سلسلة مخافة الله (9)
تحصل علي مخافة الله بالدقة في محاسبة النفس
بقلم قداسة: البابا شنودة الثالث
الإنسان الذي لا يشعر بفداحة خطاياه, تزول مخافة الله من قلبه, أما المدقق في محاسبة نفسه, فإنه إذا يشعر بكثرة خطاياه وثقلها, فإن مخافة الله تكون علي الدوام راسخة في قلبه.
إننا نصل إلي مخافة الله, إذ كنا نحاسب أنفسنا علي كل عمل, وكل قول, وكل فكر, وكل حس, بكل تدقيق. بحيث لا نجامل أنفسنا, ولا نلتمس الأعذار لأخطائنا.
إن المخافة تجلب التدقيق والتدقيق يجلب المخافة. وكل منهما يقوي الآخر.
والعجيب في معاملاتنا للغير, أإننا نحاسب غيرنا بكل دقة في أخطائه من نحونا, ولكننا لا نحاسب أنفسنا بنفس الدقة التي نحاسب بها غيرنا!! بل قد لا نحاسبها علي الإطلاق..!
لذلك إن أردت أن تكسب مخافة الله التي هي بدء الطريق الروحي, لأن بدء الحكمة مخافة الله (أم 9: 10).. اجلس إلي نفسك كل يوم, واسأل ذاتك: ماذا فعلت؟ وماذا قلت وفي أي شيء فكرت؟ فهكذا كان القديس أرسانيوس الكبير يسأل نفسه في كل يوم.
ولا تسأل نفسك فقط عن السلبيات التي سقطت فيها, وإنما أيضا عن الإيجابيات التي قصرت فيها.
وهكذا تدخل مخافة الله في قلبك, إذ تجد أنك في الموازين إلي فوق (مز 62: 9).
إن الإنسان الروحي يحاسب نفسه حتي علي توقف النمو, لأنه يعرف تماما أنه مطالب بحياة القداسة, في قول الرب كونوا قديسين كما أني أنا قدوس (لا 20: 26). وهو أيضا مطالب بحياة الكمال, حسب قول الرب في العظة علي الجبل كونوا أنتم كاملين, كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل (مت 5: 48). وإذ يجد بينه وبين القداسة والكمال مسافات, يبكت نفسه وتدخله مخافة الله.. الإنسان المبتدئ يخاف أن يخطئ, أما البار فإن مخافة الله تلاحقه, لأنه لم يكمل بعد كل المطلوب منه في حياة البر. ويتذكر قول الكتاب:
من يعرف أن يعمل حسنا ولا يعمل, فتلك خطية له (يع 4: 17).
وهكذا يبكت نفسه, ليس علي خطية قد فعلها, وإنما أيضا علي بر لم يفعله.. وهكذا يسأل نفسه باستمرار: هل بإمكانه أن يفعل أكثر من هذا أم لا؟ هل بإمكانه أن يجاهد, أكثر لكي يمتد إلي قدام كما كان القديس بولس يفعل (في 3: 13)؟
الذي فيه مخافة الله, لا يخاف فقط من ارتكاب الخطية, ولا يقف عند حد الوصية, إنما يجاهد لكي ينمو في محبة الله, بغير حدود.
ولا يكون دقيقا فقط في محاسبته لنفسه, إنما هذه المحاسبة تجعله دقيقا أيضا في اعترافاته.
فما أسهل أن يفقد الإنسان مخافة الله, إذا كانت اعترافاته ناقصة, أو إن كان يبرر نفسه في اعترافاته, أو يلقي اللوم علي غيره في أخطائه هو أو إن كان يظن في وقت الاعتراف أنه يقف فقط أمام الأب الكاهن, وليس أمام الله.. فالواقع أنه يعترف علي الله في سمع الكاهن. ويأخذ الحل من الروح القدس من فم الكاهن.
أقول هذا لأن كثيرين يخجلون من أب الاعتراف, ولا يخجلون من الله, الذي يقول له كل منا في المزمور إليك وحدك أخطأت, والشر قدامك صنعت (مز 50).
إن تبرير الإنسان لنفسه في وقت الاعتراف وفي أي وقت. دليل علي عدم وجود مخافة الله في القلب.
فلا تحاول إذن أن تبرر ذاتك, أو أن تبسط الأمور, أو أن تسمي الخطية باسم آخر يخفف من بشاعتها, أو أن تستتر وراء الظروف والملابسات, وتذكر قول أب جبل نتريا للقديس البابا ثاؤفيلس:
لا يوجد أفضل من أن يرجع الإنسان بالملامة علي نفسه في كل شيء.. بهذا نصل إلي مخافة الله. وكي تصل إلي المخافة, ضع أمامك باستمرار قول الرب في سفر الرؤيا أنا عارف أعمالك.
إنها عبارة تكررت سبع مرات, قالها الرب لكل ملاك من ملائكة الكنائس السبع أنا عارف أعمالك (رؤ 2, 3).
فياليت كل إنسان منا يضع أمامه علي الدوام هذه العبارة. وثق تماما أنه سيقف أمام الله الذي سيقول له أنا عارف أعمالك ليس فقط في يوم الدينونة. إنما يقول له هذه العبارة الآن وكل أوان بهذا تدخل المخافة إلي القلب.
فكل الخطايا التي أخفيناها علي الناس, حتي لا تنحدر كرامتنا أمامهم, الله يعرفها جميعا.. وهي واضحة أمامه لا تخفي. لذلك علينا أن نتذكر قول القديس زبا مقار الكبير, لخاطئ ستره هذا القديس, وقال له:
احكم يا أخي علي نفسك, قبل أن يحكموا عليك..
حاسب إذن نفسك, واحكم علي نفسك, فليس خفي إلا ويظهر, ولا مكتوم إلا ويستعلن, ومادام الله يقول لك. أنا عارف أعمالك إذن اعترف به أمامه, واطلب منه القوة علي التوبة.
إن الذي يخاف الله, يخاف من كل فكر خاطئ, ومن كل شعور دنس, ومن كل نية بطالة.. من كل هذه الأمور التي لا يلاحظها الناس. ولكن الله يراها ويعرفها.
والذي يخاف الله, يخاف أيضا من انكشافه وخجله أمام الملائكة الأطهار وأمام أرواح القديسين.
يخشي من الملاك الحارس. ويخجل حتي من صور القديسين المعلقة في حجرته. وكأن كل واحد من تلك الأرواح يردد أيضا عبارة الرب أنا عارف أعمالك ويقول هذا الخاطئ في نفسه, قطعا كل هؤلاء يرونني وأنا أعمل ما أعمله!!
وطبعا كل هذا سينكشف, فهناك أجهزة تسجيل مسجل عليها كل شيء بالصوت والصورة, حتي الأفكار!! وكأن الله يقول: هات يا ميخائيل ملف فلان, افتحه واقرأ أمام جميع الناس.. والذي لم نحاسب أنفسنا عليه, سنحاسب عليه أمام الكل.. كأن آلة تصوير تلتقط كل منظر خاطئ.. وكأن آلة تسجيل تسجل كل صوت. تسجل كل ما في داخلنا, وكل ما في الخارج, حتي نوايانا!! ويقول الرب لكل منا أنا عارف أعمالك ألا يقودنا كل هذا إلي مخافة الله؟!
* نستطيع أيضا أن نصل إلي مخافة الله عن طريق تواضع القلب.
إن الإنسان الواثق ببره الشاعر بقوته ربما يظن أن السقوط بعيد عنه, وأن الخطية لا تقوي عليه, أما المتواضع فيضع أمامه علي الدوام قول الرسول لا تستكبر بل خف (رو 11: 20) وأيضا من يظن أنه قائم فلينتظر أن لا يسقط (1كو 10: 12). لذلك فهو يدقق في كل صغيرة ولا يلقي بنفسه في مواطن العثرة, ولا يظن في نفسه أنه أكبر من الخطية ويتذكر كيف أن الخطية طرحت كثيرين جرحي, وكل قتلاها أقوياء (أم 7: 26).
ولهذا تمكله المخافة فيحترس ويدقق. وهذه المخافة تمنحه الحرس وتنقي قلبه
يخاف من الفكر الطارئ لئلا يتأهل ويتطور إلي ما هو أخطر, يخاف من الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش 2: 15). يخاف من العثرات ويبعد عنها, ولا يدعي لنفسه القوة التي تنتصر علي كل عثرة, ويقول لنفسه: أنا لست أقوي من أولئك القديسين الذين سقطوا, لست أقوي من داود (2صم 11) ولست أقوي ولا أحكم من سليمان الذي سقط (1مل 11).
والإنسان المتواضع تصحبه المخافة مهما كبر
مهما كبر في السن, ومهما نما في الروحيات, ومهما كان في بيئة مقدسة, فإن آدم قد سقط وهو في الفردوس, وفي حالة من البراءة فوق الطبيعة الحالية! في حالة البساطة التي لا تعرف خطية ولم تجرب خطية وداود سقط وهو مسيح الرب, رجل الصلاة والمزمار, وكان روح الرب عليه (1صم 16: 13) وكان يضرب بالعود فيذهب الروح الردئ عن شاول الملك (1صم 16: 23) وسليمان قد سقط, وهو أحكم أهل الأرض كلها بحكمة ليست بشرية وإنما هبة من الله نفسه (1مل 3: 12).
فمادام الشيطان يطارد حتي أعاظم القديسين ولا ييأس منهم, فعلينا إذن أن نضع مخافة الله في قلوبنا
إن بطرس الرسول لم يضع المخافة في قلبه, وقال للرب لو أنكرك الجميع أنا لا أنكرك ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك (مت 26: 23, 35) أنا مستعد أن أمضي معك, حتي إلي السجن (لو 22: 33).. ياليت بطرس وضع المخافة في فكره. وقال: أنا أضعف يارب من التجربة ومن غربلة الشيطان لنا (لو 22: 31) اسندني فاخلص.
كن معي في ساعة التجربة لئلا أضيع.
الإنسان المتواضع الذي تسكن المخافة في قلبه, يلجأ دائما إلي الصلاة طلبا للمعونة:
في محاسبته لنفسه, يدرك عمق خطاياه, فتملكه المخافة, فيصلي طالبا المغفرة, وأيضا في إدراكه لضعفه, تملكه المخافة فيصلي لكي يحارب الله عنه, فلا يقوي عليه العدو.. وفي مخافته أيضا يسعي إلي التوبة.
حياة التوبة توصل إلي مخافة الله
ومخافة الله توصل أيضا إلي التوبة
والاثنان يعملان معا كل منهما يكون سببا للآخر ونتيجة له.
الإنسان التائب, خطيته دائما أمام عينيه تذكره بضعفه السابق وهزيمته واستسلامه للعدو, فيبكي علي خطاياه في مخافة الله.
ويقول مع داود النبي في مزمور التوبة خطيتي أمامي في كل حين (مز 50).
والإنسان التائب كثير الدموع كداود أيضا الذي بلل فراشه بدموعه (مز 60) وكل ذلك يثبته في مخافة الله.
والإنسان التائب لم يصل بعد إلي الدالة التي تخففت المخافة إنه لايزال يردد بعد عبارة لست مستحقا أن أدعي لك ابنا.. (لو 15: 19).
والإنسان التائب يكون دائما كثير الحرص, يخشي أن تصيبه نكسة فترجعه مرة أخري إلي السقوط, لذلك تجده يحيا باستمرار في مخافة الله. إنه بالجهد قد وصل إلي مصالحته. وبجهد أكثر يحرص علي استمرار المصالحة معه, وهكذا يبقي في مخافة الله.
ليتكم يا إخوتي تبقون في حياة التوبة, التي تجلب لكم الحرص والمخافة.
حتي إن نقلكم الله إلي حياة الحب الإلهي تستمر مخافة الله في قلوبكم, كلون من المهابة له ولوصاياه ومقدساته.
وإلي اللقاء في عدد مقبل, إن أحبت نعمة الرب وعشنا
|