صورة المسيح والعذراء في الكعبة
يشهد المؤرّخون المسلمون لحضور المسيحيّة في الجزيرة العربيّة منذ نشأتها وانتشارها على أيدي الرسل. لن نعرض، هنا، لسوى الحضور المسيحيّ في مكّة، مهد الإسلام. فالمسيحيّة دخلت الحجاز، المنطقة التي تشمل مكّة ويثرب (المدينة المنوّرة) والطائف وغيرها، منذ بداية العصر المسيحيّ.
يورد ابن الأثير وابن خلدون وسواهما أنّ سادس ملوك “جُرهم”، الذين بدأ مُلكهم قبل ظهور المسيحيّة بقليل، كان يدعى باسم نصرانيّ وهو عبد المسيح بن باقية بن جُرهم، ما يعني، إذًا، أنّ المسيحيّة دخلت الحجاز بعد بدء المسيحيّة بزمن يسير.
أمّا الإصفهانيّ فيؤكّد في كتابه “الأغاني” أنّ بيت الحرام (الكعبة) في عهد بين جُرهم كان له “خزانة وهي بئر في بطنه يلقى فيه الحلى والمتاع والذي يهدى له، وهو يومئذ لأسقف (إمام النصارى وحبرهم) عليه”.
لا ريب في أنّ أهمّ شهادة عن وجود المسيحيّة في مكّة قبيل الإسلام ما جاء في “كتاب أخبار مكّة شرّفها الله تعالى وما جاء فيها من الآثار تأليف ابن الوليد محمّد بن عبدالله بن أحمد الأزرقيّ”، حيث ورد أنّه كانت في دعائم الكعبة “صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة وصورة إبراهيم خليل الرحمن وصورة عيسى ابن مريم”.
ثمّ يذكر الأزرقيّ أنّ محمّدًا، يوم فتح مكّة، “أمر بطمس تلك الصور فطُمست. ووضع كفّيه على صورة عيسى ابن مريم وأمّه عليهما السلام، وقال: امحوا جميع الصور إلاّ ما تحت يدي فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمّه”. وقد تلفت الصورة بعد أكثر من ستّين عامًا من فتح مكّة على زمن عبدالله بن الزبير الذي قاوم الخلافة الأمويّة، فحاصر الأمويّون مكّة بقيادة الحجّاج الذي لم يتوانَ عن قصف المدينة بالمنجنيق وهدم الكعبة.
يتحدّث بعض المؤرّخين المسلمين عن تنصّر قسم من بني قريش. فاليعقوبي يؤكّد في تاريخه على هذا الأمر فيقول: “أمّا مَن تنصّر من أحياء العرب فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزّى منهم عثمان بن الحويرث بن أسد وورقة بن نوفل بن أسد”. كما ورد في “السيرة النبويّة” لابن هشام عن ورقة أنّه “تنصّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل”.
كما ورد ذكر عبيدالله بن جحش بن رئاب الذي هاجر إلى الحبشة مع محمّد، ولـمّا بلغها تنصّر وفارق الإسلام. واشتهر أيضًا أبو قيس صرمة بن أبي أنس الذي أورد عنه ابن الأثير أنّه “كان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس الـمُسوح”. وممّا يدلّ على آثار المسيحيّة في مكّة ما أورد الأزرقيّ عن وجود “مقبرة النصارى في الجبل الذي بأسفل مكّة على يمين الخارج إلى المدينة”.
ما أوردناه أعلاه، ولا سيّما بقاء صورة السيّد المسيح وأمّه في الكعبة، يؤكّد على استمرار الوجود المسيحيّ في الجزيرة العربيّة بعامّة، ومكّة بخاصّة، ما يربو عن القرن تقريبًا. غير أنّ المؤكّد هو أنّ نبيّ الإسلام أبقى على الوجود المسيحيّ في مكّة، وما يدلّ إلى ذلك إشارة أبي يوسف في كتابه “الخراج” إلى أنّ محمّدًا “ضرب على نصرانيّ بمكّة دينارًا كلّ سنة”. أمّا عن اندثار المسيحيّة من الجزيرة العربيّة فله حديث آخر.
– أثارت مقالتي “العروبة خيارًا مسيحيًّا” (ليبانون فايلز، 26 أكتوبر 2016) أسئلة جمّة لدى قارئيها. لذلك سوف أعرض من حين إلى آخر لبعض وجوه المسيحيّة العربيّة.
– للمزيد عن هذا الموضوع مراجعة كتاب: سلوى بالحاج صالح العايب، المسيحيّة العربيّة وتطوّراتها من نشأتها إلى القرن 4 ه./ 10 م.، دار الطليعة، بيروت، 1997.