النفس التي تحررت واستنار ذهنها ودخلت في سرّ المعرفة الروحية فأنها – حسب نعمة الله – تتكلم بلسان سماوي فتنطلق تتحدث الأحاديث الروحية الشيقة المفرحة للقلب، لأن هذا الحديث يأتي دائماً من عند الله بفعل المحبة، لذلك يكون لهيب للقلب يضرم فيه محبة ومُشبع للعقل ويقود للاستنارة أيضاً بشكل متزايد.
والحديث الروحي الذي على هذا المستوى يحفظ النفس في مأمن من المجد الباطل والكبرياء المُدمر لكل قواها الروحية، لأنه من الشعور الروحي العميق بالنور المُشرق المتغلغل فيها من وجه الله يجعلها تستغنى تماماً عن إكرام الناس ومدحهم أو تشجعهم، بل ولا تكترث حتى بذمهم أو رفضهم أو اضطهادهم، لأن نور الله المُحيط بالنفس يحفظ الفكر في عتق وحرية من أي تصورات تختص بما في العالم من شهوة جسد أو تعظم معيشة أو شهوة عيون أو حتى سلام في العالم أو راحة أو حتى قلق او اضطراب، إذ أنه يحول كل شيء لمحبة الله التي لها سلطان على النفس حتى أنها تجعلها تغلب وتفوز في النهاية:
+ وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت (رؤيا 12: 11)
أما من يُبادر ويتكلم بالأحاديث الروحانية بدون استنارة، فهو مثل الفقير المُعدم الذي يحاول أن يُعين الفقراء على معيشتهم بما لديه من رصيد وهمي يتخيله في فكره، أو مثل الولد الصغير الذي لم يجتاز المرحلة التمهيدية في التعليم، ويذهب لكي يقف مكان المُعلمين في الفصول المتقدمة ليقدم ما عنده من علم ومعرفة...
فما أعجز الفكر الذي يتفلسف خارج الله في أمور الله، لأن حديث كلام الحكمة الإنسانية المُقنع يدفع النفس لطلب مجد الناس، لأنه لا يستطيع أن يوفر لها الخبرة الواقعية المحسوسة بحياة الشركة مع الله والقديسين في النور بالإيمان العامل بالمحبة، وذلك لأن هناك فلس حقيقي من نعمة الله، وتغرب عن جسد المسيح الحي، ولا وجود للحكمة والمعرفة كموهبة الروح القدس، وبالتالي لا يوجد مأمن من أن يسقط الإنسان في الكبرياء والتعالي على الآخرين ورفض كل من لا يتبع فكره أو رأيه بكل تعنت وسخط وتحزب، وهذه هي خطورة الأحاديث الروحانية التي بلا استنارة ولا خبرة شركة حقيقية مع الله: [ فأجاب يسوع وقال لهم أليس لهذا تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله ] (مرقس 12: 24)
+ [ وأنا لما أتيت إليكم أيها الإخوة، أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة مُنادياً لكم بشهادة الله. لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً. وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة. وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الانسانية المُقنع بل ببرهان الروح والقوة. لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله. لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبطلون. بل نتكلم بحكمة الله في سرّ الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا. التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوا لِما صلبوا رب المجد. بل كما هو مكتوب ما لم تر عين ولم تسمع أُذن ولم يخطُر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان، الذي فيه هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تُعلمها حكمة إنسانية، بل بما يُعلِّمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكم فيه روحياً. وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يُحكم فيه من (أو لا يقدر أن يحكم فيه) أحد. لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه، وأما نحن فلنا فكر المسيح ] (1كورنثوس 2: 1 – 16)