الفاضي يعمل قاضي

[walaa farouk]

عارف الراجل اللي طلع ع المعاش وقاعد يتخانق ليل نهار مع الجيران؟!.. أكيد كلنا شوفنا النموذج دا يا إما جوه بيوتنا أو في العمارة اللي ساكنين فيها.. وتلاقيه طول الوقت بيتخانق: مرة بسبب الأسانسير العطلان، مرة بسبب السلم اللي مش نضيف.. ومرة بسبب باب العمارة اللي الناس المهملة المستهترة سابته مفتوح.. ويا سلام بقى لو وقف في طابور الكاشير بتاع السوبر ماركت!.. هتلاقيه واقف هاتك يا تنظير وانتقاد وأحكام مُطلقة على خلق الله.. وكأنه موجود في الدنيا دي عشان يربي الناس من أول وجديد.
لما تشوف عم الحاج دا بقى حاول تستوعبه.. إعرف انه بيعاني من شعور عميق بالفشل.. شعور عميق جدا لدرجة انه ممكن مايكونش حاسس بيه!.. مش بس كدة.. إعرف كمان انه عنده فراغ.. والفراغ اللي عنده هو اللي خلاه يهرب من شعوره بالفشل، ويعيش في دور المصلح الاجتماعي وحلّال المشاكل.. وكل دا طبعا بيحصل بشكل غير واعي.. وعلى رأي المثل: الفاضي يعمل قاضي.
ياترى فيه علاقة بين الفراغ والحكم على الآخر؟
الاجابة ببساطة: نعم.. وبشدة!
رغم إن الفكرة تبدو غريبة، إلا إن العلاقة بين الفراغ والحكم على الآخر علاقة وطيدة، وفي منتهى المباشرة.
الفراغ يجعل الانسان حاسس ان حياته مالهاش معنى ولا قيمة.. وعشان الفاضي يحمي نفسه من الإحساس دا، بيلجأ لطرق كتير يلهي نفسه بيها.. لكنه طبعا مش بيبقى مدرك انه بيتصرف أو بيفكر بالطريقة الفلانية لأنه عاوز يهرب من شعوره بعدم القيمة مثلا.. هو أصلا بيكون حاسس وقتها ان قيمته كبيرة جدا، وإنه أهم مخلوق في الكون!
أصعب وأخطر أزمة بتواجه الفاضي (خصوصا لو ماعملش انجاز حقيقي في حياته ) إنه بيكون محصور قصاد نفسه، بدون أي تجميل.. كأنه واقف أمام مرايا بيشوف فيها كل الحاجات اللي مش عايز يشوفها.. وساعتها بيكون الحل السحري هو: الحكم على الآخر.
الحكم على الآخر بيغطي على خناقة الانسان مع ذاته.. كأنه بيغلوش على الزحمة والدوشة اللي جواه بزحمة خارجية كلها ناس تانية وأصوات تانية.. ولأن القاضي مش بس بيحكم بين الناس، دا كمان بيحكم على الناس.. فمستحيل ان الشخص اللي عنده فراغ وحاسس بالفشل إنه يحكم بالعدل!.. هو أصلا بينصّب نفسه قاضي عشان يُسقط على الآخرين أحكامه هو على نفسه، ونظرته السلبية تجاه نفسه.. وعشان كدة بنلاقي ان معظم الناس اللي مزاجهم يحكموا على غيرهم، بيقولوا عليه صفات وعيوب هي فيهم أصلا.
ياترى كام واحد فينا وقت الفراغ بيعمل قاضي؟
محتاجين نكون واعيين أكتر بمشاعرنا وأفكارنا وتصرفاتنا.. محتاجين لما نحس بفراغ نقوم نقلل تركيزنا مع اللي حوالينا، ونبص جوانا أكتر.. لأن الإناء الفارغ مابيتمليش من برة.
لكن خد بالك.. فيه فرق كبير بين الفراغ والخلوة .. الفراغ بيولّد جوايا مشاعر سلبية تجاه نفسي.. أما العزلة: احتياج صحي بحتاجه من وقت للتاني عشان ما افقدش تواصلي مع نفسي وما اتوهش مني وسط زحمة الحياة.. والشطارة بقى إني أقدر أحوّل الفراغ إلى خلوة .. ساعتها مش هقع في فخ الحكم على الآخرين.
خلاصة القول: الفراغ عدو الانسان والانسانية.. الفراغ ضد الفطرة اللي اتخلقنا عليها.. الفراغ يعطي سُلطة وهمية مزيفة بتخلينا نتسلى بالحكم على غيرنا.. الفراغ بيعمينا عن حقيقتنا وبيقطع كل جسور التواصل بيننا وبين أنفسنا.

[Mary Naeem]

الفراغ بيعمينا عن حقيقتنا

وبيقطع كل جسور التواصل بيننا وبين أنفسنا

الفاضي يعمل قاضي !!