كلام مذهل للمتنيح الأب متي المسكين
عن بداية دخوله سلك الرهبنة
عندما دخلت الرهبنة، فى سن 30 سنة، بدأت أسهر على لمبة جاز نمرة ,5 وكنت أحاول التقليل من إضاءة الشريط حتى لا يستنفد الجاز، لأن تموينى فى الشهر كان فقط ملء زجاجتين من الجاز، وكنت أريد أن أسهر كل ليلة، فقلت: يارب، أعطنى نعمةً، وصليت كثيراً حتى انفتح الإنجيل أمامى وصرت أستوعب كثيراً، «كانت هذه هى الانطلاقة الكبرى (الخروج من العالم) لأننى اجتزتها بحب، دخلت عاشقاً للرهبنة، عاشقاً الوجود مع الله، لا أريد شيئاً من الدنيا ولا من الرهبنة ولا من الكنيسة، لا أريد وظيفة، ولا أريد حتى أن أكون شماساً. فقد أخذت عهداً على نفسى ألا أكون شماساً ولا قسيساً طول عمرى. ولكن بعد أربع سنوات أمسكونى مرة بخدعة داخل الكنيسة ورسمونى غصباً عنى قسيساً مرة واحدة. «أنا أريد ربنا ولا أريد قسوسية، ماذا أعمل بالقسوسية؟ إذن، لكنت أبقى فى العالم وأعمل قسيساً! وأنا كنت فى العالم لى نشاط فى الخدمة، لكنى أريد الرب لأعيش معه، أريد أن أعطى له عمرى ووقتى. فتركت كل شىء وانطلقت الانطلاقة العظمى التى بها وصلت، وما على إلا ملء الطريق كما ينبغى لإنسان اختار ملكوت السموات وأن يرث يسوع المسيح وأن يعمل لحساب ملكوت السموات كل يوم.
«الراهب هو الشخص السريع التوبة، إذ يرجع باللائمة على نفسه دائماً، فهو يعلم جيداً أن النمو الروحى المنشود، مقياسه الحقيقى ليس فقط فى الخدمة والبذل والتضحية من أجل الله والناس؛ بل أيضاً احتمال الإهانة ومحقرة الذات كل يوم، ولا أنسى قط تقريراً نطقه مرةً أب مختبر إذ قال: [إن الرهبنة بدون مذلة ليس لها طعم]!.
«أنا نفسى غسلت أرجل كثيرين، لأن زمان قبل ظهور العربات كان الشخص يأتى إلى الدير سائراً على القدمين ويصل مجهداً، فكنا نسخن الماء ونغسل رجليه بلا تفرقة بين الأشخاص: فلاح أو عظيم ومرةً أخرى قال: «فى بداية رهبنتى فى دير أنبا صموئيل لم أكف نهاراً وليلاً عن حمل زبالة الدير شهراً بكامله».
«فى دير أنبا صموئيل كانت الطرنشات والبكابورتات قد امتلأت ولابد من نزحها لئلا تسبب أمراضاً. فامتنع عمال مدينة «الزورة» (حيث مقر الدير)، بأنفة نفس، عن نزحها، فللحال شمرت أكمامى والجلابية ونزلت بنفسى وسط الطرنشات الممتلئة بمخلفات الإنسان لأنزحها، فذهل العمال وأرادوا أن يخرجونى ويقوموا بالعمل بدلاً منى، فرفضت بشدة وظللت أنزح الطرنشات كلها حتى نظفتها تماماً، فلما رأى العمال ذلك بكوا -حتى أكبرهم سناً- من التأثر، ومن ذلك اليوم لم يخالفنى أى عامل إذ رأى بعينيه أن أحقر الأعمال التى يستنكف ويتأفف هو منها أستطيع أنا بنعمة الله أن أعملها وأنا فى ملء الانشراح والفرح والمسرة، ذلك لأننى تعلمت من آباء الرهبنة الكبار أن اليوم الذى لا يصادف الراهب فيه محقرة لا يحسبه من أيام حياته، فكنتُ معتاداً أن أقوم بالأعمال الحقيرة والمرذولة وأشعر أثناءها بمنتهى الراحة والسعادة والسلام الذى لم أشعر به قط فى غيرها من الأعمال المكرَّمة والمعتبرة.