الرهبنــة والرهبــان – مفاهيم خاطئة
الرهبنـــة بدعــــة مسيحيــــة
واحد من أشهر المفاهيم الخاطئة ـ نظرا لوروده بالقرآن ـ هو أن الرهبنة "بدعة" لم يفرضها الله ولكن فرضها المسيحيون على أنفسهم. وهذا في الحقيقة ليس مجرد ادعاء باطل ولكنه أيضا يكشف عدم الفهم لمعنى الرهبنة أو تاريخها، ولا عجب لأن الفقر مثلا، أو البتولية، وهما من ملامح الرهبنة الأساسية، كليهما يتعارض تماما مع دعوة هذا الكتاب وثقافته، فهو نفسه الكتاب الذي يدعو المؤمنين على سبيل المثال أن "يتاجروا مع الله"، أو أن "يقرضوا الله قرضا حسنا"، لأجل أن تزيد بالطبع أرباحهم، كما أنه أيضا ـ مقابل البتولية ـ نفس الكتاب الذي بالعكس يعد المؤمنين بالحسان الفاتنات وبالملاح الحوريات مكافأة في العالم الآخر، مع كل ما لذ وطاب من طعام وشراب، من لحم وخمر وفاكهة وعسل، في أكبر مهرجان سماوي للملذات الحسية يديره الله شخصيا. كان حتميا بالتالي أن يتصادم هذا الكتاب مع المسيحية عموما ومع الرهبنة بوجه خاص، بل كان لابد أن تظهر الرهبنة في مرآته كأنها نظام شاذ غريب عجيب، أو بالضبط كما قال "بدعة" لم يفرضها الله أو حتى يتوقعها ولكن فرضها المسيحي على نفسه!
لا يلزمنا الرد بالتالي على هذا الادعاء بل حتى لا يعنينا، لكنها بداية جيدة ندخل منها إلى هذا الموضوع عن الرهبنة والرهبان، وردنا يأتي في الحقيقة من وجهين اثنين لا من وجه واحد، الوجه التاريخي والوجه الكتابي:
الوجه التاريخي
تاريخيا فإن النسك والزهد وطلب الله دون سواه والعزلة لأجل الصلاة والمناجاة معه، كل ذلك نزوع طبيعي عند الإنسان، رافقه في كل زمان ومكان ولا يمكن بالتالي أن يكون بدعة جديدة أتى بها شخص محدد أو جماعة بعينها. نحن من ثم لا نعرف مَن هو أول الرهبان حقا، سيان على المستوى العام أو على المستوى المسيحي بوجه خاص. أما على المستوى العام فقد عاش بالشرق الأقصى قبل ميلاد السيد المسيح آلاف الرهبان وانتشرت آلاف الأديرة، من مختلف الديانات البرهمية والبوذية والطاوية والجينية وغيرها، كما ظهرت أيضا في مصر نفسها ممارسات الاعتكاف والعزلة بالمعابد خاصة معبد سيرابيس بالعصر البطلمي، ناهيك عن النزعات الانعزالية الفلسفية التي ظهرت أيضا مع ما يُعرف بالأفلاطونية الجديدة وهي فلسفة تحتفي كثيرا بالنسك والتقشف والتأمل. نضيف إلى ذلك وجود جماعات متعددة كانت تحمل ملامح الرهبنة المبكرة، مثل جماعة الترابيوتاي اليهودية حول سواحل بحيرة مريوط، أو جماعات الزهاد العرّافين على ضفاف النيل بصعيد مصر، أو كهنة هليوبوليس الذين اشتهروا بالعيش على الكفاف، وغيرهم. كيف إذاً ـ وهكذا المشهد العام داخليا وخارجيا ـ يجرؤ أي حصيف على تحديد كيف بدأت الرهبنة عموما كممارسة إنسانية، أو أين بدأت، أو مَن هو حقا أول من "ابتدعها"؟
وأما على المستوى المسيحي بوجه خاص فرغم أن القديس الأنبا أنطونيوس هو أبو الرهبان فإنه لم يكن تاريخيا أوّلهم. نعم، لقد تميزت الرهبنة المسيحية حقا عن كل هؤلاء الذين ذكرنا وعن كل تلك الحركات المتعددة التي سبقتها وعاصرتها، ولكن من ناحية أخرى لم "يبتدع" أنطونيوس أسلوبا جديدا للحياة سماه "الرهبنة" ثم دعا الناس إليه، وإنما بالعكس ظهر الرهبان المسيحيون أولا وانتشروا، تلقائيا وعفويا، شرقا وغربا، بما في ذلك كبار الآباء السوّاح مثل القديس الأنبا بولا، ثم بعد ذلك جاء أنطونيوس فكان أول مَن نظر لهؤلاء النساك الزهاد الأوائل نظرة واحدة شاملة ثم ـ بتوجيه الرب وإرشاده ـ نظم أمرهم ووضع قواعدهم وحدد منهجهم.
فهكذا وُلد "النظام" الرهباني المسيحي أولا، ومنه خرج من مصر وانتشر بكل أنحاء العالم، لكن "الممارسة" النسكية ذاتها قديمة قدم الإنسان، وبالتالي فقد وجدناها حتى مسيحيا عند بولا أولا، وعند أوريجانوس قبل بولا، وعند فرنتنيوس وجماعته قبل الجميع، وهكذا، وكل هؤلاء قبل أنطونيوس، بل تمتد الرهبنة بمعناها العام إلى الوراء لتصل حتى إلى النساك الأوائل كيوحنا المعمدان وإيليا وغيرهما.
الوجه الكتابي
وأما كتابيا فادعاء البدعة مردود أيضا، لأن الرهبنة بالعكس تطبيق حرفي أمين للكتاب المقدس ووصاياه وليست أبدا بدعة دينية، عقائدية أو تشريعية أو طقسية، لم تكن موجودة من قبل. يتجلى ذلك بكل وضوح ـ على سبيل المثال ـ في سيرة القديس أنطونيوس نفسه، فبعد أن زلزل موت أبويه عقله وكيانه وأغرقته الأسئلة القاسية الصعبة، كانت آية بالكتاب سمعها هي المحرك الذي وجّه حياته كلها فيما بعد. هكذا كانت البداية الأولى تماما: "إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع كل مالك واعط الفقراء وتعال اتبعني فيكون لك كنز في السماء". شعر أنطونيوس حين سمعها بالكنيسة ذات صباح أنها قرئت لأجله خصيصا، وللحال خرج فوزع أرضه على الفقراء ولم يحتفظ سوى بالقليل لأجل أخته التي كانت هي كل ما بقي له بالدنيا. لكنه بعد ذلك مرة أخرى بالكنيسة سمع الكاهن يقرأ "لا تهتموا للغد"، فعندئذ قرر أن يعطي كل شيء حتى هذه البقية الباقية للفقراء، ثم وضع أخته ببيت للعذارى وانطلق خارج قريته عاقدا العزم على مسلك جديد جذريا لحياته كلها.
هذا مجرد مثال فقط، ولكنه يكفينا، فكما نرى تشكلت بدايات أنطونيوس ثم حياته كلها فيما بعد حسب الكتاب المقدس دون حياد عنه أو إضافة عليه، فلا بدعة من ثم أبدا من الناحية الكتابية أو الإيمانية وإنما بالعكس تطبيق حرفي لآيات الوحي الشريف وتعليم السيد المسيح ذاته. حتى التزام البتولية ـ والتي يعتبرها العلامة أوريجانوس أعظم المواهب كمالا بعد الاستشهاد ـ نجد مرجعيتها قبل أوريجانوس أيضا بالكتاب، في وصية لسان العطر التي تشمل الإصحاح السابع كله تقريبا من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، وخلاصتها: "حسن للرجل أن لا يمس امرأة ... أريد أن يكون جميع الناس كما أنا (بتولا) لكن لكل واحد موهبته الخاصة من الله ... إذاً، مَن زوج فحسنا يفعل، ومن لا يزوج يفعل أحسن". البتولية بالتالي ـ حتى رغم تعارضها "ظاهريا" مع الطبيعة ـ ليست بدعة أبدا في ضوء الكتاب، بل بالعكس هي الأفضل حسب نصه، إن كان مستطاعا، وإلا فالزواج، الذي هو أيضا حسن، بل وزنة وموهبة.
الرهبنـــة هــــروب من العــــالم
يستحيل من حيث المبدأ الهروب من العالم، ذلك أن العالم داخلنا بقدر ما هو خارجنا، بل إن العالم داخلنا هو الأهم وهو الأساس وهو ما ينعكس بعد ذلك خارجنا! إن الراهب قد يقرر حقا مغادرة العالم، لكنه يبقى في البداية تحت الاختبار والملاحظة لسنوات وسنوات قبل أن ينهض راهبا حقيقيا، فلماذا؟ ببساطة لأنه ـ رغم ابتعاده جغرافيا ـ يذهب إلى البرية أو إلى الجبل ويأخذ العالم معه، يحمله سرا داخله، في عقله وقلبه وفي نوازع نفسه وخواطر فكره وميول جسده! العالم إذاً لا يفارقنا أبدا كما نتصور، بل يتحرك معنا أينما ذهبنا، شئنا أم أبينا، ومن ثم فـ"الهروب من العالم" ليس سوى وهـم يتخيله فقط الصغار الذين يتناولون الأمر رومانتيكيا دون إدراك لعمق الرهبنة وتحدياتها، أو الغرباء الذين ينظرون إلى الرهبان فقط من الخارج، أيضا دون إدراك لعبء الرهبنة وتحدياتها.
الرهبان يتركون شدائد العالم وآلامه ليس فقط ملذاته
مفهوم أخر من أكثر المفاهيم خطأ وبطلانا، ذلك أنه ليس أصعب ولا أقسى ولا أشد من حياة الرهبان! لا نقول فقط إن الخروج من العالم هو بحد ذاته أعظم الشدائد، بل نؤكد أن حياة الراهب بعد ذلك هي نفسها شدة متصلة. قال القديس مكاريوس الكبير ذات مرة: "لعشرين عاما لم أشبع، لا من طعام، ولا من شراب، ولا من نوم"! الراهب خاصة بالعصور الأولى لم يكن ينام، وإذا نام فلعل "القلاية" التي ينام فيها لا تتسع لكي يمد جسده كاملا، أو ربما ينام عامدا فوق مقعد خصيصا لأجل ذلك، لأجل ألا يمد ساقيه أبدا، كما كان الحال في جماعة القديس باخوميوس. بل إن البعض قد ينام واقفا، متكئا على عصاه أو مستندا إلى جدار. بكل حال وبغض النظر كيف ينام الراهب فإنه كان يقوم بمنتصف الليل ليصلي، وقد يصل عدد المزامير بالصلاة الواحدة إلى ستين مزمورا. الراهب لم يكن يأكل تقريبا إلا الخبز الجاف، أو الخبز والملح، وربما بعض الزيت في الأعياد. أما صومه فقد يمتد أياما، تبلغ في العادة أسبوعا كاملا، ثم لعله لا يجد بعد ذلك طعاما سوى نفس الخبز والملح أو بعض أوراق الكرنب. كان القديس الأنبا بيشوي يأكل مرة واحدة كل اثني عشر يوما، ولم تكن هذه الأكلة الواحدة تزيد عن خبز وملح. وأما القديس الأنبا مكاريوس فقد بلغ الغاية حين صام أربعين يوما متصلة ونتج عن ذلك أن وهن عظمه وقيل سقطت لحيته.
هكذا كانت قسوة النسك خاصة في البدايات حتى أن رهبنة الغرب، وقد جاءت الرهبنة كلها من مصر أولا، لم تتحمل هذه الشدة وكان لزاما أن تعيد صياغة النظام القبطي بالقرن السادس. ولكن الأهم ـ قديما وحديثا، بالشرق كما بالغرب ـ هو أن الراهب يقوم بكل هذا النسك وهذه العبادة بعيدا عن الأعين، متجردا تمام التجرد، لا يعرف أحد عنه أي شيء سوى الله وحده! لقد طوى التاريخ من ثم سيرة المئات بل الآلاف من الرهبان والنساك العظام بأعماق الصحارى دون حتى أن نعرف بوجودهم! بل لقد كدنا لا نعرف شيئا البتة عن قديس بقامة الأنبا بولا نفسه، وهو شيخ السوّاح، لأننا ما عرفنا بوجوده إلا صدفة، فقط قبيل وفاته مباشرة، بعد أن قضى منفردا بالبرية نحو ثمانين عاما لم يلتق خلالها بإنسان واحد!
فما هي حقا الحياة الأكثر شدة وتعبا وقسوة: حياتنا نحن بالعالم، أم حياة الرهبان بعيدا في عزلتهم وفقرهم وتجردهم؟
تجارب العالم أعمق وأكبر من مجرد أتعاب جسدية
نعم، لكن التجارب التي نواجهها هي نفسها التي يواجهها الرهبان أيضا، إن لم تكن تجاربهم أشد وأعمق. على سبيل المثال: لو أن تاجرا حاربه منافسوه وأنهكوه واضطهدوه حتى ضاع في النهاية جهد عمره وتبددت ثروته وخسرت تجارته: هذه لا شك تجربة مريرة ينتج عنها الألم ويكابد الإنسان بسببها كثيرا من المعاناة. ولكن ما هو حقا سر هذا الألم وما هو سبب المعاناة الحقيقي؟ إنها ليست التجارة أو الخسارة أو ضربات السوق أو كيد المنافسين ـ هذه كلها هي فقط حركة الدراما و"ديكورات" العالم وكيف يتم "حبك" هذه المسرحية الوهمية التي نعيشها هنا. سر الألم وسبب المعاناة الحقيقي هو ببساطة رغبة التملك والكسب، ولن أقول الطمع. إن إحباط هذه الرغبة داخلنا هو تحديدا ما يسبب الألم والمعاناة لدينا. لو لم تكن الذات الإنسانية رهينة لهذه الرغبة أسيرة لها ما شعر الإنسان أبدا بأي ألم، وتأكيدا لذلك ـ كما نرى بالفعل واقعيا ـ فإنه بنفس درجة استعباد هذه الرغبة لعقولنا وسيطرتها علينا بقدر ما تكون درجة الألم وتأتي شدة الانكسار عند الإحباط والخسارة.
الراهب ـ في المقابل ـ ليست لديه حقا أية تجارة أو خسارة أو منافسة، لكنه إنسان ومن ثم لديه مثلنا نفس أساس المشكلة ومبعث الألم وسر الشقاء، ألا وهو رغبة التملك والكسب، ومرة أخرى لن أقول الطمع! الراهب بالتالي ـ وبحكم إنسانيته ـ لديه أيضا نفس الشدة والمعاناة، إن لم يكن أكثر، لأنه في عزلته بعيدا يتصارع مع كل هذه الرغبات والنزوات والأهواء مباشرة، مع كل تلك الشهوات وكل تلك الشياطين والوحوش داخله، مباشرة وجها لوجه دون وسيط ودون أية دراما أو ديكورات أو التفاف أو تمويه.
لأجل ذلك قلنا إن العالم يذهب معنا أينما ذهبنا ولا سبيل للهرب منه حقا. إن قلب الإنسان ـ ما دام عبدا خاضعا لرغباته مغلوبا بشهواته ـ هو هو ذاته ولو كان ساجدا بالبرية أو بأعماق الجبل، كما أن القلب الناسك الزاهد ـ الذي غلب وانتصر ـ هو هو ذاته ولو كان قائما وسط ضجيج الشوارع أو حتى في قلب ماخور طافح!
الرهبنــة قمــــع للجســــد
ليس في المسيحية أية مشكلة على الإطلاق مع الجسد. "قمع الجسد" تعبير قد نقوله مجازا، أما حرفيا، بما يشي أن الجسد "شر"، فهذه من العقائد الباطلة التي شاعت بالفعل في الماضي ولأجلها خصيصا تعمّد الرسول كما رأينا في خطابه إلى أهل كورنثوس أن يكون واضحا تماما. إن الجسد بحد ذاته ليس سوى أنسجة وألياف وعضلات وعظام، فأين من ثم المشكلة؟ هل هي "المادة" بحد ذاتها؟ وهل الرغبة أو الشهوة حقا بهذا الجسد، أم أن موطن الشهوة الحقيقي هو بالأحرى العقل، شأنها شأن اللذة والألم وكل ما ننسبه عادة إلى الجسد والجسد منه براء؟
إن صوم الراهب الطويل ونسكه الشديد وسهره في الصلاة وتعبه إجمالا قد ينعكس حقا على جسده، لكن مقصود ذلك كله هو أولا تحرير العقل وليس إماتة الجسد ـ كما في بعض الأنظمة الشرقية القديمة مثلا. إن الذي يشتهي حقا هو العقل وليس أبدا الجسد. إن الذي يأسرنا ويستعبدنا هو عادات العقل وليست أبدا عادات الجسد. إن الذي يشوّش رؤيتنا ويعمي بصائرنا ويردينا بكل هاوية هو العقل وأفكاره وليس أبدا الجسد، الذي هو في النهاية ليس سوى كتلة من ألياف وأنسجة لا تنطق ولا تدرك ولا وعي بها.
الغاية من ثم هي أولا تزكية العقل وترقيته وتجديده (ونقصد العقل هنا بدلالته الأشمل، أي كل ما هو غير مادي أو جسدي، شاملا القلب) وليست الغاية أبدا قمع الجسد لذاته أو قهره أو إهدار قواه. بل بالعكس: إن نور العقل الذي تزكى وتطهر ـ حين تشرق في فضائه أخيرا نعمة الرب ـ ينعكس على هذا الجسد فيمنحه الصحّة وقد يعمر طويلا، كما يعطيه أيضا القوة للقيام بنسكه وربما حتى للمزيد من الصوم والصلاة إذا شاء صاحبه.
الحرب ضد الغرائز حرب ضد الطبيعة وبالتالي خاسرة حتما
صحيح، بل مؤكد. لكن الخطأ هنا هو أن الرهبان لا "يحاربون" الغرائز أو "يتصارعون" حقا مع الشهوات والرغبات كما ذكرنا منذ قليل. بالعكس: إن أية مقاومة تمنح العدو قوة إضافية وقد ينتج عنها بالتالي تأبيد لوجوده، ولعل هذا نفسه قبس من نور وصية السيد له المجد حين قال "لا تقاوموا الشر". وعليه فالراهب المسيحي لا يحارب أي شيء ولا يصارع مباشرة أية غريزة أو شهوة أو طبيعة فيه، وإنما هو في الحقيقة مأخوذ عن كل هذا بالنور الإلهي، يكاد يذوب عشقا في محبة الرب، يكاد يحترق بخورا في هيكل بهائه، بل يكاد عقله يتلاشى كليا في حضرة المحبوب أمام فيض الجمال والجلال والمجد الذي دونه كل وصف! أو كما نقرأ في مقدمة الكتاب الأشهر "بستان الرهبان" بعبارة أخرى:
"ليست الرهبنة مذهبا صوفيا يعتقد فيه الراهب أنه يرضي الله بممارسات نسكية، أو مذهبا نفسانيا يهدف فيه إلى اكتساب قوى نفسانية مما قد يكون كامنا في الطبيعة البشرية، بل هي حب الفادي الذي يتملك المؤمن، بفعل النعمة التي انسكبت فيه، فجعلته يركز ذاته على الرب، وأخذت الاهتمامات العالمية والمادية تسقط عنه بحكم انطلاقه في دروب حب المخلص والتأمل فيه. ولذا جاء ما يسمي بالنذر الثلاثي – العفة والطاعة والفقر - تصويرا لسلوكه من الخارج أكثر منه أهدافا يسعى إليها. ففي انشغاله بالمتعة الروحية جاء تعففه عن المتعة الجسدية بأنواعها، وفي انسحاقه أمام الفضل الإلهي جاء إنكاره لذاته وهو ما يظهر خارجيا في طاعته لمشيئة المدبر، وفي شبعه بالروح جاء تجرده عن مطالب الراحة الجسدية أي الفقر. وهو في كل ذلك يسلك بروح الصلاة وسكون التأمل والالتزام بالعمل كمن لا يمتلك متاعا. فهذه الصفات السلوكية هي الصورة الخارجية للحالة الداخلية"!
الرهبـــــان أفضـــــل من العلمانييـــــن
ليس صحيحا بالعموم أو على وجه الإطلاق. رغم أن الرهبان هم لا شك جند المسيح وهم حقا أشباه الملائكة وهم تلك الصفوة التي طرحت حرفيا كل شيء لأجل الرب، رغم ذلك لا نقول إنهم مطلقا الأعلى أو الأفضل، فقد يوجد بين العلمانيين مَن يضارع أو حتى يفوق أعظم الرهبان قدرا ويعلوه منزلة! بل ذلك ما يعلنه الرب نفسه للرهبان كي يمتثلوه ويعتبروه وينتفعوا منه، كما حدث مثلا مع أنطونيوس نفسه، وهو كوكب البرية أب الرهبان، حين أخبره الرب عن ذلك الطبيب الذي كان يضارعه محبة لله، أو عن ذلك الخياط بالإسكندرية الذي لم يكن فقط يضارعه بل كان يفوقه! أيضا على سبيل المثال في سيرة مكاريوس الكبير، وهو عملاق آخر وشمس من شموس الرهبنة في عهدها الأول، نجد مثل ذلك مرة أخرى، حين أعلن له الرب عن سيدتين متزوجتين تفوق حياتهما حياة أكبر العابدين في الصحراء إخلاصا ومحبة وسموا! وبالطبع فقد ذهب قديسنا الكبير يبحث عنهما حتى اهتدي إليهما، ثم سألهما عن سرهما وعن تدبيرهما مع الله وجلس يسمع منصتا، في أثر طويل سجله لنا أيضا "بستان الرهبان"، ينتهي ختاما بخروج القديس مكاريوس من عندهما وهو يقرع صدره ويلطم وجهه ويقول: "ويلي ويلي، ولا مثل هاتين العالميتين لي محبة..."!
الرهبنة ـ مجرد ترك الناس ـ تعبير عن أنانية الراهب
نعم، صحيح تماما، بشرط أن الراهب منفصل حقا عن الآخرين! ولكن إذا كانت كل الكنيسة جسد واحد متصل وكيان واحد لا ينقسم فكيف ينفصل الرهبان عنا أو ننفصل نحن عنهم؟ بل بالعكس: إننا بسر اتصالنا بهم في المسيح ـ رغم المسافة والبعد الظاهري بيننا ـ ننال من فيض بركاتهم وتشملنا مراحم الله التي تفتح صلواتهم أبوابها! إنهم بسر هذا الجسد الواحد يشعرون بكل آلامنا وأوجاعنا، عميقا في حشايا قلوبهم، كما أننا أيضا في المقابل نشعر بقوتهم وننهل من سلامهم ونثبت بثباتهم! وبالطبع غني عن البيان أن نبع ذلك كله ومصدره هو شمس البر المسيح ذاته رأس هذا الجسد الواحد الجامع.
أما عموما خارج الفهم المسيحي ـ ولأن الرهبنة ممارسة إنسانية عالمية لا مجرد نظام مسيحي فقط ـ فإن هذا الادعاء شهير والرد عليه من ثم رد قياسي مشترك تكاد تتفق عليه سائر الثقافات والديانات والملل الشرقية، وهو لا يبتعد في الحقيقة كثيرا عن الفهم المسيحي. هذا الرد ببساطة هو أن الراهب بالأحرى "سـفينة"، فالرهبان روحيا ـ رغم غيابهم وعزلتهم عن العين والحواس ـ كالسفن التي تحمل الناس فيعبرون على متنها إلى شاطئ النجاة! إنهم يقومون بهذا الدور الفريد حتى في عزلتهم بعيدا، على نحو روحي غير منظور، وذلك بما يبلغون هم شخصيا من عمق روحي ينعكس باطنيا على الجميع! وكالسفن: بينما يحمل بعضها عشرة، بعضها يحمل مائة، بينما قد يحمل بعضها آلافا وآلافا من السابحين أو الغارقين ببحر الحياة! (هذه الصورة تنطبق بالفعل على آبائنا السادات القديسين الأوائل الذين نهلوا أولا من ملء النعمة ثم فاضوا حقا على الآلاف بنور كلمتهم وهدى حكمتهم وعطر سيرتهم. كانوا من ثم حقا كالسفن التي حملت الآلاف إلى شاطئ النجاة، وإن كنا فقط نؤمن أن ذلك لا يتأتى أبدا بهم أو من تلقاء أنفسهم وإنما يتحقق فقط بنعمة الرب وعمله فينا وفيهم).
* * *
وبعد، نتمنى ختاما أن تكون أهم المفاهيم المغلوطة عن الرهبنة والرهبان قد اتضح الخطأ بشأنها أو زال اللبس عنها وظهر المقصود من ورائها. الشكر ختاما لقراءتكم ومشاركتكم وللإضافة أيضا، سواء بمفهوم آخر مغلوط فاتنا، أو بتصحيح لأي خطأ وقعنا فيه سهوا، صلوا لأجل ضعفي والنعمة معكم.
* * *
للمزيد من الدراسة والاطلاع
- بســـــــتان الرهبــــــان
- فردوس الآباء (بستان الرهبان الموسع)
- تاريخ الرهبنة والديرية في مصر – د. رءوف حبيب
- دراسات في تاريخ الرهبانية والديرية المصرية – د. حكيم أمين
* * *