رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دانـيـال النبى وُلِدَ دانيال عام 619 ق.م في اليهودية وقد يكون وُلِدَ في أورشليم نفسها، من سبط يهوذا (دا 1: 6) من أبويْن يهودييْن تقييْن، ظهرت تقواهما في الاهتمام برعايته في طفولته، فنشأ يحب اللَّه ويتمسك بوصاياه، مهما كانت صعوبة الظروف المحيطة به، والتي كانت تحاول إبعاده عن اللَّه، كما سنرى أثناء حياته في السبي. معنى اسمه “اللَّه قاضي” وهذا ظهر في قضاء اللَّه على شعبه بالتأديب في السبي البابلي، ثم قضائه لهم بإرجاعهم من السبي بعد سبعين عاماً؛ لتوبتهم ورجوعهم إليه. وكان دانيال صوتاً قوياً للَّه يعلن الحق وقضاءه بكل شجاعة أمام الكل، حتى أمام أعظم وأقوى رجل في العالم وقتذاك، وهو نبوخذنصر ملك بابل. كان دانيال من النسل الملكي، أو على الأقل من أشراف وعظماء اليهود (دا 1 : 3)، لأن نبوخذنصر عندما هجم على اليهودية وأخذ آنية بيت الرب في السنة الثالثة لملك يهوياقيم، أخذ أول فوج من المسبيين إلى بابل. وكانوا من أفضل الشباب والرجال الموجودين في اليهودية، فيذكر الكتاب المقدس أنهم كانوا حسان المنظر ومملوئين من الحكمة والذكاء، فيستطيعوا أن يقفوا أمام ملك بابل ويخدمونه، أي متميزين في فهمهم وقدرتهم على الكلام والتعبير وتحمُّل المسئولية والقدرة على إدارة الأمور، بالإضافة إلى حُسن المنظر (دا 1 : 4). كان الجو المحيط بدانيال في طفولته جواً روحانياً، إذ كان يُوشِيَّا الملك الصالح يحكم مملكة يهوذا، الذي وجد نسخة من الشريعة في الهيكل، بينما كان يقوم بترميمه. وقدّم توبة هو وشعبه وعمل عيد الفصح وقام بإصلاحات روحية كثيرة، فتمتّع دانيال بهذا الجو الروحي المُشجِّع، ولعله تأثر بالأنبياء السابقين له مثل إشعياء وإرميا وعاموس وهوشع وميخا. عندما بلغ دانيال العاشرة من عمره قُتِلَ يُوشِيَّا الملك في معركة مجدو على يد نخو ملك مصر وملك ابنه يهوآحاز الشرير، الذي حكم لمدة ثلاثة أشهر وملك بعده يهوياقيم أخوه الذي سار في الشر. فتضايق دانيال لانتشار العبادات الوثنية أيام يهوياقيم، بعد أن كانت مملكة يهوذا قد تخلّصت منها على يد يُوشِيَّا. فجعلته هذه الظروف الصعبة يتمسك باللَّه وشريعته، ولعلّ أمه كانت عاملاً مساعداً قوياً في هذا الأمر، كما كانت أم موسى عاملاً هاماً في تربية موسى وتمسّكه بالإيمان. لمَّا بلغ دانيال الثالثة عشرة من عمره كان قد تملّك نبوخذنصر الملك العظيم على مملكة بابل، فهاجم بلاداً كثيرة، منها مملكة يهوذا وأخذ بعض آنية بيت الرب من هيكله في أورشليم وسبى الفوج الأول من اليهود وهم أفضل الشباب ومنهم دانيال مع بعض أشراف اليهود ونقلهم إلى بابل. وهناك تم فحصهم، فأُختير دانيال بواسطة “أشفنز” رئيس الخصيان؛ ليكون من صفوة الشباب الذين سيُعَدّوا إعداداً خاصاً في مدرسة الحكمة لمدة ثلاث سنوات؛ ليقوموا بعد هذا بخدمة الملك (دا 1: 3-5). كان نبوخذنصر واسع الحكمة، فاهتم بإعداد أفضل الشباب من كل بلاد العالم التي استولى عليها؛ ليرتفع بمستوى إدارة مملكته، ويحقق نجاحات عظيمة، فأسس مدرسة داخلية للحكمة، يقيم فيها الشباب المختار إقامة كاملة لمدة ثلاث سنوات، يتعلمون فيها الحكمة. كانت فكرة هذه المدرسة هى إبعاد الشباب عن قوميتهم؛ بجذب قلوبهم لمحبة بابل العظيمة وتعليمهم اللغة الكلدانية، بل تغيير أسمائهم أيضاً إلى أسماء بابلية، فتسمّى دانيال بلطشاصر وأصل الكلمة في اللغة الكلدانية هو “بلو ـ ليتا ـ شاري ـ أوسر” وتعني “أيها البعل هب حمايتك القوية لرهينة الملك”. لأن المسبيين من النسل الملكي والأشراف كانوا يُعتبروا بمثابة رهائن عند ملك بابل، حتى يكون الملك يهوياقيم ملك يهوذا خاضعاً ومطيعاً لملك بابل. سُبيَ أيضاً مع دانيال من أشراف اليهود، أو النسل الملكي الثلاثة فتية القديسون ودخلوا معه مدرسة الحكمة، فكانوا مساندين ومشجعين لدانيال أثناء غربته في بابل. وأُعطوا أسماء بابلية بدلاً من أسمائهم اليهودية، فكانت أسماءهم اليهودية: حننيا وعزريا وميشائيل (ميصائيل) (دا 1: 11)، فدعوهم: شدرخ وميشخ وعبدنَغو (دا 1 : 7). قابلت دانيال والثلاثة فتية مشكلة عند دخولهم مدرسة الحكمة، إذ أن الملك أمر أن يُقدَّم للتلاميذ أفخر الأطعمة والمشروبات؛ ليزداد جمالهم الجسدي وصحتهم (دا 1: 5). ولكن كانت هذه الأطعمة مُحرَّمة على اليهود. فطلب دانيال من رئيس الخصيان المسئول عن رعايتهم أن يعطيهم أطعمة بسيطة وهى بقول ـ مثل القطاني ـ ولكن رئيس الخصيان تخوَّف من هذا، لئلا يُتهم أنه أخذ طعامهم الشهي من أطايب الملك لنفسه وأعطاهم بدلاً منه طعاماً رخيصاً وهو القطاني، بالإضافة إلى أن هذه الأطعمة الرخيصة ستؤدي إلى هزال أجسامهم، فيتهمه الملك بالإهمال. ولكن دانيال طلب منه أن يجربهم عشرة أيام فقط يأكلون فيها القطاني (دا 1: 12). وبعدها اكتشف أن صحتهم جيدة وأفضل ممن حولهم، فسمح لهم بأكل القطاني طوال الثلاث سنوات. ومن هذا تظهر شجاعة دانيال وتمسكه بالشريعة وطقوسها رغم صغر سنه، الذي لم يكن قد تعدّى السادسة عشر. بعد انتهاء المدرسة كان لابد على كل تلميذ أن يُقابِل الملك مقابلة شخصية ليمتحنه بنفسه. وهنا تظهر نعمة اللَّه، إذ اكتشف الملك تفوق دانيال والثلاثة فتية عشرة أضعاف عن كل التلاميذ المرافقين لهم في الذكاء والحكمة، بل وعن كل حكماء بابل وأعجب بهم جداً وخاصة بدانيال (دا 1: 20). وبعد ذلك، وبالتحديد في السنة الثانية لملك نبوخذنصر وكان عمر دانيال وقتذاك عشرين عاماً تقريباً، حلم نبوخذنصر حلماً أفزعه، فطلب من حكماء بابل كلهم أن يقولوا له الحلم، ثم يفسروه وإلاَّ سيبيدهم، فعجز الكل عن ذلك، فأمر الملك بقتلهم جميعاً. وهنا تقدم دانيال بإيمان وشجاعة فائقة إلى الملك وطلب مهلة؛ حتى يُعلِم الملك بالحلم وتفسيره، ثم ذهب وصلى ـ هو والثلاثة فتية ـ فكشف اللَّه له الحلم وتفسيره. ثم دخل إلى الملك وأعلمه أن ما يطلبه فوق قدرة البشر ولكن اللَّه العالم بكل شيء قد عرّفه الحلم، وذكر له الحلم وتفسيره وهو يختص بالممالك القادمة بعد مملكة بابل. فشعر الملك بقوة اللَّه في دانيال، بل قام وسجد أمام دانيال، لانبهاره بحكمته وأمر له بعطايا كثيرة وملّكه على ولاية بابل وجعله رئيساً لرؤساء المملكة ومُقيماً في القصر الملكي. وبواسطة دانيال جعل الثلاثة فتية مسئولين عن أعمال ولاية بابل عاصمة الإمبراطورية (دا 2). وهكذا نرى كيف مجَّد اللَّه دانيال الشاب المسبي كعبد، فجعل الملك يسجد له ويعظّمه فوق كل الرؤساء. وهذا بالطبع أعطى دانيال إحساساً بمساندة اللَّه له، فإزداد إيمانه وتمسكه بعبادة اللَّه. سمح اللَّه بمشكلة تحدث في بابل في الأيام التي كان فيها دانيال شاباً صغيراً؛ ليظهر نقاوة وشجاعة وحكمة دانيال. كان هناك رجل يهودي عظيم يُسمّى يوياقيم وكان من أغنى وأعظم الرجال اليهود المُقيمين في بابل، وكان في بيته حديقة كبيرة يجتمع فيها اليهود للقضاء وفض المنازعات بينهم. وكان يقوم بالقضاء اثنين من شيوخ إسرائيل العارفين بالشريعة وكانا يتغيران كل سنة. كان ليوياقيم امرأة جميلة جداً تُسمى سوسنة بنت حلقيا، وكان والداها من أتقياء اليهود اهتما بتربيتها تربية روحية، فعرفت شريعة اللَّه وتمسكت بها وكذلك ربت أولادها على ذلك. كان اليهود يجتمعون في كل صباح لفض منازعاتهم، وبعد انصرافهم عند الظهر كانت سوسنة تنزل وتتمشى في حديقتها، فلاحظها هذان الشيخان في إحدى المرات وأُعجب كل منهما بجمالها ولكن لم يكاشف أحدهما الآخر، بل كانا كل يوم يحاولان أن يتأخرا قليلاً ـ بعد انصراف الشعب ـ ليتمتعا برؤيتها، دون أن تشعر وهى تتمشى في أحد جوانب حديقتها. وفي أحد الأيام قرر كل من الشيخين أن يبقى فترة في الحديقة؛ ليتمتع برؤيتها فترة أطول، فتظاهر كل منهما أمام الآخر بالانصراف، ولكن بعد قليل عاد كل منهما، فتقابلا وتعجب كل منهما لرجوع الآخر، فاضطر أن يكشف كل منهما للآخر تعلّقه بجمالها ونيته أن يتمتع برؤيتها فترة طويلة، وفعلاً انتظرا وهما مختبئان وتمتعا برؤيتها، ثم انصرفا بعد أن اتفقا على تحيُّن فرصة للإنفراد بها لمضاجعتها. في أحد أيام القضاء بعد انصراف الشعب، اختفى الشيخان في أحد أركان الحديقة؛ ليتمما قصدهما الشرير بمضاجعة سوسنة. وفي هذا اليوم نزلت سوسنة كعادتها للتمشي في الحديقة وكان يوماً حاراً، فقالت سوسنة لجاريتها، أغلقا الأبواب وأحضرا لي دهن وغسول، أي المواد اللازمة للاستحمام. وبعد أن أغلقت الجاريتان أبواب الحديقة دخلتا إلى القصر لإحضار الدهن. في هذه اللحظة خرج الشيخان من مخبئهما وهجما على سوسنة وطلبا أن يضطجعا معها؛ لأنهما قد تعلقا بحبها وإن لم توافقهما فسيشهدا عليها أنهما رأيا شاباً يفعل الخطية معها. قالت سوسنة إن لم أوافقكما تأمران بموتي وإن وافقتكما أخطئ إلى اللَّه وأستحق الموت، فالأفضل لي ألاَّ أوافقكما وأُرضي اللَّه، حتى لو تعرّضت للموت، ثم صرخت بصوت عظيم؛ فأسرع أحد الشيخان وفتح باب الحديقة. اجتمع أهل البيت والعبيد والجواري، فقال الشيخان لهم إننا قد رأينا شاباً يعانق سوسنة، فأسرعنا لإيقاف الشر ولم نستطع لقوته الإمساك به، فهرب منا. فتعجب الكل مما سمعوا؛ لأن سوسنة كانت تتصف بالطهارة والنقاوة. انعقد مجلس القضاء في اليوم التالي واجتمع الشعب، وأمر الشيخان بإحضار سوسنة وأمرا بكشف البرقع الذي تغطي به وجهها؛ ليتمتعا برؤية جمالها. ثم شهدا زوراً عليها، أنهما وجداها بالأمس تُعانق أحد الشبان في الحديقة وحدهما ويفعلان الإثم وحُكما عليها بالموت. أعلنت سوسنة أنها بريئة من هذا الاتهام وصرخت إلى اللَّه ولكن لم يسمع لها أحد؛ لتوقيرهم للشيخين اللذين شهدا عليها. واقتادوا سوسنة لتنفيذ حكم الموت عليها. وإذ بدأ الموكب يتحرك صرخ شاب ـ هو دانيال النبي ـ وقال أنا بريء من دم هذه المرأة ووبخ الشعب؛ لأنهم قبلوا الحكم عليها دون فحص. وقرر أن هذين الشيخين قد شهدا عليها زوراً. وطلب من الكل العودة إلى مجلس القضاء لفحص الأمر. أعطى اللَّه نعمة لدانيال فخافه الكل حتى الشيخين وعادوا إلى مجلس القضاء، فجلس دانيال وطلب تفريق الشيخين عن بعضهما. وقال للأول أيها الشرير تحت أي شجرة رأيت سوسنة والشاب؟ فقال تحت شجرة الضروة. ثم استبعده وأتى بالشيخ الآخر وقال له: يا من كنت تنظر إلى بنات إسرائيل وكن يخجلن من نظراتك وكلامك وخفن أن يتكلمن معك، قل لي تحت أي شجرة رأيت سوسنة والشاب؟ فقال: تحت شجرة السنديانة. وإذ اختلف الشيخان في شهادتهما ظهر كذبهما وظهرت براءة سوسنة، فهتف الشعب وباركوا اللَّه الذي أظهر براءة هذه المرأة التقية، ثم اقتادا الشيخين للحكم عليهما بالموت، طبقاً للشرعية التي تقضي بنفس الحكم على من يشهد زوراً على غيره (دا 13). وبعد هذا أراد نبوخذنصر إظهار عظمته، فأقام تمثالاً ضخماً من الذهب ارتفاعه ثلاثين متراً وعرضه ثلاثة أمتار، وأمر كل رؤساء مملكته أن يأتوا ويسجدوا للتمثال في احتفال عظيم، عُزِفَتْ فيه الموسيقى بآلات كثيرة. ولم يحضر بالطبع الثلاثة فتية؛ لأنهم لا يسجدون إلاَّ للَّه ولم يحضر أيضاً دانيال. وهنا تقدم بعض الرجال الكلدانيين واشتكوا الثلاثة فتية للملك؛ لأنهم لم يسجدوا للتمثال وأنهم مستحقون أن يُلْقَوا في أتون النار، عقاباً لهم، كما أمر الملك. ويبدو أن مركز دانيال كان أكبر من أن يشتكوا عليه، فخافوا ولم يتكلموا عنه. فغضب الملك واستدعى الثلاثة فتية، الذين أصروا على عدم السجود للتمثال؛ لأنهم يسجدون للَّه وحده. فاعتبر الملك هذا التصرف عصياناً له وأمر بأن يُحمَّى الأتون سبعة أضعاف ما كان مقرراً له ويُربط الثلاثة فتية بحبال، ويمسك بهم أناساً أقوياء ويلقون بهم في أتون النار، ففعلوا هكذا وحضر الملك بنفسه. وأمسك رجال الملك بالثلاثة فتية الموثقين واقتربوا من باب الأتون وألقوهم فيه. ومن شدة النار احترق رجال الملك الجبابرة. أما الثلاثة فتية فإن الحبال التي تربطهم انحلت ورآهم الملك يتمشون داخل الأتون ومعهم شخص رابع شبيه بابن الآلهة، إذ أن اللَّه أحاطهم في الحال بغلاف من هواء بندى، فلم تمسهم نار الأتون. وفرح الثلاثة فتية برؤية اللَّه داخل الأتون وأخذوا يسبحونه. فقالوا له مديح موجود في تسبحة الكنيسة، بدايته: “نتبعك بكل قلوبنا” (دا 3: 41-44)، ثم أنشدوا الهوس الثالث، أي التسبيح الثالث الموجود في كتاب التسبحة (دا 3: 52-90). وحاول رجال الملك تحمية الأتون، حتى ارتفعت النار إلى 24.5 متراً في الهواء وأكلت النار بعض الكلدانيين الذين اقتربوا من الأتون، فتعجب الملك جداً عندما رأى أربعة رجال يتمشون داخل النار، ثم نادى على الثلاثة فتية من النار، فخرجوا إليه. ولاحظ أن النار لم تمس حتى ثيابهم وليس فيها رائحة النار، فأعلن قوة إلههم التي تفوق كل قوة في العالم. وبهذا حوّل اللَّه هذه الضيقة العظيمة إلى وسيلة لتمجيد اسمه وإعلاء شأن أولاده الثلاثة فتية (دا 3). مجّد اللَّه دانيال، إذ أعلن له الأسرار التي لا يعرفها غير اللَّه وأعطاه أيضاً ذكاءً يفوق كل من حوله، فاحترمه الكل حتى الملك، فانتقل من مرتبة العبد إلى رئاسة المملكة، كما نقل اللَّه قديماً يوسف العبد إلى رئاسة مملكة مصر بالحكمة وفهم الأسرار. وقد شهد حزقيال بحكمة دانيال الفائقة وفهمه الأسرار في (حز28: 3). مرّت السنوات ونبوخذنصر يملك على مملكة بابل ويُسيطر على العالم، مُظهِراً حكمته وسلطانه في إدارة المملكة وفي بنائه عاصمته بابل بأسوار عالية مُحصّنة. ووضع فيها مخازن كبيرة للطعام وكان نهر الفرات يمر من تحتها، وبالتالي لا يمكن اقتحامها، أو محاصرتها بحسب المنطق البشري. ولكن نبوخذنصر تكبر بسبب إحساسه بعظمته في أعماله التي عملها ونسب كل المجد لنفسه وليس للَّه، فأراد اللَّه أن يُعرِّفه بضعفه، فحلم حلماً غريباً أزعجه، فأسرع لدانيال ملتجئاً إليه ليفسر له الحلم. وهنا تظهر شجاعة دانيال، الذي قال للملك أنه بسبب تكبرك غضب اللَّه عليك، والشجرة العظيمة التي رأيتها في الحلم والتي تحتمي بها جميع طيور السماء وبهائم الأرض وقد قطعت، هى أنت أيها الملك، الذي ستفقد عقلك ويطردونك من بين الناس سبع سنوات وتعيش مثل الحيوانات؛ حتى تتوب عن كبريائك وعندما تتضع يعيدك اللَّه إلى مملكتك وقد حدث كل هذا مع الملك (دا 4). بعد هذا مات نبوخذنصر العظيم وملك بعده ابنه أويل مردوخ عام 562 ق.م وكان منشغلاً بالفن والعلوم المختلفة، فضعفت المملكة في أيامه ولم يعتمد على دانيال، الذي كان عمره وقتذاك تسعة وخمسين عاماً، فأهمل وجوده وعاش في أحد زوايا القصور الملكية، فكانت فرصة للصلاة وعبادة اللَّه الذي أحبه. وغالباً عاش دانيال بتولاً، إذ لم يُذكر له زوجة وأولاد، فعاش كأحد الرهبان يتمتع بحياة الوحدة والتأمل سنوات كثيرة وكان ذلك لمدة اثنين وعشرين عاماً، حتى أن حزقيال النبي ـ الذي كان معاصراً له وأكبر منه في السن ببضع سنوات ـ شهد أنه من أتقى رجال العهد القديم، الذين اتصفوا بمحبة الصلاة، إذ ذكره مع نوح وأيوب كرجال اللَّه المتميزين بالبر (حز14: 14، 20). في هذه الفترة الهادئة غالباً كانت فرصة أن يعلن اللَّه لدانيال مجموعة من الرؤى ذكرها لنا في (ص7-12)، تُحدِّثنا عن مستقبل الممالك التي تحكم العالم وعلاقتها بشعب اللَّه ومملكة المسيا المنتظر القادمة وكيف يُتمم فداءه على الصليب ويأخذ أولاده في النهاية إلى الملكوت الأبدي. رغم أن دانيال تبوأ مراكز عظيمة في المملكة البابلية، ثم بعد ذلك في مملكة مادي وفارس ـ كما سنذكر ـ لكنه تعرّض لمؤامرات كثيرة، وصلى وأنقذه اللَّه منها. فكان مُعرضاً للموت عدة مرات، كل هذا ساعد دانيال على التعلق باللَّه والتغرب عن العالم، فلم ينزعج عندما أهمله الملوك التاليون لنبوخذنصر، بل كانت فرصة له للصلاة مع الزهد، إذ كان ناسكاً يصوم أياماً كثيرة أثناء عبادته للَّه (دا 8: 27، 10: 3). ومع أنه كان في السبي بعيداً عن أورشليم والهيكل، لكن قلبه كان مُتعلقاً بعبادة اللَّه والمُحرَقة الصباحية والمسائية اليومية وكل ممارسات العبادة، التي كانت تتم في الهيكل الذي دمَّره نبوخذنصر. ملك أويل مردوخ لمدة سنتين ونصف، ثم قتله أحد رؤساء المملكة. وتوالت الاغتيالات وتملك هؤلاء الرجال على عرش بابل، حتى سنة 539 ق.م وفيها ضعفت المملكة البابلية جداً. وفي عام 539 ق.م تملك بيلشاصر ـ الذي كان يُعتَبر ابناً لبنونيدس الملك حفيد نبوخذنصر ـ على بابل. وكان شاباً مستهزءاً، انشغل بالخمر والنساء، فلم يملك إلاَّ شهوراً قليلة لم تصل إلى سنة. وفي نهاية ملكه ـ تمادياً في خلاعته واستباحته ـ طلب أواني بيت الرب؛ ليشرب فيها الخمر مع أحبائه ونسائه، وهنا ظهر غضب اللَّه عليه، إذ ظهرت يد تكتب على الحائط أمام عينيه كلمات غير مفهومة وهى “منا منا تقيل وفرسين” (دا 5: 5-9). فانزعج الملك جداً وطلب كل حكماء بابل ليفسروا له هذه الرؤيا المفزعة. وهنا تقدمت الملكة ـ وهى غالباً إحدى بنات نبوخذنصر ـ وطمأنت الملك بأن هناك رجلاً فهيماً يُدعَى بلطشاسر (دانيال) موجود في المملكة منذ أيام أبيه، أي جده نبوخذنصر، فاستدعاه بسرعة وأتى من مكان خلوته ـ وكان عمره وقتذاك واحد وثمانين عاماً ـ فوعده الملك بهدايا ولكنه لم يهتم بها وأعلمه بمعنى الرؤيا وهو أنه لتجاسره بشرب الخمر في آنية بيت الرب وكل شروره أرسل اللَّه له هذه الرسالة، وهى: أنه وُزِنَ بالموازين فوُجِدَ ناقصاً، وأن مملكته ستُقسَّم وتؤخذ منه، فمن خوف بيلشاصر الملك أعطى دانيال قلادة، تعلن أنه الرجل الثالث في المملكة. وقد تحقق كلام دانيال في هذه الليلة، إذ قُتِلَ بيلشاصر وغزت مملكة مادي وفارس بابل واستولت عليها، وانتهت بهذا الإمبراطورية البابلية وبدأت إمبراطورية مادي وفارس وكان ذلك عام 538 ق.م. حكم كورش على مملكة مادي وفارس كأول ملك للمملكة وكان يساعده حميه الملك داريوس المادي وقد شعرا بمكانة دانيال وذكائه وتاريخه العظيم، فجعلاه من رؤساء المملكة، بل عندما أقاما 120 مرزباناً (رئيساً) جعلا عليهم ثلاثة رؤساء، منهم دانيال، وكان داريوس يود أن يجعله رئيساً وحده على جميع الرؤساء (دا 6: 1-3)؛ لاقتناعه بتميزه، خاصة وأن داريوس تميز بالفهم والإدارة السليمة لبابل، التي ظلت إحدى عواصم المملكة الجديدة؛ مملكة مادي وفارس؛ وداريوس هذا كان صديقاً لدانيال واعترف بقوة إلهه. اغتاظ مرازبة الملك، أي رؤسائه من تميز دانيال ورئاسته لهم، فدبروا خدعة أقنعوا بها الملك، والمقصود الظاهري بها تعظيم الملك كإله، وهى ألاَّ يطلب أحد أية طلبة في المملكة إلاَّ من الملك. ومن لا يصنع هذا يُلقى في جب الأسود؛ لأنهم يعلمون أن دانيال متمسك بعبادة اللَّه والصلاة له (دا 6: 5). ظهرت هنا شجاعة دانيال، الذي ذهب إلى بيته وفتح نوافذه ونظر نحو أورشليم وصلى ثلاث مرات ـ كما تعود كل يوم بحسب عادة اليهود ـ وهى صلاة الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة، التي تُقابِل الساعة التاسعة صباحاً والثانية عشرة ظهراً والثالثة بعد الظهر (دا 6: 10). أسرع رؤساء المملكة إلى الملك واشتكوا له دانيال وعرَّفوه أنه لا يستطيع أن يرجع في أوامره؛ لأنه ملك، فحزن داريوس جداً وأجَّل عقاب دانيال حتى المساء، ثم أمر بإلقائه في الجب. وظل الملك حزيناً ولم يأتوا إليه بسراريه وسهر طوال الليل. وفي الصباح الباكر ذهب إلى الجب مع رجاله ونادى على دانيال، فرد عليه من الجب وأعلمه أن إلهه أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود، فلم يصبه أذى. فأمر بإصعاد دانيال، ثم إلقاء الرؤساء الذين اشتكوا عليه، هم وأسرهم، فالتهمتهم الأسود فور إلقائهم، وهذا أكد قوة اللَّه التي تحمي دانيال، فالأسود قوية وجائعة ولكنها لم تمس دانيال. وبهذا ازدادت عظمة دانيال في نظر الملك (دا 6: 14-24). إذ كان دانيال صديقاً للملك كورش، فكان يصطحبه في كل مكان، وكان هناك إلهاً في بابل يُسمَّى بال، يُقدم له أطعمة وأشربة كثيرة كل يوم، وكان الملك يذهب إليه ويسجد أمامه، أما دانيال فلم يكن يسجد، فسأله الملك عن سبب عدم سجوده، فقال له: إن بال تمثال لا يأكل ولا يشرب، فقال له الملك: إنه حي ويأكل كل هذه الأطعمة، فنفى دانيال ذلك بشدة. فاغتاظ الملك من كهنة بال وهددهم بالقتل إن ثبت أن بال لا يأكل هذه الأطعمة. ووافق الكهنة؛ لأن عددهم كان سبعين كاهناً هم ونساءهم وأولادهم، وكانوا قد صنعوا مدخلاً خفياً تحت المائدة التي يضعون عليها الأطعمة (دا 14: 1-12). ذهب الملك إلى معبد بال وأخرج الكهنة ووضع بنفسه الأطعمة والأشربة، ثم صرف دانيال كل عبيد الملك ولم يبقَ إلاَّ عبيد قليلون لدانيال، ونثروا رماداً في كل أرضية المعبد، ثم خرجوا وأغلقوا الباب وختموا عليه بختم الملك (دا 14: 13). في الغد ذهب الملك ودانيال إلى المعبد وتأكدوا من سلامة الأختام، ثم فتحوا الباب، فلم يجدوا طعاماً ولا شراباً، فهتف الملك وأراد أن يدخل وهنا أمسكه دانيال وقال له: انظر إلى الأرض، فقال له أرى آثار أقدام رجال ونساء وأطفال، ففهم الملك أن أناساً دخلوا المعبد وأكلوا الطعام فقبض على الكهنة وضيَّق عليهم حتى أروه المدخل الخفي تحت المائدة، الذي يدخلون منه، فأمر بقتلهم وحطم دانيال تمثال بال وكل المعبد (دا 14: 14-21). كان في بابل تنين عظيم يخاف منه الكل ويعبدونه وكان هذا حياً يتحرك، فقال الملك لدانيال إنك لا تستطيع أن تقول أن هذا الإله صنماً لا يأكل ولا يشرب فهو حي، فلماذا لا تسجد له ؟! فقال له دانيال إني لا أسجد إلاَّ للَّه، ثم استأذن الملك أن يسمح له فيقتل التنين. فتعجب الملك من شجاعة دانيال الذي بذكائه طبخ أقراصاً من الزفت والشعر والشحم وألقاها للتنين، وعندما أكلها انشق جوفه ومات. وقال دانيال للشعب هذه معبوداتكم بلا قيمة (دا 14: 22-26). اغتاظ رؤساء الملك واتهموه أنه قد صار يهودياً تابعاً لدانيال وطلبوا منه أن يُسلّم لهم دانيال وإلاّ فإنهم سيقتلون الملك. وهذا يُبيِّن سلطان هؤلاء الرؤساء ولكنه بلا قيمة أمام قوة اللَّه. ألقوا دانيال في جب الأسود مرة أخرى واستبقوه هناك ستة أيام؛ ليضمنوا أن تأكله الأسود الجائعة. وكان في الجب سبعة أسود مُنِعوا عنها الطعام مدة، فلم تمس دانيال كما حدث في الجب الأول. وتعاظم عمل اللَّه مع دانيال، إذ كان حبقوق النبي في اليهودية بجوار أورشليم، وكان قد طبخ طبيخاً وصنع خبزاً؛ ليُقدّمه للحصادين في الحقل. فظهر له ملاك الرب وقال له: احمل طعامك هذا إلى بابل إلى دانيال الذي ألقوه في جب الأسود، فقال حبقوق له إني لا أعلم الطريق إلى بابل. وهنا قال الملاك لحبقوق: امسك طعامك جيداً، ثم حمله وأوصله في الحال إلى الجب، فنادى حبقوق على دانيال، الذي فرح برؤية حبقوق، كما فرح حبقوق برؤية دانيال. وقال حبقوق: خذ الغذاء الذي أرسله لك اللَّه وألقى له بالطعام في الجب، فشكر دانيال اللَّه، الذي يهتم بطعامه، ثم أعاد الملاك حبقوق إلى اليهودية (دا 14: 30-36). ظل دانيال في خلوة مع اللَّه ستة أيام يأكل من الطعام الذي أرسله له اللَّه بيد حبقوق والأسود حوله في هدوء كحيوانات أليفة، وفي اليوم السابع جاء الملك داريوس ونادى على دانيال، فوجده صحيحاً لم تمسه الأسود بأذى، فأعلن الملك أن إله دانيال ليس مثله في الآلهة، ثم أمر بإصعاد دانيال وإلقاء من اشتكوا عليه فافترستهم الأسود فور سقوطهم في الجب، وأمر الملك أن يتَّقي كل الشعب إله دانيال (دا 14: 37-42). تظهر دقة دانيال في كتابة هذا السفر جزءاً باللغة الآرامية ـ التي كانت لغة بلاد مادي وفارس ـ وذلك في أحاديثه مع الملوك ورجالهم، وجزءاً باللغة العبرية في أحاديثه مع اليهود، والجزء الثالث كتبه باللغة اليونانية، التي كانت قد بدأت تنتشر في العالم، تمهيداً لظهور الإمبراطورية اليونانية التي ستأتي بعد مملكة مادي وفارس. وهكذا تظهر في حياة دانيال فضائل كثيرة ميَّزته عن كل من حوله، فظهر إيمانه وتمسكه بعبادة اللَّه حتى نهاية حياته. وكان رجل صلاة متمسكاً بالصلوات في مواعيدها وفي اتجاهها السليم، أي نحو أورشليم، وكذلك كان شجاعاً طوال حياته، حتى بعد أن تجاوز الثمانين من عمره، بالإضافة إلى حكمته وذكائه الفائق. فأعطاه اللَّه مكانة عظيمة ونعمة في أعين كل الملوك وأهمهم نبوخذنصر، وحتى الشاب بيلشاصر المستهتر الخليع خافه وكذلك ملوك مادي وفارس وقَّروه جداً. مما سبق نفهم أن دانيال أصغر من حزقيال بحوالي ثلاث سنوات، وقد تنبأ حزقيال عن السبي والرجوع منه ولكنه استشهد أثناء السبي. أما دانيال فعاصر المملكة البابلية طوال أيامها، ثم بدأ بضعة سنوات مع المملكة الجديدة، مملكة مادي وفارس، فرأى بعينه الرجوع الأول من السبي ـ على يد زربابل ـ قبل وفاته بسنة واحدة، ولم يعد معهم؛ لأنه كان قد تقدم جداً في السن، إذ كان عمره ثلاثة وثمانين عاماً. وهكذا مرّ سبعون عاماً لدانيال في السبي البابلي، فقد تم سبيه وعمره ثلاثة عشر عاماً وعاد الفوج الأول من السبي وعمره ثلاثة وثمانين عاماً. عاش دانيال حتى السنة الثالثة للملك كورش (دا 10: 1)، أو بعد ذلك بقليل وكان قد بلغ من العمر أربعة وثمانين عاماً، ثم رقد ودُفِنَ على رجاء آبائه، منتظراً المسيا الآتي لخلاص العالم والذي تنبأ عنه، بعد أن قدّم مثالاً لحياة عظيمة لأولاد اللَّه، حتى بين الوثنيين، مهما كان سلطانهم. وتعيد له الكنيسة في يوم 32 برمهات (1 أبريل) صلاته تكون معنا آمين. |
|