رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تضرّع أحد المؤمنين، بحرقة قلب، طالباً، من الله، نجدةً لابنه، المحتاج إلى عملية جراحيّة باهظة التكاليف، وإلا فالموت أمامه. لم يكن هذا المؤمن يملك شيئاً من المبلغ الواجب دفعه لإجراء المعالجة اللازمة لابنه. ومن حيث لم يتوقع، وصلته، بعد أيام قصيرة، رسالة من أخيه المغترب، الذي انقطعت أخباره عنه منذ سنوات. فتح المغلّف بلهفة، وإذ به يجد حوالة ماليّة بالقيمة التي يحتاجها. جثا على الأرض يبلّلها بدموعه، شكراً لله، الذي استجاب له، وأنقذ ولده. وظلّ يروي عمل الله وفضله عليه، في كلّ مرّة، يُسأل، فيها، عن مرض ابنه. صارت هذه الحادثة علامة دامغة، لإحسان الله ورعايته له، فلا يمكن لشيء محوها من ذاكرته ووجدانه. لقد ألهم الله أخاه، في الوقت المناسب، لكي يخلّص ولده من الموت. هذا هو تفسيره لما حدث، وهذه هي روايته التي تُظهر عمل الله معه. هكذا هو التاريخ في الكتاب المقدس. إنّه رواية أعمال الله، من خلال جماعة، رافقها، له المجد، برعاية دؤوبة؛ فخلّصها في أزمنة، وأدّبها في أخرى. لكنّها ما فتئت ترى إصبعه في كلّ ما يحدث معها، وإن لم تفهمه كلّه في وقته. إنّه تاريخ إيمان. بهذا المعنى، ليس الكتاب المقدّس كتاب تأريخ، بالمعنى العلمي الحديث للكلمة. في الواقع، لم تبدأ عملية التدوين إلا بعد القرن التاسع قبل الميلاد. لكن عمل الله بدأ مع ابراهيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وكلّ الأحداث، التي تمّت، من إبراهيم إلى سليمان (زمن بدء التدوين)، مروراً بموسى وغيره، حُفظت ونُقلت شفهيّاً، من جيل إلى آخر، ورُويت في اجتماعات العبادة، ورُتّلت في مزاميرها. من المعروف أنّ السرد الشفهي، يتميّز عموماً، بأنّه يكرر في تفاصيل الرواية، ويسمح بتزويقها، وإعادة تفسيرها، كما يعتمد على الشعر والأغاني، التي تحفظ الرواية، أي رواية، في قالب أدبي، نابع من ثقافة زمانه وتعابيره. هكذا، على سبيل المثال، نجد روايتين تسجّلان حدث عبور البحر الأحمر. الأولى شعريّة، والثانية نثريّة. أمّا الفرق بين الاثنتين، فهو الفرق بين أدب النثر وأدب الشعر، لكنّ النصّين يسجّلان الحدث ذاته، كلّ بطريقته. (راجع الإصحاحين 14و15 من سفر الخروج). فالهدف الأساس، في الكتاب المقدّس، من رواية حدث ما، تمّ في التاريخ، هو إظهار عمل الله فيه، وتعليمه المقصود إيصاله، من خلال هذا الحدث، وليس تأريخه. وعندما يُؤرَخ حدث ما، ويصير راسخاً في ذاكرة شعب الكتاب المقدّس، فلأنّه حدث إيماني في الدرجة الأولى. كما في حدث عبور البحر من مصر إلى سيناء، حيث الهدف ليس تأريخاً علميّاً للحدث، وشرحاً لكيفيّة حصوله، بل إظهار مجد الله، في نجاة الجماعة، وتحرّرها من نير عبوديّة فرعون، وتثبيته في ذاكرتها. هل تمّ العبور بطريقة عجائبيّة مباشرة بانفلاق البحر، أم بطريقة عجائبيّة غير مباشرة، عبر عبور المستنقعات الموجودة على الأطراف العليا لقرن البحر الأحمر الشرقي؟ لا يهدف الكتاب المقدس إلى الإجابة على سؤال كهذا، بقدر ما يهمّه تثبيت الحدث في أذهان الجماعة، وعدم نسيان إحسان الله إليها، والتأكيد على دور الله في تحقيقه، ودوره في التدبير الخلاصي، كيفما كانت طريقة العبور. والنصّ يفتح المجال للاستنتاجين: العجيبة المباشرة أو غير المباشرة. وهذا بعضاً مما ورد في الإصحاحين 14 و15، على سبيل الإيضاح لا أكثر. "فأرسل الله على البحر ريحاً شرقيّة عاصفة طول الليل، حتّى أيبس ما بين مياهه فانشقت المياه. [تدخل إلهي عبر تهيئته الطبيعة لتنفيذ قصده في الوقت المناسب]. ودخل بنو إسرائيل في وسط البحر على الأرض اليابسة. والماء سور عن يمينهم وعن يسارهم" [تدخل إلهي مباشر، و النَفَس الشعري التعظيمي واضح في العبارة المتأثرة بالنص الشعري للحدث ذاته] (خروج 14/21-22). ما يهمّني، أنا المؤمن، أن الحدث تمّ بمشيئة الله، ولأنّ الله أراده، لقصد خلاصيّ عنده. أمّا كيف تمّ التعبير عن تحقيق مشيئة الله هذه، فيعود إلى اليد البشريّة في صياغة الوحي، بينما يعود إتمام الحدث ومفاعيله إلى اليد الإلهيّة. لماذ طرح هذا الأمر؟ لأنّ العقل البشري المعاصر عقل علميّ، مركّب على تفكيك الأشياء، والعودة بها إلى عناصرها الأولى، بغية فهم تركيبتها. إنّه عقل يقوم على التحليل والربط، على المنطق والقياس...إلخ. وقد بدأ هذا النهج بالانتشار منذ عصر الأنوار في الغرب. واصطدم بالتفسير الحرفي، السائد هناك آنذاك، والذي كان يعتبر الكتاب المقدّس المرجع الأساسي لجميع العلوم. من هنا نفهم الصدام الذي تمّ بين العلم والكنيسة، آنذاك، (وما تزال بعض ذيوله راسخة في أذهان بعضهم)، من جرّاء المكتشفات العلميّة الحديثة والمتواترة، ولأن واجب الكنيسة هو أن تخاطب هذا العقل، وتجيب على أسئلته، أمانة منها على رسالتها التبشيريّة الخلاصيّة. اعتبار الكتاب المقدّس كتاب تاريخ وعلوم اعتبار مغلوط، لأنّه يركّز على المعلومات التاريخيّة والعلميّة الواردة فيه، باعتبارها ثوابت إلهيّة، بينما هي تحمل علوم زمان كتابتها. التركيز على هذه المعلومات، الواردة في سياق رواية عمل الله مع الإنسان، يغيّب القصد الأساس من العمل الإلهي. في زمن النبي إرمياء وقعت فلسطين بين تنازع قوّتين. شمالاً، كانت الإمبراطوريّة البابليّة في طريقها إلى احتلال المنطقة، وجنوباً، كانت مصر في وضع المدافع عن خطها الأمامي (فلسطين). رفض النبي إرمياء الاستنجاد بمصر ضد بابل. واعتُبر خائناً، عندما طلب قبول الاحتلال البابلي. لكن موقفه هذا لم يكن بدافع سياسيّ، وإنّما دينيّ. فرفْضه طلب المعونة من مصر، كان نابعاً من قناعة دينيّة تقول بأنّ الله هو المنقذ والمخلّص، والاستنجاد بغيره خيانة له. كذلك كان يرى باتصال الله معه، مشيئة الله في غزو بابل، تأديباً للشعب الخائن لإلهه، وتنقية له. وهذا ما فهمه القادة الدينيّون، ولكن من بعد أكثر من مائة سنة، على حدوثه. فسفر إرمياء النبي، لأنّه يتكلّم عن الله، من خلال واقع الشعب وحياته، يحوي عناصر تلك الحياة ومجرياتها وهي عناصر تاريخيّة، لكنّها ليست هي القصد من كلامه، بمقدار ما هي وسيلة لإظهار التعليم الإلهي. هكذا يمكن للخبر التاريخي، الوارد في الكتاب المقدّس، أن يتقاطع مع معلومات علم التاريخ العديدة. يفيد التاريخ الوارد في الكتاب المقدس علم التاريخ، لكنّه لا يلعب دور المصدر التاريخي الأصيل والوحيد. إنّه، بالنسبة للمؤمنين، من كلّ زمان ومكان، ومنهم الذين كتبوه، تسجيلٌ لما صنعه الله من أجل خلاص البشرية قاطبة. ثمّة أفعال لله في التاريخ، ينكشف، وجهه تدريجيّاً، من خلالها، وصولاً إلى الكشف الكامل، الذي تمّ بالمسيح. هذه تشكل التاريخ المقدّس. أمّا الظروف التاريخيّة المرافقة له، فلعلم التاريخ أن يبحث فيها ما يشاء. |
|