العظمة الزرقاء.. حكايات وطن

[Mary Naeem]

العظمة الزرقاء.. حكايات وطن

أمانى هولة العظمة الزرقاء.. حكايات وطن «82»


رفع التلميذ رأسه الصغير متسلقاً بعينيه ذلك الجسد الكبير لتصلا أخيراً إلى عينى أستاذه وقد مد رقبته بأكبر زاوية ممكنة، «مبحلقاً» بانبهار فى ذلك العارف بكل الأشياء والذى لديه لكل سؤال فى الدنيا جواب.. وما أكثرها فى رأس الصغير الذى يسير بخطى حسيسة نحو العالم الكبير.
ألقى نظرة حانية على تلميذه الصغير من خلف نظارته الشمسية وهو يكاد يرى علامات الاستفهام البريئة تتطاير من العينين الصغيرتين.
- لقد ناديتك يا «أحمد» لكى أسألك.. لماذا لم تعد تلعب مع صديقك «مينا» كما عهدتكما دائماً.. لقد لاحظت حزنه وافتقاده لك بعد أن كنتما لا تفترقان؟
تلفّت أحمد حوله فى حيرة ثم رفع كعبيه فى محاولة ساذجة للوصول إلى أذن أستاذه البعيدة جداً.. انحنى الأستاذ لمساعدته فى مهمته.. ليخبره بسره الخطير:
- لأنه عظمة زرقاء يا أستاذ.
تجهمت ملامح الأستاذ الطيب وهو ينظر إلى تلميذه فى حيرة:
- من أين جئت بذلك الكلام؟
- إنه عمّى العائد من البلاد البعيدة.. حتى أخى حسين لم يعد يلعب مع أخيه يوسف، ثم عاد هامساً: لأنه هو أيضاً «طلع عظمة زرقاء».
- أريد أن أرى أخاك حسين فى المكتبة.
فى الطريق إلى المكتبة ظل حسين يوبخ أخاه:
■ لماذا أخبرت الأستاذ؟ افرض كان عظمة زرقاء؟
- وما هى العظمة الزرقاء.. شىء سيئ جداً يعنى؟
نظر حسين إلى أخيه فى غضب يخفى حيرته، دون إجابة.
دخل حسين المكتبة وهو يقدم رجلاً ويؤخر الأخرى لينهى تردده صوت الأستاذ بعد أن تعرف عليه من ملامحه السمراء المنمنمة التى تشبه أخاه الصغير كثيراً.
- تعالَ يا حسين.. اجلس، فأمامنا حديث مهم.. أخبرنى يا بطل هل تعرف معنى «العظمة الزرقاء»؟
■ طبعاً يا أستاذ.. يعنى مسيحى.
- أقصد سبب هذا الاسم؟
احتار حسين فليس لديه أى إجابة.
- هذا الكتاب عن تاريخ مصر القبطية.. فمنذ زمن بعيد كان الشعب المصرى كله تقريباً يدين بالمسيحية، وقد احتل الرومان مصر واستأثروا بخيراتها بل أساءوا إلى أهلها.. وسخروهم للأعمال الشاقة فى الزراعة والصناعة.. خاصة هؤلاء الذين كانوا يناضلون ضد الاحتلال.. فكان تعذيبهم وحملهم للأشياء الثقيلة على ظهورهم يترك آثاراً على العظمة البارزة أعلى الظهر كتلك التى تتعرض لها أحيانا وأنت تلعب فتؤلمك وتبكيك.. وهكذا أصبح ما يميز المصريين المقهورين عن الرومان المحتلين الذين كانوا أيضاً مسيحيين هى تلك العلامات القاسية.. فلقبوهم بعنصرية بغيضة قائمة على التمييز العنصرى لا الدينى بالعظمة الزرقاء ترفعاً عنهم.. ولأن على الباغى تدور الدوائر، ظلت مقاومة المصريين متقدة وسقط الشهداء من أجل وطنهم.. حتى جاء الفتح الإسلامى.. وكان أول من ناصره الرهبان ففتحوا أديرتهم لتنظيم الصفوف.
نظر حسين إلى صور الكنائس الجميلة التى يتعدى عمر بعضها ألف عام.. ولا تزال شامخة لتُشهد التاريخ على كذب المدعين.
وإلا فكيف لبضعة آلاف فارس هزيمة جيش من أقوى جيوش الأرض إلا بمساعدة ملايين المصريين.. وهكذا اختلطوا بهم، منهم من أسلم منهم ومن لم يسلم ومع الزمن تصاهروا وتناسبوا وكالعادة طغت مصر بسحرها على هوية المقبلين فذابوا فى نسيج الوطن.
إذن، «العظمة الزرقاء» هى وسام على كتف كل مصرى مسلم ومسيحى دفع ثمن حريته غالياً.. وأستطيع أن أؤكد لك من ملامحك السمراء أنك مصرى صميم من أحفاد ذوى العظمة الزرقاء.
ليصيح أحمد:
- أنا مش فاهم حاجة.. يعنى أقدر ألعب مع «مينا» تانى؟.. أنا بأحبه.
ابتسم الأستاذ وقد ترك لـ«حسين» مهمة إصلاح ما أفسده العم المقبل من بعيد.
وفى نهاية اليوم الدراسى رأى أيادى الإخوة تعانقت فى طريق العودة من المدرسة من جديد، وصوت ضحكاتهم يُطرب القلب.
تأمل جرحاً عميقاً فى يده وآخر أعمق فى قلبه لا يزال يذكره برفاق رحلوا وهم يدافعون عن العرض والأرض، اختلطت دماؤهم دون أن تستطيع أن تعرف من منهم مسلم أو مسيحى، شعر بفخر مشاركتهم النصر.. لكن ترى ماذا سيكون حال المعارك المقبلة؟
تساءل الصغار وهم يمرحون: هو الأستاذ مسلم ولا مسيحى؟.. مش مهم.. المهم إنه مصرى.. واسمه عبدالله المصرى.

[walaa farouk]

ربنا يبارك خدمتك

[Mary Naeem]

شكرا على المرور