ما هو قولكم على من يقول أن الداعي إلى القصاص إنما هو منع امتداد الشر ؟
أن هذا القول ، وكذلك اعتقاد أن غاية القصاص إصلاح المذنب يجعلان العدل من نوع الجودة ، أي أن غاية العدل عمل الخير ، كأن الجودة والعدل صفة واحدة في طبيعة الله ، والعدل لا يجري إلا كواسطة لعمل الخير . نعم ، إن العدل ينتج ويؤول إلى السعادة غير أن السعادة العامة والخير العام ليسا الغاية الأصلية في إجراء العدل بل هي نتيجته . والقول المشار إليه ( أي أن الغاية في العدل منع إمتداد الشر ) مبني على مبدأ فاسد وهو أن السعادة هي أعظم خير ولذلك لا يطلب العدل إلا كل ما يؤول إلى السعادة ، حتى أن القصاص جائز لتلك الغاية فقط . وكذلك لا يجوز إجراء العدل إلا إذا آل الخير والسعادة . والصواب هو أنالقداسة هي أعظم خير لا السعادة ، وأن الخطية هي أعظم شر لا الشقاوة ، ولذلك العدل يقتضي قصاص الخطية ويتميز عن الجودة لأن الغاية العظمى في تنفيذه ليست السعادة وفعل الخير بل إجراء ما تستحقه الخطية من القصاص . ولنا خمسة أدلة على بطلان القول المذكور :
1- إن وجدان كل بشر يخالف ذلك . لأن كل إنسان يعلم أن الجودة والعدل ليسا صفة واحدة بل صفتين متميزيتين الأولى منهما تحثنا على فعل الخير والثانية تنبئنا بوجوب عقاب المذنب . فمتى تأملنا في الذنوب لا نسألى عننتيجة قصاص مرتكبها ولا نفتكر فيها بل بقطع النظر عن ذلك نحكم طبعاً أن الشرير يستحق لمجرد اثمه . وضمائرنا باب الظلم لا يصادق عليه الضمير الصالح مطلقاً . ومن المعلوم أن غريزيات طبيعتنا الأدبية تعلن جلياً طبيعة الله وتستحق كل الاعتبار فإن كان العدل والجودة فينا صفتين متميزتين فهما كذلك في الله ، وإن كنا أتباعاً للطبيعة التي غرسها الله فينا نحكم أن المذنب يستحق القصاص لمجرد ذنبه بدون نظر إلى النتيجة فلا بد أن الله يحكم كذلك .
2- إن ما وجده عامة الناس من أنفسهم في هذا الأمر قد تأكد أيضاً بنوع أجلى للذين استناروا بالروح القدس . فإن الروح يحرك الناس أحياناً ينبه أفكارهم لخطيتهم وخطرهم وحينئذ يظهر بأكثر إيضاح ما هي الحاسيات الأصلية التي غرسها الله في طبيعة الإنسان . والإنسان الذي يشعر كذلك بعظم خطاياه يرى أنه وجب عليه قصاص الله بل يعلم أيضاً أن عدل الله يطلب قصاصه ضرورة ولا يرى أن وجوب قصاصه لخير الآخرين بل لأنه أخطأ ولمجردخطاياه حتى لو كان المخلوق الوحيد في الكون لما رأى غير ذلك . وقد يحدث أن بعض المذنبين من شدة شعورهم بعظم خطيتهم يسلمون أنفسهم للحكام ليقاصوهم وكثيراً ما يحد أن الناسيعذبون ذواتهم ليسكتوا تأنيبات ضمائرهم . ثم أن شعور الناس بما يطلبه العدل من القصاص ليس مكتسباً من مجرد التربية بل هوطبيعي في كل إنسان . ويتضح ذلك من لغات البشر فإنها جميعاً تميز بين العدل والجودة ولا يكون هذا التمييز في الكلمات إلا لأنه في المعاني التي تشير إليها . ولنا أيضاً في تواريخ العالم ما يثبت عموم الشعور بما يطلبه العدل لأننا نرى فيها أن الناس يطلبون على الدوام قصاص المذنبين ويلومون الذين يعفونهم من القصاص . والطقوس الدينية المستعملة في كل الأرض للتكفير عن الخطية وتسكيت ضمائر الناس مما يؤكد ذلك . فكل ذبيحة تقدمت عن الخطية ودخان كل مذبح صعد إلى السماء في جميع القرون وكل أقطار المسكونة يؤكدان ما يشهد به العقل والكتاب المقدس بأن عدل الله هو غير جودته .
3- كون قصاص الخطية وفقاً للعدل هو من مقتضيات قداسة الله . لأنه لما كان الله قدوساً إلى غير نهاية أوجب كمال طبيعته أن يبغض الخطية لأنها رديئة في ذاتها ويقاص الخاطئ لهذا السبب بدون النظر إلى نتيجة قصاصه .