رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تتّخذ الأمومة معنى أشمل وأوسع من مبدأ الإنجاب لترتبط بمبدأ الاحتواء. كلّ امرأة أمّ ولكن ليست كلّ أمّ امرأة. وحينما نريد الحديث عن المرأة "الأمّ" لا بدّ من أن نتطلّع إلى السّيّدة الكلّيّة الطّهارة لندرك أهمّيّة حضور المرأة الأمّ، فنفهم أنّ كلّ ما نبحث عنه من حرّيّة وتحرّر، وحقوق وإثبات للوجود حاضر في سيّدتنا والدة الإله. يحتلّ الصّمت القسم الأكبر من حياة السّيّدة، ونكاد لا نسمع لها صوتاً في الإنجيل المقدّس إلّا نادراً. لكنّ صمتها فاعل ومُدَوٍّ ومعلّم لكثيرين وكثيرات يتكلّمون أكثر ممّا يفعلون. الصّمت رفيق الحكمة والتّأمّل وهو دلالة على الارتباط بالكلمة. لقد حملت مريم الكلمة في أحشائها، في كيانها كلّه، وأصبحت أمّاً للكلمة، يسوع المسيح، والمصغية إليه في آن. ولا يمكننا الحديث عن مريم بمعزل عن المسيح، وهي الّتي احتوته وعرفته معرفة عميقة ويقينيّة. هي أمّه وهي المؤمنة به، المرافقة له والمجاهدة بثبات في حمل صليب المحبّة. إنّ مرحلة حمل مريم ليسوع المسيح أبعد من حمل مؤقّت ومرحليّ لأنّها حملته طيلة حياتها، وبه حملتنا جميعاً واحتوتنا كأمّ وامرأة. كأمّ، احتوت مريم كلّ إنسان وتسهم في تربيته ونموّه الإيمانيّ. "ورأى يسوع أمّه وإلى جانبها التّلميذ الحبـيب إليه، فقال لأمّه: يا امرأة، هذا ابنك. وقال للتّلميذ: هذه أمّك. فأخذها التّلميذ إلى بيته من تلك السّاعة." (27،26:19). لو كان الرّبّ يقصد التّلميذ وحسب فلا أحد منّا معنيّ بأمومة مريم. وإنّما الرّبّ عنى كلّ واحد منّا لنأخذ مريم إلى خاصّتنا كما فعل التّلميذ. وبهذا الفعل ندخل في سرّ الاحتواء الأموميّ لمريم، وسرّ المرأة الّتي تحتوي سواء أكانت أمّاً أم لم تكن. لأنّ الأمومة ليست فعل إنجاب بل هي فعل منح الحياة بمعناها العميق. تمنحنا مريم الحياة انطلاقاً من المسيح إذا ما أخذناها إلى خاصّتنا. وبالإشارة إلى لفظ (امرأة) جعل الرّبّ مريم مستقلّة بذاتها وهي المرتبطة به. ما يعني أنّ العلاقة مع الرّبّ تمنحنا الاستقلاليّة ليس كنساء وحسب وإنّما كإنسان. (يا امرأة) المخلوقة على صورة الله ومثاله، الّتي يوجّه لها الرّبّ كلامه كشخص ويمنحها القيمة لذاتها. وما يعني أنّ الاستقلاليّة هي إيجاد الحياة في المسيح فيكون لنا فكره وقلبه. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: اتّحدت أمّ الله عقليّاً بالله بدوام الصّلاة والتّأمّل وفتحت طريقاً نحو السّماء جديداً. سَمَتْ به فوق المبادىء والظّنون الّذي هو الصّمت العقليّ والصّمت القلبيّ. "وأمّا مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكّرة به في قلبها." (لوقا 19:2)، حملت مريم المسيح في عقلها وقلبها، فاستقلّت عن العالم وضجيجه. ما أمكنها من تحقيق ذاتها في المسيح. بمعنى آخر، هي مريم، المرأة الشّخص، الّتي أثبتت حضورها كامرأة وأمّ تطوّبها جميع الأجيال. الاتّحاد العقليّ والقلبيّ بالله يحقّقان معنى الوجود الإنسانيّ لأنّه إذا ما ارتبطنا بالحبّ الإلهيّ نفهم سبب وجودنا وغايته. ومريم ومنذ اللّحظة الأولى فهمت هذا الأمر حيث قالت للملاك: "ها أنا ذا أمة الرّبّ فليكن لي بحسب قولك" (لوقا 38:1). هي الأمة الحرّة، وبهذه الحرّيّة شاركت في مشروع الله الخلاصيّ، ووثقت أنّ النّهاية مفتوحة على البدايات، على القيامة. فكانت الأمّ الّتي احتوت الإنسان والمرأة الّتي احتوت المعرفة والإيمان بيسوع المسيح. كلّ إنسان عموماً، وكلّ امرأة خصوصاً مدعوّة لتحقيق استقلاليّتها وحرّيّتها، كما أنّها مدعوّة لإدراك قيمتها الإنسانيّة الحقيقيّة المرادفة للاحتواء المعرفيّ والإيمانيّ، على مستوى العقل والقلب. وفي كلّ مرّة نتطلّع إلى مريم ونتأمّل صمتها وإيمانها وقداستها وجمالها ينكشف لنا معنى منح الحياة بيسوع المسيح. فكلّ من يحمل المسيح في أحشائه يمنح الحياة لكثيرين. |
|