في رواية شعرية كتب أحد الأدباء قصة رمزية تتحدث عن رجل شرير، امتلأ جسده بالقوة، وقلبه بالغلظة، وعقله بالجمود، وعواطفه بالجفاف. وقف هذا الرجل يسخر من الناس حوله، ويلعن الأرض ويتحدى السماء! ولم يجد في القوم من يصده عن غيه، أو ينهيه عن شره، فالناس يخافون الأقوياء، ويرهبون الجبابرة، ولهذا فقد صمت الجميع أمام سطوة هذا الوحش الكاسر، وإن كان أغلبهم وهو في صمته قد استنزل عليه لعنة الله ونقمة السماء!
واستطاب الرجل هذا الإحساس بالعظمة والسطوة، فوجه بندقيته نحو السماء، وقال في سخرية:
«هل في السماء من يستطيع أن يبارزني؟»
وفي هستيرية وحقد أطلق الرجل رصاصة بعد الأخرى نحو السماء وهو يردد كلمات السخرية والتحدي!
والتفت الناس الطيبون نحو السماء، وقال أحدهم:
«ستنزل صاعقة من السماء لتحرق الرجل»؛ وقال ثان: «ستنشق الأرض لتبلعه»؛ وقال ثالث: «سيتوقف قلب الرجل، ويسقط فجأة»؛ وقال رابع، وخامس، وسادس: «ستحولـه السماء إلى كلـــب أو حمـــــار أو خنزير!».. إلخ.
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل انطلقت أسراب الحمام من أبراجها، واقتربت أفرادها، لترسم بأجسادها على صفحة السماء كلمات واضحة تقول: «الله محبة».
ويريد صاحب الرواية أن يقول هنا: إننا كثيراً ما ننسى أن الله سبحانه لا يحمل ما نحمله في قلوبنا من حقد أو رغبــة في الانتقام أو ميل للسطوة. لكن جوهره هو الحب والرحمة والحنان.
لقد خلق الله الإنسان، وفيه صورة الله المحب، لذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون الحب، ولا يمكنه أن يتجاهل تلك العاطفة، لأنها بعض منه: إنه يحس ويدرك ويتجاوب هو وأصداء الحب التي تملأ أجواء الكون، لذلك لا ينبغي أن ندهش عندما نلاحظ أن أكثر الناس جموداً أو وحشية يرق في مرات كثيرة، ويتجاوب كالطفل البريء مع كلمات ومشاعر الحب إذا وجهت إليه في صدق، فالإنسان خلق ليحب.
حاجة الإنسان إلى الحــــــب:
على رصيف إحدى محطات نيويورك ظهرت مجموعة من الشرطة تدفع أمامها رجلاً مقيداً بالسلاسل، وكان الرجل شرساً كالح الوجه تبدو عليه علامات اليأس والقنوط، فقد ارتكب الكثير من الجرائم وهو محمول الآن إلى مصيره التعس.
ومع أن الرجل كان شارداً بفكره بعيداً، فإنه تنبه إلى همسات طفلة صغيرة عمرها سبع سنوات أفلتت من يد والدها، وأسرعت نحوه والدموع في عينيها لتقول له: «أنا حزينة من أجلك!».
ولم يسمع هذه الكلمات الخافتة إلا الرجل وحده، لكنها تركت في نفسه أثراً لم يمحه الدهر: فعند انفراده في زنزانته الصغيرة - كانت هذه الكلمات وحدها ترافقه، وعندما أظلمت كل الأنوار كان بريق الحب في عيني الطفلة يضيء ليله! ولأول مرة بدا هادئاً وادعاً رقيقاً. وقد شهد بذلك السجَّان قائلاً:
كنــت أعـــرف هــذا السجين من قبل، فكثيراً ما سبب لي المتاعب في كل مرة جاء إلى هذا السجن، لكنه في هذه المرة جاء مختلفاً تماماً؛ فقد غيرته كلمات الحب الصــادق، أو كما قال هو: «إن بنتاً صغيرة حزنت لأجلي، فكسرت شفقتها قلبي».
قدرة الإنسان على الحـــــب:
الإنسان ليس فقط محتاجاً للحب، لكنه من نعمة الله عليه قادر أن يحــب، بل قــادر أن يفنـــي في حبــه: فعندما خلق الله أبانا آدم، كان يعلم أن هذا المخلوق المدلل لم يكن ليحس بالسعادة حتى في الجنة دون أن يكون هناك من يبادله الحب، لذلك خلق له حواء وأعطاه الميل إليها، والمقدرة على حبها واحترامها والاستئناس برأيها والسكون إليها، وجعل بينهما مودة ورحمة.
وليس عجيباً إذاً أن نقرأ قصة الزوجة التي لم تستطع أن تحمل زوجها المشلول لتهرب به من النار، فجلست إلى جواره لتلقى معه المصير الواحد!
وليس عجيباً أن نقرأ قصة الرجل الأفريقي الذي دفع بجسده إلى أنياب الأسد الجائع ليعطي زوجته فرصة للفرار!
وليس أقل من هذا أو ذاك وفاء صديق لصديقه في ملحمة من ملاحم الحب الأقوى من الموت!
ونحن حين نقرأ القصص التاريخية التي تتناول سيرة المحبين، الذين أحبوا رفقاءهم أكثر من حبهم لأنفسهم - قد تبدو هذه الصـــور اللامعـــة للحـــب كمـــا لو كانت صـــوراً غير طبيعيـــة، لكن الحقيقة أنها برغم ندرتها، تمثل الصورة الطبيعية التي خلقنا الله عليها، والتي يعتبر الخروج عنها شذوذاً غير إنساني، وانحرافاً عن الحب الحقيقي الذي أودعه الله قلوب البشر.
عندما تنحرف أقدام الحب:
لماذا إذن يقتل الأخ أخاه؟ ولماذا يدب الخلاف بين زوج وامرأته من بعد حب عميق؟ ولماذا يختلف حبيبان من بعد وعود وعهود؟
لماذا المكايد والتخاصم والتقاتل والتطاحن؟
ولماذا يختفي الحب الوليد، وتذبل أزهاره الندية؟
لعل السبب الأساسي في ذلك ليس سطوة الشر، بقدر ما هو انحراف عن الحب كما أعلنه الله في ذاته وفي خليقته.
فقد وضع الله هذه العاطفة في قلب الإنسان حتى يستطيع بها أن يحفظ في ارتباط وثيق عميق قوي علاقته بالله الذي هو ينبوع الحب وجوهره، كي يكون هذا الحب الطبيعي سياجاً يحمي حياة البشر من السقوط في مخالب الغرائز والميول المنحرفة.
لكننا «نسقط في الحب» أو لعلنا «نسقط من الحب» عندما تنحرف أقدامنا عن جوهر الحب الصحيح.
جوهر الحــــــب الصحيح:
غايــة الحــب إذاً هي معرفة الله، لا معرفة الإدراك والخضوع، بل معرفة الحب والحنين، معرفة الولاء والوفاء، معرفة الشوق والهيام. إن جوهر الحب إنما هو قيام علاقة خاصة بين الإنسان وربه، يبث فيها الإنسان نجواه أو شكواه وحنينه وهيامه، ويتلقى الإنسان فيض ينابيع الحب الدافق التي تملأ قلبه، فيحب الناس والدنيا جميعاً.
لقد وضع الله الحب في قلب الإنسان، ليقترب به إلى الله، ولينهل به من حب الله الذي لا ينضب، ولا يقف عند حواجز المطامع البشرية الصغيرة، في دنيانا الزائلة وأحلامنا الزائفة!
إن جوهر الحب هو الله نفسه، والحب الحقيقي هو سكناه في قلوبنا واتحادنا معه في شركة قدسية.
إن حبه نار تطهرنا من نجاساتنا، وتحرق زيف مطامعنا!
إن روح الله في قلوب التائبين هو ينبوع الحب الصحيح الذي يوقف تيارات الطمع والحسد والجشع والحقد، ويلهب روح الود والمحبة والعطاء والإيثار.
لكننا نفقد طريقنا عندما نُغْلق قلوبنا أمام صوت الحب الإلهي، فنشبه بذلك سائقاً يملك سيارة رائعة لكنها غير مزودة بالوقود! إن قلباً ليس فيه جوهر الحب، لهو قلب معطل يمكن أن يدفعه صاحبه بالجهد خطوات قليلة، لكنه لا يلبث أن يقف، لأنه قلب بارد، لذلك تتعطـــل قلوبنا، وتقف جامدة على ممرات الحياة؛ لأنها ليست مزودة بزيت العلاقة الحارة بالله!
إنها قلوب ساكنة، طاقات عاطلة في مواقفها بجوار الأرصفــة، ولو أنها امتلأت بروح الله وحبه، لصـرنا ملائكـة ولصارت الأرض سماء
تحياتي لكم