أقومُ وأمضي الى أبي فأقولُ له
يا أبَتِ إنّي خَطئتُ الى السماءِ وإليكَ ولستُ أهلاً بعد ذلك لأن أُدعى لكَ ابناً
فاجعلني كأحد أُجرائكَ
لوقا: 15: 18 – 19
طريق التوبة
الإبن الضال
أليس في هذا النص الإنجيلي مدعاةٌ لإثارة بعض التساؤلات في أعماقنا ومنها مثلاً
1 - ما هو الدافع الذي جعل هذا الأب أن ينزل عند رغبة إبنه الأصغر، فيَقسِم ماله بينه وبين أخيه الأكبر، فيعطيه نصيبه ويقوم بتوديعه لدى قراره السفر الى بلدٍ بعيد؟ لم تَدفعه الى ذلك إلا محبته! لأنَّ المحبة لا تقف في طريق الحرية وإن كانت على خطأ!
2 - ثمَّ ما الذي حدا بالأب أن يبقى في حالة الإنتظار راجياً رجوع إبنه الذي فارقه؟ أليس ما يكنُّه له من حنان وحب!!
3 – ما الذي دفع الأب لإستقبال إبنه الأصغر العائد بالعناق والقبلة الطويلة بدلاً من محاسبته على ما فعل؟ ليس سوى المحبة ايضاً.
تُرى، كم كان عُمقُ محبة هذا الأب، بحيث أنها دفعته أن يخرج الى إبنه الأكبر الذي امتنع عن الدخول، ويتوسَّل إليه ويُرضيه من أجل إبنه الأصغر الذي فرح بلقائه بعد الضياع. إنها محبته الكبيرة للجميع!
ما أعظمكَ وما أسماكَ يا مُحِبَّ البشر! إنَّه الآب السماوي الذي لم يجد يوحنا صفة لتعريفه بها أعظم من " محبة " إذ ليس هنالك كلمة للتعريف به أكبر! كانت أجوبة الأسئلة الثلاثة السابقة سهلة كما رأينا. ولكن ما الجواب للسؤال الصعب التالي: ما الذي اضطرَّ الإبن الأصغر لحزم أمره والرجوع الى أبيه؟ لهذا السؤال جوابان.
1 – ارتكاب الخطيئة. العيش في الخطيئة واهٍ جداً، تبدو الخطيئة حلوة ومغرية للوهلة الأولى، ولكنَّ ثمرها في النهاية مُرٌّ وغاشٌّ كالخرنوب، عندما يختبر المرءُ الخطيئة مراراً عديدة، في الآخر تدفعه الى طريق التوبة.
2 – الإنسان خلقه الله صالحاً بالطبع، فيكون من الصعب عليه أن يحيا غريباً في بيئةِ عالم مليء بالشرور حيث لا يجد راحة هناك. وليس الأمر غريباً أنَّ العديد من البشر عاشوا غرباء عن الله، يقتاتون خرنوب الخطايا، ولم يلتفتوا الى إصلاح حياتهم، فظلوا سادرين في ظلام الغش.
3 - لذلك فإنَّ الدافع الأعمق والأهم الذي تحرك في كيان الإبن الأصغر وأعطاه الجرأة للرجوع والتوبة هو تأكدُه من مدى الحنان الذي يغمُر قلب أبيه، وبلا شكٍّ أنَّ هذا الإبن شعر في غربته بافتقاره الى مساعدة مَن يستطيع إسعافه ولو بالخرنوب فلم يجد، حينذاك تذكَّر حُب الأب وما يُفرزه مِن حنان واهتمام! هذا هو واقع الآب السماوي، يبعث بدفء الحياة في مفاصل أمثال هذا الصغير المتعبة لكي يُبادر للعودة عن طريق التوبة الزاخر بالمحبة الأبوية. حنان الله جارح لكُلِّ متغرِّبٍ عنه، حُبُّ الله هو سيف قاطع!
إنَّ الحُبَّ الإلهي هو خبز الحياة الحقيقية الذي به يحيا الإنسان، لو فكَّرنا ملياً بالعبارة التي قالها المسيح الرب: < تعالوا إليَّ جميعاً ايها المُرهقون المُثقلون، وأنا أُريحكم... > متى 11: 28. لأتَّضح لنا بأنَّ المسيح الرب قالها عانياً بها: < تعالوا إليَّ ايها المُرهقون ... لكي أرتاح أنا > أجَل أيها المؤمنون، إذا كنا غير مرتاحين يشعر المسيح بالتعب، حين ننسى كرامة حياتنا الحقيقية لا نكون بخير، وبذلك يفوق ألمُه ألَمَنا. حين نُخطيء نبتعد عن الله، ففي هذه الحالة لا تُثير الله الكرامة ولا يسعى للحساب والإنتقام، بل تُثيره الغيرة، لأنَّه إلهٌ غيورٌعلى جبلة يديه المُتبنّاة بحبِّه الأبوي، ويُريد لها الحياة! ألم يقُل رسول الأمم بولس في رسالته (الأولى الى قورنتُس 3: 16) < أما تعلمون أنَّكم هيكل الله... > وها هو الرب يسوع يُعلن موقفه من هذا الهيكل بقوله: < الغيرةُ على بيتكَ ستأكُلُني > يوحنا 2: 17. إنَّ محبة الله سِرٌّ لا يُدرك، وطريق التوبة عظيم ومُريح. < التوبة هي مَقتُ الخطيئة > و < حيث كثًرَت الخطيئة فاضت النعمة... > ( رسالة بولس الى اهل روما 5: 20 ) يا واهب الحياة قُدنا الى طريق التوبة! لأننا نكره الخطيئة ونريد مرضاة الله بعد شرودٍ طويل، إننا نعلم أنَّ الآب ينتظرنا بعد ابتعادنا لكي يستقبلنا بالعناق وقبلة السلام .