فحساب النفقة شيء ضروري للغاية، لأن كثيرين دخلوا الطريق وتفاجئوا بالإخلاء والصليب، فصدموا وتحولوا عن الطريق وعادوا للوراء، والبعض توقف مكانه وتجمد وخشى أن يعود لئلا يُعير، وخشى من التقدم من أجل الخوف من الآلام والأوجاع وترك ما يميل إليه قلبه ويحبه، والبعض وقفت اللذات الحسية والشهوات الجسدية عائقاً عظيماً بينها وبين الصليب، فطرحته عنه بعيداً، لذلك قال الرسول بوعي روحي عميق متحدثاً لأهل غلاطية قائلاً، (والكلام موجه بالطبع لكل شخص يُريد ان يتبع الرب، طائعاً وملبي دعوته):
لذلك عزيزي القارئ، بناء على ما رأينا معاً من كلام الرب والرسول، فأنه ينبغي أن يتجرد الإنسان من كل شهوة مبتعداً وهارباً منها كهروبه من الحية، لأن اللذات أي المسرات الجسدية تقيد الإنسان بمحبة الذات وتجعله عبداً لرغباتها الحسية التي تمنعه من قبول الصليب، لأن اللذات الحسية هي حالة من إثبات الذات التي هي عكس دعوة الرب نفسه: (ينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني)، فحينما ينغمس الإنسان في شهوات القلب محققاً رغباته الحسية، يستحيل عليه أن ينكر نفسه ليدخل في طريق الآلام مع المسيح، لذلك يقول بطرس الرسول: أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ. (1بطرس 2: 11)
كما أن الاعتماد على الغنى كسند في الحياة، يعوِّق الإنسان من تبعية المسيح الرب، كما حدث مع الشاب الغني لأن قلبه كان متعلقاً بأمواله، فلم يستطع أن يُلبي الدعوة الإلهية، لذلك ينبغي أولاً أن يتجرد الإنسان من كل غنى العالم، وليس المعنى هنا أن يبيع كل واحد أملاكه ويذهب للدير أو الوحدة، أو حتى يتخلى عن أمواله ظاهرياً، لأن ممكن أن يكون الإنسان غنياً مادياً ويتبع المسيح الرب بإخلاص، بل التخلي المقصود هنا، هو تخلي داخلي من جهة القلب، أي عدم الاتكال على شيء في هذه الحياة الحاضرة من أجل سلام النفس وراحتها الحقيقية، بل ينبغي أن يستغنى الإنسان بالمسيح عن أي شيء آخر كاستعداد نية أن يموت معه كعبد، لأن رحلتنا رحلة موت مع المسيح، أي أن أُصلب معهُ، والإنسان المستعد للموت فأن قلبه لا يتعلَّق بالأشياء التي في العالم، بل يتخلى عنها بسهولة، لذلك قال الرسول:
والاخلاء بالطبع لا يقتصر فقط على الأموال والغنى، بل على كل علاقة عاطفية نفسية داخليه، أي لا يحب أحداً أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً أو أولاداً أكثر من المسيح، لذلك نجد أن الرب ربط بين المحبة العاطفية الإنسانية الطبيعية كعائق لحمل الصليب نفسه: وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي»، فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اتْبَعْنِي وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ». مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْناً أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. (متى 8: 21، 22؛ 10: 37، 38)
بل ينبغي أن يكون الرب أولاً وسباق على كل عاطفة، حتى عاطفة الصداقة والأبوة والأمومة، وعن أشرف علاقة في الوجود، وهذا ما فعله إبراهيم أب الآباء وأب الإيمان، إذ أولاً استمع لكلام الرب عن أنه يترك بيت أبيه وعشيرته ويذهب للأرض التي يُريها لهُ، فأطاع وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب، كما أنه أيضاً تخلى عن أبوته من أجل الله، واستمع لصوته ليقدم ابنه للموت بمسره كمحرقة للرب، وبكونه صادق بكل قلبه، لأنه لم يعتبر هناك شيء عزيز أو أثمن من الله عنده، فكان مستعداً على الدوام أن يُقدم أي شيء، بل وكل شيء، حتى ولو كانت أسرته وكل ما عنده للرب دون تردد، فنال البركة من فم الله الحي، ونالها بقسم، أي بختم إلهي صادق، وهكذا ننال البركة حينما نسمع قوله متممين دعوته وننكر أنفسنا ونحمل صليبنا ونتبعه:
فانظروا يا إخوتي القُراء ودققوا جداً في الإنجيل، لاحظوا بدقة كلمات الرب [بعكل ما لك وتعالى اتبعني حاملاًالصليب]؛ [يأخذ مئة ضعف مع اضطهاداتوفي الدهر الآتي الحياة الأبدية]، فهذه هي المرحلة الأولية والبداية الحقيقية في الطريق الإلهي، لأن لو وعينا هذه الخطوة الأولية (ينكر نفسه – يخلي ذاته) وعشناها حسب قصد الرب كما هي، سننتقل بسهولة لمرحلة حمل الصليب، لأننا منذ البداية تهيأنا للصليب، لأن بدون إخلاء، وبدون الترك والتخلي عن كل ما للنفس من اتكال أو فرح خاص بها أو لذه تسعدها، فأننا لن نستطيع أن نتبع المسيح الرب ونحمل الصليب، بل سيصير حمل ثقيل علينا ونفسيتنا ستتحطم ونحيا في نكد دائم، لكن أن أنكرنا أنفسنا سنفرح بالصليب وندخل في سرّ مجد القيامة بعد أن ندخل في محنة ضيقة شدة آلام الصلب مع المسيح.