محنة أقباط العريش| بقلم القمص/أنجيلوس جرجس

[Mary Naeem]

محنة أقباط العريش| بقلم القمص/أنجيلوس جرجس

مقاله القمص/أنجيلوس جرجس
فى جريده الأهرام
محنة أقباط العريش
في البداية أود أن أعتذر عن استكمال تاريخ الحقبة القبطية هذا الأسبوع نظراً لأحداث العريش التي أراها في غاية الخطورة إذ تصيب الهوية القبطية في مقتل، والصمت عنها وتجاهلها سيكرس حالة يمكن أن تترك شرخاً من الصعب تجاوزه الأيام القادمة.
وهذه الأحداث بدأت بالقتل على الهوية أي اختيار الأقباط المسيحيون لقتلهم على يد الجماعات المتطرفة في سيناء والعريش وانتهت بالتهجير. فقد وصل لأقباط العريش تهديدات مباشرة إما ترك المدينة أو القتل. وتوالت أحداث القتل يومياً لعائلات الأقباط في ديارهم، وهنا الخطورة فقد اعتدنا في حرب الجيش والشعب مع هذه الجماعات المسلحة الإرهابية أن يظهروا فجأة في الطرق ليقتلوا أو يفجروا، ولكن دخولهم المدينة وتهديدهم للأقباط وفرض قانون خاص بهم على مدينة العريش بأن لا يسكنها المسيحيون هنا مكمن الخطورة، لأنه إذا نجحوا في هذه ستكرر في أماكن أخرى. وبهذا تكون لهم اليد العليا على الدولة المصرية في مدن مصرية.
وإن كنا ندرك أن المقصود هنا ليسوا المسيحيون بعينهم إنما المقصود هو كسر هيبة الدولة، وفرض مناخ طائفي اعتادت هذه الجماعات أن تكسب بها تأييداً لقاعدة من المتطرفين وأصحاب الأجندات الخاصة التي تريد لمصر أن تسقط في حروب طائفية والقتل على الهوية. وإن كنا ندرك أيضاُ تحرك الدولة لمواجهة هؤلاء المتطرفون. ولكن يظل هناك أمر على أرض الواقع أنه حتى الآن تم تهجير أغلب أقباط العريش تاركين ممتلكاتهم وبلادهم وحياتهم ليعيشوا في أماكن أخرى محرومين من بيوتهم وأعمالهم مشردين. هذا بجانب المعاناة النفسية التي تتمثل في الشعور بالقهر وعدم الحيلة.
وكنت أتمنى أن تقف الدولة في مواجهة هذا بقوة أشد لحماية المواطنين العزل، ولكسر صورة الهيمنة والقوة التي يريد هؤلاء المتطرفون أن يظهروها للعالم الخارجي ويفرضوا أمراً جديداً في معادلة الحرب على الإرهاب. فقوة الدولة تظهر في حماية مواطنيها كما تقول القوانين السومارية لتأسيس الدولة في الألفية الثالثة قبل الميلاد "إن الدولة تقوم على تنظيم القوى وفرض النظام والقانون، بينما المجتمعات الهمجية هي التي تغيب فيها قوة الدولة ويسود فيها قانون القبيلة والجماعة". ولكن الخطورة الأكثر هي مشاعر الأقباط التي كثيراً ما تكون مزيجاً من الشعور بالقهر والظلم في وطن قدموا له كل شيء، ولأجل أمانه ورفعته احتملوا الكثير عبر التاريخ الماضي ولا يزالوا يحتملون.
وفي أواخر القرن الثامن عشر وفد علماء الحملة الفرنسية وكتبوا كتابهم الشهير "وصف مصر" وكتبوا فيه عن الأقباط الآتي: "يكون القبط جزء من كيان الأمة في بلد مقهور.. إن جماعتهم الصغيرة بفضل بعض التعاليم المستمدة من الأخلاق الإنجيلية تعطي مصر صورة الوحدة والتناسق وهي صورة نادرة تماماً في أماكن خربها الطغيان".
وبعد قرن من الزمن سجل المعتمد البريطاني اللورد كرومر فشل السياسة الإنجليزية في مصر في كتابه "مصر الحديثة" ويقول: "أن الفارق الوحيد بين القبطي والمسلم هو أن الأول يصلي في كنيسة والثاني يصلي في مسجد". تلك هي هوية مصر التي حفظت مصر وقوام الدولة المصرية عبر التاريخ.
وفي حادثة هامة جداً وقت حكم عباس الأول حفيد محمد علي (1848 – 1854) وكان يبغض المسيحيين وطردهم من المناصب الحكومية. وأراد من الشيخ الباجوري فتوى بطرد الأقباط ونفيهم إلى السودان، ولما استحضر الشيخ وعرض عليه الأمر رفض الشيخ الباجوري أن يُخرج فتوى بهذه الصورة غير مبالي ببطشه أو ما سيفعله به، فغضب عباس وصرخ خذوه عني.
فتهجير الأقباط من بلدهم وخروجهم من بيوتهم بهذه الصورة تصيب الهوية القبطية في مقتل، وقد تنبه لهذا كل الذين قادوا مصر في عصور التنوير فقال مصطفي كامل في خطبة له في الإسكندرية عام 1897 "أن المسلمين والأقباط شعب واحد مترابطين بالوطنية والعادات وأسباب المعاش ولا يمكن التفريق بينهم إلى الأبد" وكرر ذلك عام 1900 "أن المسلمون والأقباط أمة واحدة بل عائلة واحدة".
وكتب الأستاذ أمين الرافعي عام 1919: "أنه من أكبر الجنايات على مستقبل الوطن سعي أي شخص بالمساس بالاتحاد المقدس بين المسلمون والأقباط". وكان أكثر شيء يزعج الإنجليز في تلك الآونة هي تلك الوحدة لذلك كان شعار الثورة ضدهم الهلال مع الصليب.
وأرجو إلا يفهم هذا أننا نقلل مما يحدث من أجهزة الدولة لحماية مصر والمصريين، ولكننا ندق ناقوس خطر أن التهاون في هذه الأحداث وعدم المواجهة الحاسمة لهؤلاء المتطرفين لن يصيب الأقباط فقط ولكنه يصيب مصر كلها. هناك حادثة هامة حينما أراد الصينيون أن يعيشوا في أمان بنوا سور الصين العظيم وكان عالياً حصيناً ولكن الغريب أنه في المائة سنة الأولى بعد بنائه استطاع الغزاة أن يدخلوا الصين ثلاث مرات، ولم يكن هذا من خلال تسلقهم السور ولكن من خلال خيانة حراس السور فقد انشغلوا ببناء الحجر ولم يهتموا ببناء البشر.
إننا يجب أن نواجه تلك الأفكار الهادمة والعنصرية والطائفية التي تفرق وتصنع وطناً ممزق الأوصال. فبناء الوطن ليس فقط في صنع مشاريع ومدن رغم أهميتها ولكنه أيضاً في تنوير ما هو مظلم ويختفي فيه خفافيش الظلام التي تريد أن تعلن عن مصير محتوم، ليل دائم، ووطن بلا فجر. ويقول الشاعر محمود درويش: "ونسأل ما معنى كلمة وطن؟ فيقولون هو البيت وشجر التوت والنخيل ورائحة الخبز والسماء الأولى. ونسأل هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات وتضيق بنا؟".
عزيزي القارئ أعلم جيداً أن مشاعر أغلب المسلمون في وطنا تشارك آلام هؤلاء الذين أجبروا على الرحيل من بيوتهم لا لشيء سوى لأنهم مسيحيون. ولكنني أدق هنا ناقوس خطر من الصمت أو التهاون في تلك الأحداث. فيقول نيلسون مانديلا: "العنصرية هي محنة الضمير البشري، وأن الرجل الذي يسلب من رجل أخر حريته هو سجين الكراهية ومحبوس خلف قضبان التحامل وضيق الأفق". فاخرجوا الفجر من ظلمة الليل كي يستيقظ الأطفال على صبح يتنسموا فيه الحب بدل الكراهية.
القمص أنجيلوس جرجس
كاهن كنيسة المغارة -الشهيرة بأبي سرجة الأثرية

[Rena Jesus]

ميرسى ربنا يبارك تعب محبتك

[Mary Naeem]

شكرا على المرور

[walaa farouk]

ربنا يبارك خدمتك الجميلة مرمر

[Mary Naeem]

شكرا على المرور