رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
«وكان أسحق ابن أربعين سنة لما أتخذ لنفسه زوجة رفقة بنت بتوئيل الآرامي أخت لابان الآرامي من فدان آرام». مقدمة أيهما يا ترى أهم في قصة الحياة الزوجية الصورة الأولى التي يتصورها الناس ليوم الزواج، أم صورة الأيام الأخيرة في الحياة الزوجية إن أمكن أن تصور.. إن الناس في العادة تهتم بأن يحضر المصور حفل الزواج، ليصور العروس في ثوب زفافها التقليدي الأبيض الجميل الأنيق، والعريس في بدلته المجهزة لهذا اليوم، لكننا لا نعرف إنسانًا فكر أن يستعدي المصور ليأخذ صورة لليوم الأخير عندما يربض الموت أو يأتي ليفرق بين اثنين عاشا سنوات طويلة في حياة زوجية قد تصل إلى خمسين سنة أو أكثر.. وبين هاتين الصورتين كم من الصور يأخذها الزوجان على مر الأعوام والسنين في الشباب أو الكهولة أو الشيخوخة أو مع الأولاد والأحفاد، فيما بين الجمال الرائق الفائق الحي جمال الشباب، وتجاعيد الشيخوخة القاسية ورسومها المطبوعة على جبين الاثنين في آخر المراحل في هذه الحياة، ولا أقصد من هذه الصور جميعًا مجرد الظاهر من الشكل، أو الخارج من الصور، بل أقصد شيئًا أعمق وأجل... فمن لي بمن يرسم تيار الحياة الزوجية عندما يكون الزوج حلماً رائقًا جميلاً نديًا كيوم الزفاف، يوم يتعانق فيه الزوجان نفسًا وروحًا وجسدًا وعندما تكون العاطفة قوية ورائقة ومشبوبة وملتهبة، وفي تلك الأيام البعيدة المتأنية عندما لا يعود الزوجان يبحث أحدهما في شيء عن شكل الآخر الجسماني، بل عندما تلعب السنون في ظروفهما المتعددة وتتغير الأوضاع، وتتلون حياتهما بمختلف ألوان الأحداث والمحن والآلام والمتاعب، وتهدأ العاطفة أو بالحري تتعمق لا ليكون تيار الزوجية ذلك الزبد الهائج فوق سطح البحار والمحيطات بل التيار العميق الداخلي الذي يسير الحياة الزوجية على نحو لا يعلمه سوى الله وحده!! ولعله من الغريب أن نلاحظ أننا لا نعرف بالضبط الصورة الأولى لزواج إبراهيم بسارة عندما تزوج هناك فيما وراء النهرين، لكننا نعرف بكل يقين الصورة الأخيرة عندما نراه وقد أضجع زوجته العظيمة جثمانا مسجي أمام بني حث، وهو يشتري القبر المشهور في مغارة المكفيلة، وعلى العكس من ذلك تمامًا، نحن نعرف جيدًا الصورة الأولى لزواج اسحق برفقة، في تلك القصة الطويلة الرائعة عندما ذهب اليعازر الدمشقي ليخطبها لسيده من فدان آرام، وكانت باهرة الجمال قوية الشخصية ممتلئة الأنوثة، لكني أخشي أن أقول إن هذه الصورة وحدها هي الغالبة في فهم هذه الشخصية، أو التي تطغي على أية صورة أخرى، ولذا فنحن أحوج ما نكون إلى الصور الأخرى الآتية المتلاحقة، وأخشى أن نصدم في بعض نواحيها، أذ سنرى صورا تختلف إلى حد كبير عن الصورة الأولى.. فمثلا ما أبعد الفرق بين أول مرة ترى فيها رفقة زوجها اسحق، فتغطي وجهها وهي تقترب منه عندما تراه مقبلاً إليها في الحقل القديم، والصورة الأخرى التي تتفق فيها مع ابنها يعقوب على استغلال عدم رؤياه لصالح الابن الأصغر، كل هذه الصورة تعطينا أن ننتبه بل وننبه ونحذر الأزواج والأسر والجماعات إلى ما قد يفعل الزمن والأيام في كل زواج ، وأفضل الأزواج وأسعدهم هم الذين يستطيعون أن يختموا الحياة الزوجية على صورة أروع وأحلى وأعظم وأمجد من اليوم الأول العاطفي الملتهب في قصة الزواج، .. وبهذا المعنى سنواجه رفقة في أكثر من صورة. رفقة وخطبتها كانت خطبة رفقة إلى أسحق أول قصة كتابية رائعة تذكر على هذا النحو المطول الذي جاء في الأصحاح الرابع والعشرين في سفر التكوين، وقد درج الوعاظ على العودة إلى هذه القصة الكتابية القديمة ليتناولوها من هذا الجانب أو ذاك، لكني أخشى أن أقول إن دراسة هذه الجوانب كثيرًا ما لا تأخذ حظها الكافي في الموضوع، ولعلنا لو أحسنا التأمل لرأينا القصة تبدأ أولا باستعمال العقل، والعقل هو أول خطوة في أي زواج موفق سعيد، وقد استعمل إبراهيم عقله فأغلق كل باب فيما يتصل بالزواج من بنات الجيرة المحيطة به من الكنعانيين، ذلك لأن إبراهيم كان يعلم تمام العلم ما للأسر المتصاهرة من سلطان وتأثير في حياة الزوجين، وان ابنه سيقاد حتمًا وبدون أدنى شك بتأثير هذه الزوجة إلى ما هو أسوأ وأرادأ أو أشر، الأمر الذي لم ينتبه له عيسو، أو استخف به، فقلب حياته وتاريخه بجملته، الأمر الذي وعاه بلعام بن بعور فجعله الشرك القاتل لشعب الله، عندما نصح بالاق ملك موآب بأن يهزم الشعب بالموآبيات الراقصات والواقفات في طريق العابرين!! الأمر الذي استهان به شمشمون استنادًا إلى قوته الجبارة الخارقة، فقلعت عيناه ودار كما يدور الحيوان في الطاحونة، وذهبت حياته على نحو محزن بسبب حجر دليلة الخاطئة، الأمر الذي غفل عنه سليمان رغم حكمته الفائقة فأمالت النساء الكثيرات قلبه بعيداً عن الله، ولهذا كان إبراهيم حازمًا وحاسمًا في أن يستعمل عقله ويبعد ابنه تمامًا عن تأثيرات البيئة المجاورة التي لا تتفق وأحلامه وميوله ورسالته ورؤياه البعيدة والعظيمة معًا، والتي لابد أن تكون... واستعمال العقل بهذا المعنى يرقى إلى مستوى البديهيات الألهية في الحياة، فلا حاجة إلى أخذ رأى الرب للزواج بمن يختلف وايانا في العقيدة والإيمان والحياة والأسلوب والرؤى، كمثل الملحدين ومن هم أشبه ممن لا تستطيع أن تجتمع معهم حول فكر أو معتقد أو رأى، لأن هذا يرقى إلى مستوى البديهيات التي لا حاجة إلى التساؤل عندها!! واذا فقد الإنسان عقله بهذا المعنى، فلا يلومن إلا نفسه على ما لابد أن ينال من أوخم النتائج أو أرهب الآثار أو أقسى الشرور، على أنه إلى جانب العقل، أو امتداداً له، عندما تتوقف خطاه، هناك الإيمان، والقصة ترينا كيف لعب الإيمان دوره العظيم في هذا الأمر، وكان الذين ربتوا لهذا الزواج ثلاثة... قلت ثلاثة!.... أخشى أني أخطأت.. فهم في الواقع أكثر من ثلاثة آذ هم في الحقيقة أربعة... كان هناك إبراهيم الذي رأى في الموضوع أخطر مواضيع الحياة وأهمها عنده، ولأجيال ممتدة أخرى بعيده آتية، ومن ثم استحلف كبير عبيده المؤتمن والموثوق به تمامًا!!.. ومع هذا فمن الغريب أن إبراهيم لم يتحرك في الأمر ولم يذهب مع عبده اذ أنه وإن كان قد أودع الأمر لهذا العبد الا أنه أودعه أكثر إلى السيد، وأدخل إبراهيم عنصر الإيمان فيه، وكان الثاني الذي لا يقل اهتمامنا بالأمر هو اسحق ونحن نعلم أن اسحق من ذلك النوع من الناس الذي يحسن التأمل، ولكنه لا يكثر الكلام، وكان اسحق ولا شك يدرك أن هذا الموضوع يعد بالنسبة له أخطر مواضيع الحياة جميعًا... وكان من الممكن أن يطلب الذهاب ليرى ويفحص ويدقق، ويشترط كما يفعل الكثيرون في أمر يعتقدون أنه من أعظم الأمور في قصة الحياة وعلى مفترق الطرق، ولكن اسحق آثر أن يخضع العقل لسلطان الإيمان! وكان الثالث اليعازر الدمشقي الرسول المكلف بتنفيذ هذه المهمة العظيمة والدقيقة والشاقة معًا، وكان اليعازر واحدا من أعظم الناس الذين يعرفون المسئوليات ويرتفعون بها أمام الله والناس إلى مرتبة التقديس، وقد كلفه سيده بمسئوليات متعددة، لكنه يعلم أنه لم يكلف قط بمسئولية أرهب أو أضخم من هذه المسئولية التي هو ذاهب إليها، ومع تقديره الضخم لهذه المسئولية، أؤ بالحري لتقديره الضخم لها، أوقف عقله وأدخل في الأمر... الإيمان!... أما الرابع أو بالحري الأول والأخير، فقد كان الله ذاته، ... واذا كان الموضوع عند الثلاثة ذا أثر بعيد عميق ممتد، فهو عند الله أعمق وأجل وأكثر امتداداً، والله هو المحيط بما لا يستطيع الثلاثة أن يصلوا أو يسبروا غوره أو يدخلوا إلى أعماقه، وأكثر من ذلك فان المرأة الذاهبة إلى هناك تحمل رسالة من أهم وأخطر الرسالات التي وضعت على عانق المرأة في كل التاريخ...وإذا كانت حاجة الإنسان الدائمة إلى أن يدخل الله معه في كل صغيرة وكبيرة، فأنه أحوج إليه عندما يقف على مرحلة حاسمة من مراحل الحياة، المرحلة التي لن تؤثر فيه هو فحسب بل ربما تطبع بآثارها أعدادًا من الناس هيهات أن تتصورهم أو تتخيلهم مهما أوتينا من بعد الخيال أو قوة التصور. وإلى جانب العقل والإيمان فهناك الصلاة أيضًا وقد صلى عبد إبراهيم ليكتشف الزوجة التي عينها الرب لابن سيده، ولم تكن الصلاة في الواقع عنده وحده فمما لا شك فيه أن إبراهيم كان يصلي طوال الرحلة من أجل هذا الأمر، وكان اسحق يفعل ذلك أيضًا بدون أدنى ريب، وصلاة العبد لم تكن صلاة مطولة مكررة بقدر ما هي مختصرة وحارة ومركزة ولعلها واحدة من أعظم الصلوات الحاسمة التي يستنجد بها الإنسان في اللحظات الدقيقة الحاسمة أمام الله، ومن العجيب أن كثيرًا من هذه الصلوات المصيرية قد تكون بالغة القصر، لكنها في ارتفاعها وطولها لها مثل طول السموات والأرض،.. ألم يصل نحميا أمام الملك مثل هذه الصلاة وهو يقول : فصليت إلى إله السماء،.. ألم يصل العشار المسكين بجملة واحدة صارخة، اللهم ارحمني أنا الخاطيء!!.. ألم يصل اللص التائب : أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك!!... إن الصلاة الناجحة القوية هي التي يقول عنها الرسول : أصلى بالذهن وأصلي بالروح أيضًا، وقد تكون بعيدة عن الفلسفة والفن والجمال اللفظي والعبارة المنمقة، واللهجة الخطابية أو اللحن الموسيقي، ولكنها الصلاة الملتهبة القوية المؤثرة، وقد كانت صلاة اليعازر العبد الدمشقي القديم، على هذا النمط، وهكذا ينبغي أن تكون صلوات الباحثين عن الزواج صلوات صادقة محددة صارخة صادرة من نبع قلب، أدخل الله في الأمر، وهو يرجو أن يدله الله كأب عطوف محب محسن على من يصلح، وفي أي وقت يصلح، وعلى أي أسلوب يمكن أن تكون هذه الصلاحيات المنتظرة، وهل يمكن لهذه الصلوات أن تضيع أو يغفل فيها الله عن الجواب الصحيح والحاسم العظيم. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل وبعد أن اكتشفت الإرادة الألهية، جاء التسليم، وقد ظهر هذا التسليم من الجانب الآخر، بتوئيل أبيها ولابان أخيها اللذين لا يستطيعان التدخل بالخير أو الشر مادام الأمر قد تناولته يد أعلى وأقوى وأقدر، لكنهما مع ذلك يعطيان درسًآ رائعًا في المعنى الديموقراطي العظيم، بسؤال الفتاة عن مكنون رأيها، وعمق رغبتها، ويتركان لها حرية التصرف في الرفض أو القبول، واذ تقبل يباركان رأيها، ويطلبان لها ولمن يأتي منها كل رغد وسلام ونصر، ومن الغريب أن يأتي هذا الرأي منذ أربعة آلاف عام، بينما يصر كثيرون من الآباء والأمهات والأخوة في القرن العشرين، على أن الفتاة لا رأى لها، أو لا ينبغي أن يؤخذ لها رأى في مثل هذا الأمر المصيري بالنسبة لها ولأولادها فيما بعد!! أن بتوئيل يذكرنا أو ينبغي أن يذكرنا بأن رأى الله هو الرأى الأول، ورأى الفتاة صاحبة الشأن هو الرأى الثاني، أما رأيه ورأى أخيها أو آلهًا أو الأصدقاء، فلاشك يقع بعد هذين الرأيين، ولا يجوز أن يتجاهلهما أو يتجاوزهما على وجه الأطلاق. وثمة أمر أخير قبل أن تترك موضوع الخطبة، وهو الهدايا التي قدمت، وهي تقدم أولا وقبل كل شيء للخطيبة نفسها، أما ما قد يقدم لأبيها أو أخيها أو أهلها فيأتي تاليًآ وثانوياً بالنسبة لما يعطي لها، ولعله من المناسب أن نلاحظ أن الهدايا التي أعطيت لرفقة وبيتها، كانت وسطا بين الشح والتبذير، فقد أعطيت توازنًا صحيحًا مع الثروة الكبيرة الطائلة التي لإبراهيم واسحق، والتي أعلنها العبد للأسرة حتى تعرف ما هي ذاهبة إليه أو مقبلة عليه، ولعله من أهم الأمور في الحياة، أن تقع المادة هذا الموقع بعينه ابتداء واستمرارا في قصة الحياة الزوجية فلا هي بالتقتير تعطي بخلا وشحا، ولا بالتبذير تعطي رميًا وسفها لمن لا يملك إلا القليل، ولكنه قد يقسو على نفسه أو يستدين ليظهر بهذا المظهر أو ذاك، مما يغرقه في النهاية بالدين أو العطب أو الهلاك!!... وما أكثر ما قادت المادة لمثل هذه الأمور في أكثر من خطبة وأكثر من زواج.... رفقة وشخصيتها أما وقد عرفنا، كيف خطبت رفقة إلى اسحق، آن لنا أن نقف بعض الوقت في شخصيتها كما تظهر في كلمة الله، ولعل أول ما نواجه به هو جمالها الفائق الذي كاد يتعرض لمثل ما تعرضت له سارة، من تجارب الجمال وأخطاره، وأنا لا أعلم هل كان اسحق بطبيعته يحب الجمال، ومع أنه لم يذهب مع عبده ليختار امرأة جميلة، فان سيده الأعلى لا يمكن أن يخلق فيه حبًا للجمال أو تذوقًا له دون أن يشبعه منه أو يمتعه به على نحو فائق وعظيم، وأغلب الظن أن اسحق كان من هذا النوع المتأمل الذي يهوى الجمال، في الزنبقة النابتة في البرية وفي الطير الصداح الذي يفرد جناحيه ويرتفع مغردًا هنا وهناك في سماء الله، ولأجل ذلك أشبعه السيد وعزاه عن جمال أمه، بجمال امرأة تكاد تكون ندا ونظيرًا لأمه الحبيبة الجميلة،... يتصور البعض عندما يطلب إليهم أن يتعلموا التسليم لله في اختيار الزوجة، أن الله يفعل على عكس ما يرغبون أو ينتظرون، فيعطيهم الزوجة التي لا تتفق وميولهم، كأنما يعاند الله هذه الرغبات ولا يشبعها، في حين أنهم لو عقلوا، لأدركوا أن الله لا يخلق إنسانًا على شيء ثم يجرده في الوقت نفسه من متطلبات هذا الشيء أو حاجته، وأن الله لا يمكن أن يحرم إنسانًا من حب الجمال إلا إذا أدرك أن هذا الجمال سيكون وبالا على هذا الإنسان وخطراً على حياته الروحية والأبدية. وكانت رفقة إلى جانب جمالها العظيم من النوع الحالم الطموح البعيد الرؤى والأحلام والآمال كانت ولا شك قد سمعت عن رحلة إبراهيم وسارة ولوط، يبحثون عن عالم آخر أسمى وأعظم وأجمل وأجل من العالم الذي تعيش فيه مع بقية الأهل والعشيرة والوطن، وكانت تسرح بخيالها ولا شك إلى ذلك العالم، وعندما رأت شعاعات منه في القافلة من العشرة الجمال وجميع الخيرات التي تحملها القافلة، وأليعازر القائد لها، وعندما سمعت كيف بارك الله إبراهيم ومنحه وأعطاه الغنم والبقر والفضة والذهب والعبيد والإماء والجمال والحمير، لم تعد ترغب في عالمها أو تقبل البقاء فيه، وعند أول نداء للدعوة للعالم الجديد، قالت مدفوعة برؤى الشباب وأحلام اليقظة : أنا أذهب!.. على أنها أكثر من النساء الذي لا يكاد يرغب في الجلوس أو يطيقه أو يقبل عليه، يسألها أليعازر الدمشقي جرعة من ماء فاذا بها كما يصفها الكتاب، تسرع وتنزل جرتها على يدها وتسقيه، وبعد أن تفرغ من سقيه، تطلب إليه أن تسقي جماله أيضًا، وتسرع تفرغ الجرة في المسقاة، وتركض إلى البئر أيضًا لتملأ المسقاة حتى تستقي لكل جماله!!. ولعل حركتها هذه تشير أيضًا إلى مدى ما لها من جراة وشجاعة وجسارة، فهي تذهب مع غريب بعد ليلة يبيتها في بيتها في رحلة منطلقة قد تأخذ شهرًا من الزمان دون تردد أو خوف، أو نوع من الهيبة التي تسيطر ولاشك على الإنسان المهاجر الذي ينطلق ربما إلى غير عودة إلى وطنه مرة أخرى في الحياة!!... كما أنها كانت ولاشك بالغة الجرأة وهي تشجع ابنها المتردد على أخذ البركة من أبيه، بذلك الخداع الذي دفعته إليه!! على أن هذا لا ينبغي أن ينسينا بأنها غطت وجهها في الواداعة والتواضع، على أي حال كانت رفقة واحدة من النساء اللواتي لا يمكن أن يذهبن أو يجئن إلى مكان ما دون أن يطبعنه بطابع محفور قوي عميق!... رفقة وضعفها إن المتتبع لحياة رفقة يجد أن هذه الصورة من شخصيتها قد اهتزت كثيرًا في بعض النواحي وربما أصيبت في حياتها بمرض الملل، فانطفأت إلى حد كبير جذوة الحماس التي جاءت بها أول الأمر إلى أرض كنعان، لقد استمرت عشرين عاماً دون أن تنجب فتلتفت حولها فرأت المكان على ما كان فيه من ثروة أو غنى أو مجد، الا أنه صحراء، يختلف إلى حد كبير عن أور الكلدانيين، وكان زوجها اسحق، رجلا هادئًا ساكنًا قابعًا في خيمته!! وعندما جاء الولدان، كانت المسافة بينها وبين زوجها من ناحية العمر، قد وصلت إلى الحد الذي أصبح فيه يأخذ طريقه إلى الشيخوخة وهي إلى متوسط عمرها، على أي حال أنها أصيبت بما قد تصاب به أي فتاة في مطلع صباها، عندما تتخيل الزواج أحلامًا ذهبية، ورؤى لامعة، وهي تحلق بأجنحة عالية في سماء الخيال، ثم لا تلبث أن يردها الواقع إلى عالم المفشلات والآلام والضيق والمعاناة، فتنتهي إلى نوع من الملل لم تكن تحلم به أو تتصوره على وجه الاطلاق، كما أن مأساة هذه المرأة أن احترامها لزوجها لم يعد يأخذ نفس الصورة الأولى والطابع القديم، ورغم علمها بأن هذا الزوج هو رأس الأسرة، وفي يده البركة يستطيع أن يعطيها لمن يشاء، ويحرم من يشاء الا أن الرجل الطيب وقد أحاطت به الشيخوخة وجلس هادئًا في مكانه لا يتحرك، وقد فقد بصره تماماً، لم يعد ينال نفس الصورة القديمة من المهابة والاحترام، فهي تشجع ابنها المتردد على أن يخدعه، ومع أنها ربما اعتذرت لنفسها، أنها تتم إرادة الله التي وعدت من البدء يعقوب بالبركة، إلا أنها على أي حال فيما قلت، لا تعطينا إلا صورة المرأة التي استهانت بشيخوخة زوجها وضعفه وقلة حركته، ولا أعلم هل تعلمت هذا في بيتها الأول، إذ يبدو أن أباها بتوئيل لم يكن ينال الاحترام الكافي في بيته، وأن ما طبعت عليه الفتاة في بيتها القديم، عادت إلى تكراره في بيتها الثاني، لست أدري؟ وإن كنت أعلم أن كثيرًا من صور الحياة يمكن أن تنقلها الفتاة من بيتها القديم إلى البيت الآخر الجديد الذي تذهب إليه، وأن معاملة أمها لأبيها يمكن أن تتكرر في معاملتها لزوجها، وأن العديد من المتاعب والمآسي والآلام تحدث عندما تفاجأ الزوجة بزوج لا يمكن أن يقبل مثل هذا الأسلوب المعكوس، ويجتهد في أن يقلب الأمور رأساً على عقب، أو بتعبير أصح يصحح الوضع الخاطيء الذي –لكثرة ما يألفه الإنسان- يتصوره صحيحاً سليمًا لا يقبل أدنى تغيير أو تحويل، على أن هناك صورة أخرى من الضعف وقعت فيه، ولعلها جرت البيت بأكمله إليه، ونعني بها تحيزها إلى يعقوب ابنها الصغير، في الوقت الذي أحب فيه اسحق ابنه عيسو وقد يسأل البعض ولكن لماذا يمكن أن يحدث هذا التحيز الذي أوجد ولاشك شرخًا وتصدعًا وانقسامًا في الأسرة كلها..!! في الواقع أن كلا من الأبوين انجذب بطبعه إلى الابن الذي يكمله، فرفقة المتحركة لا يمكن أن تقبل إلا ابنها الهادي يعقوب، فهما قطبان فيهما السالب والموجب ولأجل هذا يأتلفان ويتقابلان، لكنها تبقى مع عيسو، أشبه بالسالب يواجه سالباً آخر ولابد يتنافران، أما عيسو المتحرك الشجاع الجريء فهو حظوة أبيه، وهو يكمل الأب الساكن الوادع في مواجهة المحيطين به من جماعات وقبائل متربصة معادية!... على أنه مهما يختلف الأولاد في الطباع أو الحياة أو الأسلوب فان من أكبر الأخطاء أن يلاحظوا ظاهرة التحيز في المعاملة عند الأبوين، وأن هذا الأمر قد يكون بمثابة الدمار للأسرة كلها، ولهذا فان من أهم الأمور في أية أسرة حرص الأبوين على تربية الأولاد بدون أدنى تمييز أو تحيز أو فرقة أو انقسام، بل لعله من أهم الأمور أيضًا ألا يظهر الأبوان مهما اختلفا في وجهات النظر أي نوع من مثل هذا الاختلاف أو أسبابه مهما كانت الظروف. فلا يجري ما جرى عندما وقفت رفقة عند باب الخيمة تسمع عن تأهب اسحق لمباركة ابنها عيسو، فترتب الحركة المضادة، لينال يعقوب لا عيسو هذه البركة. لقد كان اسحق مخطئًا ولاشك لأنه وهو يعلم أن البركة المودعة من الله في الأصل ليعقوب، لكنه نسى هذا أو تجاهله بدافع محبته المتحيزة لابنه الأكبر، أما رفقة التي تفضل الأصغر، فقد رأت العكس وأصرت على أن ينال هذا ما يلزم أن يكون حقه بالموعد الإلهي لا لمجرد اتمام الرغبة الإلهية بل لأنها تحب يعقوب وتميزه وتؤثره وتسعى على أن يبقى دائمًا الأفضل والأعظم. رفقة وحصادها كان لرفقة من كل هذا حصاد مرير مفزع هائل، اذ فاضت كأسها مع الأيام بالمرارة والعلقم، ولعل أول هذا الحصاد كانت تلك المرارة التي جاءت عن زوجتي عيسو يهوديت ابنه بيري الحثي وبسمة ابنه ايلون الحثي اللتين كانتا مرارة نفس لاسحق ورفقة، ومن العجيب أن البعض يقول إن الفتاتين على ما جبلتا عليه من طباع وثنية شريرة كافية لأن تجعل الأسرة تغرق في العلقم والافسنتين، لكن رفقة بمعاملتها لابنها دفعته وهي لا تدري إلى هذا السبيل، ولو أنها قربته إلى قلبها وأعطته الحب والحنان، ولم تفرق بينه وبين أخيه، لما حدث كل هذا الذي حدث،... ولما تحول البيت إلى نوع من الجحيم بعد أن حصل يعقوب على البركة والبكورية معاً، ولما وضع عيسو في قلبه أن يقتل أخاه، ولما وصل الألم إلى قلب المرأة إلى الحد الذي فيه تدفع ابنها الاصغر إلى الهرب وتذهب إلى زوجها قائلة : «مللت حياتي من أجل بنات حث أن كان يعقوب يأخذ زوجة من بنات حث مثل هؤلاء من بنات الأرض فلماذا لي حياة»... وهكذا عاشت المرأة المتآمرة لتفقد في يوم ما طعم الحياة مع كل ما لديها من أسباب المادة المتوفرة التي تكفل الحياة السعيدة لمن يظنون ان المادة تفعل مثل هذا في حياة الناس على الأرض، على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أنها وهي تدفع ابنها الأصغر الحبيب إلى الهرب، كانت تقدر أن الأمر لن يطول بل هي بضعه أيام أو شهور يهدأ بعدها الأكبر، وتسكن ثورته وغضبه، ويعود الصغير مع زوجته وما قد يأتيه من أولاد تفرح بهم وتهتم بتربيتهم، فيتصالح الأخوان، ويلم الشمل، ولم تكن تتصور على الأطلاق أن الأمر سيطول حتى يبلغ عشرين عامًآ، وأنها لن ترى هذا الابن مرة أخرى إذ ستموت قبل أن يجيء!! ولعلها كانت تمد البصر في أيامها الأخيرة صوب البلاد البعيدة حيث هناك ابنها الطريد، ويعتصرها الألم لتتعلم، وبالحري لتدرك الحكمة التي جاءت معها أول الأمر، عندما غطت وجهها، وهي تحترم زوجها عند أول لقاء... وأنه أولى بالاحترام والهيبة عندما كف عن البصر، وقعد عن الحركة، وأنه مهما كان الفارق بين ولديها، فان رسالتها الدائمة في الحياة، أن تعاملهما معاملة واحدة، في جهادها مع الله والناس على حد سواء، تاركة الله في قصده الأزلي أن يقول : «لأنهما وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرًا أو شرًا لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو قيل لها إن الكبير يستعبد للصغير كما هو مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو». |
17 - 06 - 2012, 06:21 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | |||
..::| مشرفة |::..
|
رد: سيرة رفقة
موضوع جميل
ميرسى كتير فرونكا |
|||
07 - 08 - 2012, 11:41 AM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
..::| العضوية الذهبية |::..
|
رد: سيرة رفقة
شكرا للمشاركة الجميلة
|
||||
|