القديسون وشركة الكنيسة
علاقة القديسين بالكنيسة..
الكنيسة هي المَعمَل الإلهي الذي يَصنع القدِّيسين، ومَن يعيش في شركتها تسري فيه تيارات النعمة الإلهية التي تُقَدِّس النفس وتُظهِر صورة المسيح فيها.. فالكنيسة هي جسد المسيح، وبديهي أنه لا قداسة خارج المسيح، فلا يمكن لإنسان معزول عن الكنيسة أن يتمتَّع بالقداسة بمفرده مهما كانجهاده، مثل الشجرة التي لا يمكن أن تنمو وتثمر دون أن تكون مغروسة على مجاري المياه الحيّة .. هذه الينابيع الفيّاضة التي كشف لنا الكتاب المقدَّس أنها تجري من المذبح (حز47)..
فالقديس إنسان عاش في شركة الكنيسة.. شركة الإيمان المستقيم بلا انحراف، وشركة الأسرار المقدَّسة، وشركة الخدمة والإحساس بكل عضو في الجسد"احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح"(غل2:6)..
وإن كنَّا نسمع عن قديسين عاشوا منفردين في الصحراء للخلوة والصلاة، فهؤلاء لم يكونوا منعزلين عن الكنيسة بل ظلُّوا قطعة حيّة منها؛ يصلُّون لأجل الجميع، ويقدّمون الإرشاد والتعليم والخبرات الروحانية للكثيرين، لقد حملوا الكنيسة في قلبهم وتلامسوا مع احتياجاتها، ولم يكونوا أبدًا منعزلين عنها..
فمثلاً.. الأنبا بولا أول السواح الذي لم يرَ وجه إنسان أكثر من 70 سنة، والذي لم تكن الأرض تستحق وطأة قدميه بشهادة السماء.. قيل عنه أن الله بصلاته كان يُسقِط الأمطار ويفيض بمياه النيل، وهذا يكشف عن أن الأنبا بولا كان يهتمّ في صلاته بالطلب من أجل هذه الأمور الأساسية لحياة الناس ولسلامة العالم، وبالتالي فهو لم يَكُن مُنعزِلاً أنانيًّا، بل كان يحتضن العالم بالحُب، يَشعر بآلام المتألّمين واحتياجات المحتاجين، ويساهم بفاعلية في خدمتهم..!
وهناك الكثير من القصص التي نقرأها في حياة المتوحِّدين، تؤكِّد هذا الكلام.. ونذكر قصّتين على سبيل المثال؛ قصة من حياة الأنبا بيشوي، وقصة من حياة الأنبا شنودة رئيس المتوحدين:
* حدث أن سمع الأنبا بيشوي عن شخص يُعَلِّم الشعب في إحدى البلاد تعليمًا خاطئًا، بأن الله أقنومين فقط "آب وابن"، فعزّ عليه هلاك شعب هذه البلدة إذا ظلّوا ثابتين على هذا الإيمان المنحرف، فصلّى ليرشده الله لِما يمكن أن يفعله.. فألهمه الله بفكرة طريفة.. أن يصنع قففًا ذات ثلاثة آذان ويذهب ليبيعها هناك في البلدة. وبالفعل صنع كمية من القفف وذهب إلى هناك ليبيعها، وعندما تعجّب البعض وسألوه: لماذا تصنع للقُفَف ثلاثة آذان، مع أن أذنين فقط يكفيان؟! كانت إجابته أنه يؤمن بالثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس، ويحب أن يصنع كل شيء على مثال الثالوث. فتعجّب الحاضرون، وقالوا: نحن نعرف الآب والابن ولكننا لا نعرف الروح القدس. فبدأ الأنبا بيشوي يشرح لهم أن الله ثالوث؛ جوهر واحد في ثلاثة أقانيم، كما كشف لنا الكتاب المقدس [مت19:28، لو35:1، 2كو14:13، 1يو7:5، عد6: 22-27 وشواهد أخرى كثيرة] فآمنوا جميعًا بما فيهم معلِّمهم، واعترفوا بالثالوث القدوس. وهكذا كسبهم الأنبا بيشوي للإيمان المستقيم وأنقذهم من الهرطقة والضلال..
والسؤال هنا: مَن الذي كلّف الأنبا بيشوي بالقيام بهذه المُهمّة، سوى إحساسه بعضويته في الكنيسة، وغيرته على خلاص كل نفس فيها..؟!
* ونقرأ عن الأنبا شنودة رئيس المتوحّدين أنه، على الرغم من رعايته لأكثر من أربعة آلاف راهب، كان مواظبًا على وعظ شعب المناطق المحيطة أسبوعيًّا لشرح الإيمان وغرس المفاهيم الروحية في قلوبهم، ولاسيّما أن الوقت كان متزامنًا مع ظهور الهرطقة النسطورية، فقام بدوره في تثبيت الإيمان السليم، بل وذهب مع البابا كيرلس الأول إلى مجمع أفسس عام 431م ليعضّده في مواجهة نسطور.. وعندما حدثت مجاعة لسبب ضعف فيضان النيل في إحدى السنوات، فتح مخازن الأديرة لشعب المنطقة ليأخذوا قمحًا بلا حساب كما يحتاجون..!
هذه المواقف، وغيرها.. تكشف عن أن القدِّيسين كانوا على درجة عالية من الإحساس بإخوتهم في الكنيسة، وكان لهم دورهم الفعَّال كأعضاء في جسد المسيح..!
ثباتنا في الكنيسة.. في جوّ العبادة والتعليم والخدمة، هو الضمانة الأكيدة أنّنا نسير في طريق القديسين نحو أمجاد الأبديّة.
القمص يوحنا نصيف