن يُخرج الصالحات لأنه ميت في ذاته مثل الجسد المقطوع الرأس، مملوء من كل فساد، مثل الشجرة الميتة تماماً والتي أكلها السوس من داخلها، لا ينفعها علاج مهما ما كانت قوته، لأنه ماتت، بل لا بُدَّ أن يتم اقتلاعها من جذورها وزرع غيرها، فلا بُدَّ إذاً من إنسان جديد يكون طبيعياً حياً بالله مملوء من كل صلاح.
+ من هُنا فقط نستطيع القول إن القداسة تبدأ
مع تغيير القلب وتقديس الروح: وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الإخوة المحبوبون من الرب، أن الله أختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق.[21]
+ فالعلاج الأساسي للقداسة هو الوصول للمسبب أي القلب،
والعلاج يكون بالتجديد الدائم المستمر، والنفس تحيا بالاستقامة في سرّ التقوى، ولكن هُناك علاقة بين القلب (مركز شخصية الإنسان وذاته وضميره) وبين الذهن الأعلى (المُنظم الواضح بين العقل والروح) المنظم الحي لحركة العقل والبصيرة في الإنسان؛ فلو كان ذهن الإنسان به عيب، حتى لو كان له عقل راجح وبصيرة قوية، فلا بُد أن تخلو حياته من الرفعة الروحية والقداسة. وسيقضي الإنسان أيامه في حماقة وتعثر لا يتوقف، ولا يقدر أن يُعبِّر عن الذي في داخله بصدق من جهة الإنسان الجديد الذي ناله من الله، فالعيب هنا ظهر في أن الذهن لا يتحرك ولا يسير بقوة التغيير والتجديد الذي يناله الإنسان من الله: كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهر، بل قد تنجَّس ذهنهم أيضاً وضميرهم، يعترفون بأنهم يعرفون الله ولكنهم بالأعمال ينكرونه، إذ هم رجسون غير طائعين، ومن جهة كل عمل صالح مرفوضون.[22]
+ لذلك لا بُد من أن يستمد الإنسان الروحي عمل الروح بذهنه ويعيش به في كل حياته،
لأن الروح القدس هوَّ المُقدِّس الذي يعمل في الذهن والقلب اللذان هما الأساس لتغيير الإنسان: تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم.[23]، وبذلك يظل الروح القدس عاملاً في الذهن والضمير والقلب والفكر بنداء صوت الله القوي ضد أعمال الجسد الشرير والخطية بصفة عامة وذلك للتقديس: اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد.[24]
+ وبسيادة الروح القدس على الذهن الروحي في الإنسان وقبول تبكيته والاستجابة السريعة لمشورته،
يمتد عمل الروح من الذهن إلى أعمال الجسد وكل ملكات الإنسان، فيُمارس الإنسان القداسة بفرح ومسرة حقيقية دون غصب أو عن اضطرار وصراع نفسي، لذلك أستطيع أن أقول بسبب عمل الروح القدس في داخلي: إني أُسرّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن الداخلي الجديد، وبذهني المُستنير أخدم ناموس الله وأتممه بفرح.
+ وباستمرار الإيمان، وزيادة نموه،
بخلاص الله لنا في المسيح واشتعال محبته في قلبنا، يكون ذلك تأكيد الروح لقداستنا، الذي يعمل على تأجيجها فينا دائماً: كما اختارنا (الآب) فيه (في المسيح) قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة.[25]
+ فالمسيح الرب هو مصدر قداستنا الوحيد،
وهذا ما يشهد به الروح القدس فينا: بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة؛ ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء؛ الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات[26]
+ فهذا هو المسيح الظافر،
الغالب والمنتصر على الخطية والموت، والقائم من الأموات والمُعطي الروح القدس بالنفخة السرية، الذي يشعله فينا من خلال الأسرار المقدسة، أي المعمودية والتوبة والإيمان والإفخارستيا وصلاة المخدع وقراءة الكلمة.
فكل من آمن به إيمان حي حقيقي،
قد صار فيه خليقة جديدة (مقدسة). والأشياء العتيقة قد مضت، ولم يعد يحيا بإنسانيته الساقطة، بل قد صار له الكل جديداً. [27]، إذ يتبع مسيح القيامة والحياة في التجديد.[28]
_____________
[1] (كولوسي 2: 6؛ أفسس 5: 8؛ غلاطية 5: 16؛ أفسس 5: 2)
[2] (الحكمة 6: 11؛ 1تسالونيكي 4: 7)
[3] (1تسالونيكي 5: 27)
[4] (أفسس 1: 1)
[5] (عبرانيين 3: 1)
[6] (1تسالونيكي 5: 23)
[7] الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم ويُطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة (تيطس 2: 14)
[8] روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصرـ وأُرسل المنسحقين في الحرية (لوقا 4: 18)
[9] الذي ننادي به منذرين كل إنسان ومُعلمين كل إنسان بكل حكمة لكي نحضر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع (كولوسي 1: 28)
[10] (1تسالونيكي 5: 24)
[11] (2بطرس 1: 3)
[12] (2تيموثاوس 1: 9)
[13] (عبرانيين 13: 21)
[14] (خروج 15: 11)
[15] وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا (تكوين 1: 26)
[16] (مزمور 103: 14)
[17] (أشعياء 4: 3، 4)
[18] (رومية 5: 12)
[19] الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يُخرج الشرّ، فأنه من فضلة القلب يتكلم فمه (لوقا 6: 45)
[20] (مزمور 51: 10)
[21] (2تسالونيكي 2: 13)
[22] (تيطس 1: 15)
[23] (رومية 12: 2)
[24] (غلاطية 5: 16)
[25] (أفسس 1: 4)
[26] (1بطرس 1: 15؛ 1كورنثوس 1: 30؛ غلاطية 5: 24)
[27] (2كورنثوس 5: 17)
[28] فقال له يسوع الحق أقول لكم انكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد (متى 19: 28)