![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أخوتي الأصاغر _ غريغوريوس النيسي ![]() إخوتي الأصاغر للقديس غريغوريوس النيسي لقد وبخنا منذ يومين تلك اللذة التي تتعلق بالفم والبطن، وتحدثنا عن منفعة الامتناع عن أكل اللحم، وشرب الخمر الذي يُسبب الضحك، والذي يؤدي إلى الانغماس في الملذات الحسية، والشهوة التي تعقب الأكل الكثير والإفراط في الشرب. لقد تكلمت في السابق بما يكفي عن هذه الأمور، وسلوككم يؤكد أنكم قد التفتم لمشورتي، وبما أنكم قد احتفظتم بتعاليمي السابقة في القلب تعالوا بنا الآن ننتقل إلى تعاليم أكثر تقدماً. الصوم له تأثير روحي إذ يجعل الإنسان يرفض الشر، فهو وسيلة يمكننا بها ضبط انجذابنا للطعام. أذن فلتصُم عن الشر، وأمتنع عن الشهوات الغير نافعة، ولا تطلب الربح من أي سلوك منحرف، وأذبح جشع محبة المال، ولا تقتني لك ثروة بالقوة والاغتصاب. هل تعتقد أن هناك فائدة من الامتناع عن أكل اللحم، إذا كنت تؤذي أخوك؟ نفس الشيء ينطبق على سلوكك الظالم تجاه للفقراء، ما أهمية هذه التقوى التي تُظهرها بشرب الماء فقط إذا كنت في نفس الوقت تخطط للضرر وتشرب دم الظلم؟ إن يهوذا صام مع الإحدى عشر رسولاً ولكنه لم يُحجِّم عن الجشع وفقد خلاصه بالرغم من صومه . والشيطان أيضاً الذي لا يأكل (فالكائن الروحي لا جسد له) فقد كرامته بسبب التعدي - لا أحد من الشياطين يأكل أو يشرب بإفراط ولا يدان بسبب تعاطي شراب مؤثر (لأن طبيعتهم الغير جسدية ليست في حاجة إلى غذاء) - ومع ذلك هم يسرعون في الهواء ليلا ونهارا كخدام متحمسين يحتالون ضدنا. ولكن إذا وحَّدنا أنفسنا مع الله ورفضنا تعدياتهم فإنهم يبتعدون بعيداً مملوءين غيرة وحسد. ينبغي أذن على المسيحيين أن يتدربوا على محبة الحكمة، ويجب على النفس أن تهرب من الضرر الناتج من فعل الشر. إن إظهار الاعتدال فيما يتعلق بشرب الخمر يجعلنا نتجنب السقوط في الخطية. أنني أؤكد بشكل عام أن لا شيء مما نتناوله إن كان ماء أو زيت أو أي غذاء آخر - من غير دم - يمكنه أن يشابه غذاء الروح، فالغذاء له مظهر خارجي وتكوين داخلي، أما الصوم فقد تعيَّن من أجل نقاوة الروح. إن كان الشخص ينجس نفسه باختياره وبأفعال أخرى مشينة فلماذا نضيع أوقاتنا في شرب ماء فقط ؟ ما هي الفائدة من صوم بدني ما لم يتنقى العقل؟ إن مركبة خفيفة الحركة تجرها أربعة خيول ليست لها فائدة بدون لجام. ما هي المنفعة من سفينة سريعة ما لم يوجهها مدير دفة رزين؟ إن الصوم هو أساس الفضيلة، فكما أن أساس البيت وعارضة قعر السفينة ليس لهما فاعلية ولا نفع إن لم يكن قد تم تشييدهما بمهارة وصلابة شديدة، هكذا التقشف هو غير كافٍ إن لم يرافقه القيم الأخلاقية اللائقة. فلنجعل خوف الله يُعلِّم اللسان أن يتكلم في الوقت المناسب ولا يتفوه بألفاظ الغرور. إن فعلنا ذلك سوف نعرف الوقت المناسب والقدر المناسب للكلام وما هي الكلمة الضرورية والإجابة الملائمة، ونتعلم أيضا ضرورة الحديث بتواضع، ولا نتحدث بتبجح بل نستخدم لغة مهذبة. يمكننا أن نتحكم في هذا العضو الصغير (اللسان) بإدخال لجام للفم، آنذاك سوف لا يتكلم بعد بجموح وبأسلوب مُنفلت، أجعل الفم ينطق بالتمجيد لا بالافتراء، أجعله يُرنِّم لا أن يلعن، ينطق بالتسبيح لا أن يثرثر، أجعل اليد الطائشة (التي تعتدي على الغير) تُكبَّح بشدة بواسطة تذكر الله، لنصم إذن لأجل هذه الغايات لأن حملنا المسيح قد شُتم ولُكِمَّ على وجهه، وعُومل بكل ازدراء، وسُمِّر على الصليب. يجب علينا كتلاميذ للمسيح أن لا نُظهر (مع الصوم) نفس السلوك الخاطئ الذي كان للشعب اليهودي قديماً، لأننا لو فعلنا ذلك ستنطبق علينا كلمات اشعياء: :"ها أنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا (المسكين) بلكمة الشر" (أش 4:58)، لكن لنتعلم الأعمال النقية الخاصة بالصوم من هذا النبي : "أليس هذا صوما أختاره حل قيود الشر. فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحرارا وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك" (أش 58: 6،7) الآن هو وقت مناسب لكي تكون غير غافل عن المحتاج والعريان، لأن هناك حشد من المقيدين على أبوابنا، ليس هناك أي نقص في الغرباء والطوَّافين، والأيد الملتمسة للإحسان على الدوام ممتدة، فكل هؤلاء البشر مسكنهم في العراء والنُزل والساحات العامة والطرقات ومواضع الأسواق المهجورة، يسكنون الكهوف مثل البوم والغراب الأسود ويرتدون ملابس رثة، يتنبه لهم المُزارع ويتعطف عليهم. إن سقط في طريقهم طعام ينقَّضون عليه، تُقدم لهم الينابيع مياه للشرب، وتصير جحور الأرض لهم مخازن، فهم لا يتركون شيئاً يفقد بل يحفظونه بحرص شديد. رُكب متلاصقة معاً تُشكل مائدة وسطح الأرض هو فراشهم. نهر أو بركة موهوبة مجاناً من الله تصير لهم حماماً بلا إنشاء. لم تكن حياة ذاك الذي يطوف في الحقول هي هكذا منذ البداية بل أتت فقط نتيجة للنكبات والعوز. الشخص الذي يصوم هو مُزوَّد باحتياجات الحياة الضرورية - هذا مبرر كاف لكي نكون كرماء نحو أخوتنا – أعطِ الفقراء أي شيء تستهلكه بجشع. أجعل الخوف المستوجب لله يقدم لك المكافأة. تدرَّب على ضبط للنفس بشكل صحيح مظهراً تعقلاً أمام الحالتين المتعارضتين: حالة شبعك الزائد وحالة جوع أخوك. إن الأطباء يؤدون عملهم بطريقة مماثلة، يفرغون من بعض المرضى سوائل ويعطونها لمرضى آخرين حتى يحافظون بالتفريغ والإضافة على صحة الاثنين. أستمع جيداً إلى هذه النصيحة الحسنة. أجعل الصواب يفتح أبوابك على مصراعيها، أجعل نصيحة المعوزين تؤثر في الأثرياء. لا تُغني المعوزين بكلام الجدل بل أعطي المُحتاج من وفرتك. علاوة على ما ذكرناه الآن هناك الكثير من الفقراء والمُعدَّمين، ليتحمل كل منا بعض الآلام من أجل مساندة القريب. لا تجعل شخص آخر يأخذ كنزك وعانق المحن كأنها ذهب. وكما تهتم بصحتك الشخصية وتوفر الأمان لامرأتك وأولادك وخدمك وكل من في بيتك، أحتضن أيضا آلام الفقراء. إن الشخص المحتاج والمريض في نفس الوقت، هو شخص فقير على نحو مضاعف، أما الأشخاص البائسين الذين لهم صحة جيدة يستطيعون أن ينتقلوا من باب إلى باب، ويذهبون بكل حرص إلى الأغنياء ويتوسلون صدقة من المارة عند تقاطع الطرق، ولكن أولئك المبتلون بالمرض مقيدين في فراشهم ومطروحين في الزوايا كما طرح دانيال في الجب، هم يتطلعون إلى رأفتك واهتمامك بالفقراء وكأنهم ينتظرون حبقوق (دا 14: 32). بذرة الرحمة تنتج ثمراً كثيراً، أزرعها وستملئ بيتك بكمية هائلة من النعم. لعلك تقول " أنا فقير" - بالرغم من ذلك أعطي ما عندك. لا يطلب الله منك ما يفوق مقدرتك. أعط لواحد خبزك وشراب من الخمر وأعطي لآخر ثوب. هكذا بلايا شخص واحد تلاشيها صدقات الكثيرين. موسى النبي لم يتقبل أموالاً لأجل خيمة العبادة من فرد واحد بل تقبل من الجميع (خر 35: 5،6)، فالبعض أحضر ذهب كثير وآخرون أحضروا فضة، بينما الفقراء قدموا جلود أو شعر ماعز. ألم ترى كيف أن تقدمة الأرملة فاقت تقدمة الرجل الغني؟ فهي أعطت كل ما عندها كل معيشتها (مر 12). لا تحتقر تقدمة الفقراء كأنها لا تليق، ضعها في الحسبان وتأكد أن قيمتها ثمينة. إن مخلصنا أتخذ هيئة إنسان، أحب البشر وأنعم علينا بشخصه لكي ما يُخزي الشخص الغير مُبالٍ وأولئك الذين يشمئزون من الفقراء. إن الخير الذي نتوقعه محفوظ لنا، وحراس ملكوت السموات (الملائكة) يفتحون أبواب الصلاح الإلهي (للأبرار) وأمام فاعلي الشر الأردياء يغلقونها، هم جديرون بالثقة في دفاعهم (عن الأبرار) ويقدمون أعذاراً عنهم، وهم أيضاً يوجِّهون اتهامات بكل شدة (للأشرار) لا بالكلام لكن بالدلائل، إذ إن السيد المسيح يفحص قلوب الجميع ويعلن على الملأ حكمه بمنتهى الوضوح. إن الوعظ المقدس الذي سمعتموه كثيراً يصِّف الدينونة المخيفة، ومن خلاله نرى ابن الإنسان آتيا من السماء وماشيا على السحاب وكأنه أرض، بينما تلازمه أعداد لا تحصى من الملائكة (مت 25). وبعد أن يجلس الملك على كرسي مجده تنقاد إلى محضره كل قبيلة وكل شعب تحت الشمس فيقف كافة الجموع أمام كرسي الدينونة، ثم يقسمون لمجموعتين: أولئك الذين عن يمين السيد المسيح يُدعون خراف أما الذين عن يساره فيُدعون جدَاء - فأسلوبنا البشري يُمَكننا من رسم هذه المقارنة - هناك يتكلم الدَّيان، ويُجيب الملك على أولئك الذين كانوا كرماء ، ويكافئ الأبرار الذين سلكوا بالمحبة أثناء حياتهم بملكوت السماوات، بينما يدخل الأشرار إلى النار الأبدية. الكتاب المقدس شرح كل هذا بتدقيق باستخدام مثال "المحكمة"، حتى نتعلم كيف يكون السخاء في الأعمال الصالحة. الحياة الملائمة هي الحياة التي تصير فيها أماً للفقراء، مُعلماً للأغنياء، مثالاً للشباب، ملاذاً للمسنين، كنزاً للمحتاجين، منفذاً للمعدمين، وسنداً لجميع الذين في محنة من كل الأعمار. وكما يستدعي صوت البوق جميع المتنافسين في مدرسة المصارعة ويحرك طموحهم لنوال الجوائز، كذلك أيضاً عمل الرحمة يستدعي الجميع، يُظهر الكرم تجاه الذين في محنة، يُجنِّب البلايا وفي نفس الوقت يُقدِّم الإغاثة. عمل الرحمة هو بالحقيقة أسمى أنواع التمجيد إذ أنه ترافق مع الله، محبوب لصلاحه وبه تظهر قرابتنا له، فالله هو أصل ومنبع كل فضائلنا وأعمالنا الصالحة المقدمة للجميع. خلق الله الأرض وجمال السماوات ودفء الشمس والبرد، ووضع الأوقات بشكل منظم جداً – مع أنه لا يحتاج هذه الأشياء - ويعمل على الدوام من أجل منفعة الإنسان كمُعيل له، فهو الذي يزرع كل شيء في وقته ويرويه بشكل العجيب، إذ يعطي بذرا للزارع ويُنزل المطر من السحاب ويسكبه بوفرة على الحقول- كما قال أشعياء النبي - وعندما يثمر الحصاد ويظهر النبات ترحل سحب السماوات - التي كانت معلقة فوقنا - وتمدُّ الشمس دفئها بأشعة شديدة حتى تنضج البراعم الجميلة. يوفر الله للإنسان الطعام بغنى، وينمي الكروم، ويزود كل أنواع الحيوانات أيضاً بالشراب في الوقت المناسب. هو يمنحنا أيضا جلود صوفية للحماية وتغطية أقدامنا. أنك تستطيع أن ترى من خلال تقديمك الغذاء والشراب للجياع وتوفيرك الملابس للعراة أن الله هو خالق كل هذه العطايا. إن كنت ترغب أن تفهم كيف يشفي الله الشخص المبتلي بالشر ، أنتبه أذن لهذه الكلمات: من هو الذي علم النحلة أن تعمل بالشمع وتصنع عسلا؟ من هو الذي يقطر زيت من الصنوبر والضراوة وشجر الصمغ؟ من هو الذي يجفف النبات العطري المستورد من الهند؟ من هو الذي أوجد الزيت بواسطة مجهود جسدي شاق؟ من هو الذي يميز الجذور والأعشاب ويعلم أنواعهم؟ من هو الذي اخترع ببراعة أدوية الشفاء؟ من هو الذي يفجر ينابيع مياه دافئة من الأرض، وجعل المياه الباردة والدافئة تتدفق من أجلنا لتبديد الجفاف والحريق؟ يمكننا الآن أن نستعير كلمات باروخ المناسبة : "اهتدى ( الله) إلى كل طريق للمعرفة وجعله ليعقوب عبده وإسرائيل حبيبه" (باروخ 37:3). كذلك المهارات التي تتعلق بالنار وما لها علاقة بالمياه والتقنيات الأخرى العديدة، كلها معدة لخدمتنا بطرق كثيرة. الله أذن هو منبع وأصل كل سخاءٍ وهو الذي يُسدِّد كل احتياجاتنا بغنى. إن الكتاب المقدس يعلمنا أن نحاكي الرب الخالق بكل غيرة، بالقدر الذي يستطيع فيه الكيان القابل للموت أن يضاهي قداسته وخلوده، لكن حينما نستولي على الأشياء لأجل متعتنا الشخصية ونختارها لأجل نهايتنا ونختزنها بأنانية فإننا بذلك نظهر خزياً. نحن لا نظهر أي اهتمام بالمصابين ولا نُقدِّم عوناً للفقراء. ما هذا السلوك المخزي ! إنسان يرى إنسان آخر يتضور جوعاً ويفتقر إلى الحافز الذي يدفعه لسد رمقه!. مثل هذا الشخص الذي لا يعطي الآخرين لا يهتم بأمنه الخاص أيضاً، فهو للأسف يترك النبات سريع العطب أن يجف من نقص المياه ومع ذلك لا يعطيه للمحتاج، وكما أن المياه في فصل واحد للربيع تسقي حقولاً كثيرة كذلك أيضاً كرم عائلة واحدة يكفي لمساندة الفقير، أما الإنسان ذو الطبع البخيل والحقود فيشبه حجر واحد يصُّد جريان مسار المياه. يجب ألاّ ننشغل بالاهتمامات الأرضية، علينا فقط أن نعيش من أجل الله. إن الطعام يعطي لذة بدخوله من جزء صغير من الجسم أي من الحلق، ومن ثم يدخل إلى المعدة ثم ينحل ويخرج من الجسم (مت 15: 17). أما الرحمة والرأفة فهما صفتان محبوبتان تخصان الله، وعندما يقيما في شخص فإنهما يؤلهانه ويختمانه بالإقتداء بالصلاح، فنجلب إلى الحياة صورتنا الأصلية الغير فاسدة التي تتجاوز تخيلنا. ما هو ذلك الذي نجاهد من أجله؟ (أنها الحياة الأبدية)، إذ إننا بملأ الرجاء نتوقع الفرح العجيب حينما نخلع هذا الجسد الذي يسود عليه الفساد ونلبس عدم الفساد ، ونحظى بهذه الحياة المباركة الأبدية الغير قابلة للفساد التي لا يمكن لنا الآن أن ندرك أفراحها وبهجتها. أنت يا من أُنعم عليك الله بالحجة والعقل لكي تفسر الأمور الإلهية لا تنجذب إلى ما هو زائل، أضبط حياتك بالاختيارات الحكيمة. علينا أن نخصص نصيب للفقراء الذين يحبهم الله لأن ما نملكه ليس لنا وحدنا. الله أبونا كلنا هو الذي يملك كل شيء ونحن جميعاً أعضاء ننتمي إلى جنس واحد. أنه لأمر رائع جداً أن يقتسم الأخوة أفضل ميراثهم بالتساوي، فلو حاز أخ واحد على ثروة ما فبقية الأخوة أيضا سوف ينتفعون. إن من يتمنى أن يكون سيداً على كل شيء ويستثني بقية الأخوة من الثلث أو الخمس فهو طاغية مستبد، بربري عنيد أو وحش لا يشبع، يبتهج بالتهامه الطعام وحده دون غيره، أو بالأحرى هو أكثر قسوة من أي وحش. الإنسان الشره لا يسمح لأي شخص آخر أن يشاركه ثروته، يشبه الذئب الذي ينضم إلى مجموعة ذئاب أو إلى مجموعة من الكلاب ملتفة حول جسد تمزقه إرباً. الطعام باعتدال هو كافٍ. لا تسقط في بحر الجشع الذي لا يُشبِّع. إن البحَّار عندما يكون في موقف خطير لا يدمر سفينته على الصخور المغمورة بل يفلت من هذا الخطر الرهيب، لأنه إن سقط فيها لا يستطيع أن ينجو أبدا. أستعمل ما تقدمه لك هذه الحياة ولا تسيء استعماله - بالتوافق مع ما علمه لكم ق. بولس ، وجه نفسك للتمتع بالقدر المناسب، ولا تأخذ متعة من عمل غير لائق، وتجنب نفس المصير الذي يلحق بالحيوانات والوحوش والطيور والأسماك سواء كان سهل أو صعب الحصول عليها، ذات قيمة ثمينة أو ضئيلة. وكما أن الجهد اليدوي مهما كان كبيراً لا يستطيع أن يسد بئراً عميقاً هكذا أنت لا تقدر أن تملأ البطن بالذهاب للصيد. في تفتيشنا عن الملذات نحن لا نترك حتى أعماق البحار لتبقى هادئة، لا نذهب فقط وراء الأسماك بل نستخرج كائنات حية أخرى من الأعماق ونحضرها للأرض والهواء، فيظهر هيكلهم العظمي الصغير، ونصطاد قنفذ البحر والحبار الزاحف والكائنات ذوات الأرجل الكثيرة الملتصقة بالصخور والقواقع الصغيرة من الأعماق وكل نوع من الكائنات البحرية. نحن من أجل جشعنا نوظف كل وسيلة حتى نخرج هذه الكائنات ونحضرها للنور. ما هي عواقب هذا التنقيب المتواصل الذي يهدف إلى إمتاع الذات؟ ينتج عنه الإثم بالضرورة، فهو يدخل كالمرض ويُخرِّج أي شيء صالح متبقي. فالأشخاص الذين يبسطون مائدة مليئة بكل المباهج الحسية هم مرغمين أن ينشئوا منازل رائعة، ولا يدَّخرون شيئاً في سبيل اتساعها وتجميلها. هم مُغرَّمين بمواضع الاسترخاء والملابس الملونة الزاهية، ومتلهفين على الأثاث المنزلي، ويزينون موائدهم بكل نوع من الزخارف الفضية – البعض منها مصقول بدقة والبعض الآخر منقوش بمهارة – لكي تقدم متعة للعين كما للحنجرة عند سرد قصص حول كيفية صنعها - أوعية وحوامل ثلاثية القوائم، أوعية مياه وأقداح وأطباق طعام وكؤوس متعددة - وأيضا تضم موائدهم ممثلين وعازفين على القيثارة، وخطباء فُصحاء، ومغنيين رجال ونساء وراقصات، وكل نوع من الأداء الفاسق، وفتية مخنثين بشعر طويل وبنات وقحين. خلاعتهم تجعلهم أخوات لهيروديا التي قتلت يوحنا المعمدان، بل تقتل القداسة بداخل كل منا، وتقتل العقل المحب للحكمة. بينما تحدث هذه الحركة داخل البيت، نجد في الخارج أخوة لعازر بلا عدد يجلسون على الأبواب، البعض مُبتلين بقروح والبعض فاقدي البصر، والبعض محاصر بأقدام كسيحة بينما البعض الآخر يسحبون أنفسهم بصعوبة إذ ليس لهم أطراف. هم يصرخون لكن لا يلتفت إليهم أحد، فصوت الموسيقى يغمرهم بأغاني المطربين، بالإضافة إلى كثير من الضحك المثير. إن أحدثوا ضجيجاً على الباب يقفز البوَّاب وبقسوة يطلق عليهم الكلاب فتصيبهم بجروح وضربات. ثم ينصرف أصدقاء المسيح القانعين بوصاياه ، وبدلا من الحصول على الشبع بخبز ولحم يحصلون على اعتداء وضرب، أما في داخل البيت فهناك أشخاص أغنياء يشرعون في أعمالهم، وآخرون - إذ يُشبهون السفن المحملة بحمولة زائدة - يتقيئون، بينما أشخاص آخرون يرقدون على المائدة وكؤوسهم بجوارهم. هنا تكمن خطيئة مزدوجة من الخزي: طرف ثمل تماماً وفي نفس الوقت طرف بائس جائع مطرود. إن كان الله يلاحظ عن قرب هذه الأشياء فكيف ترى الحصة الزهيدة المخصصة للفقراء؟ أنت تتعجب لماذا يحدث هذا وتستنكر حدوثه لأن الإنجيل المقدس يشهد ضد كل هذه الأمثلة السيئة. الصياح والأنين من الأعماق يزداد والله يلاحظ هذه الأعمال الشريرة التي تخرج من مثل هذه الهوَّة الكريهة. هناك مثال آخر يحكم الله فيه على شخص بموت مفاجئ، لأنه أراد أن يحوز على وجبته الصباحية (المستقبلية بالاكتناز في المخازن) مع أنه في المساء (أي نهاية حياته)، إلا أنه لم يرى أشعة الفجر (لو 12: 20). أما أنت كإنسان فانٍ قابل للموت لا تبتهج بالمتع الدنيوية وترفض الإيمان بالآخرة، إذ قد شابهنا أولئك الذين يسعون لمداهنة الجسد بكل وسيلة ممكنة، مثل هؤلاء هم أسياد بلا ورثة وملوك يسود نفوذهم على الأرض فقط. يجب علينا أن نكون حريصين جداً على الحصاد، و نتطلع بشوق لفرح الحصاد ونحن في زمن الغرس. إننا نغرس شجرة ونتوقع ظلال فروعها الرفيعة، وننتظر الثمر الوفير من شتلات أشجار الزيتون، وعندما تنضج هذه النباتات في الخريف ويقترب الموت في الشتاء، لا يتبقى بعد (على الحصاد) سنوات عديدة بل ثلاثة أيام أو أربعة فقط. لنفكر ملياً أذن في حياتنا العابرة سريعة الزوال، وفي طبيعة هذا الزمن الغير مستقرة التي تشبه النهر المندفع الذي يحمل كل شيء أمامه للدمار، حتى ما نكمل هذه الحياة الفانية والقصيرة بدون معصية، وحيث أننا معرضين للأخطار في كل ساعة يجب أن نكون مستعدين دائماً للوقوف أمام الديان العادل. إن صاحب المزامير المبارك يعطي صوتاً لهذا الشعور، راغباً في معرفة نهاية حياته مسبقاً. فهو يتوسل إلى الله لكي يعلمه عدد الأيام المتبقية له حتى ما يكون مستعداً عند الموت، ولا يكون مكروباً - كمسافر غير مستعد - في غمرة رحلته والمشاكل المرتبطة بها : "عرفني يارب نهايتي ومقدار أيامي كم هي فأعلم كيف أنا زائل. هوذا جعلت أيامي أشبارا وعمري كلا شيء قدامك" (مز39: 4-5). أمعن النظر في تكوين النفس الصالحة وكرامتها الملوكية، وتأمل في ملك الملوك ورب الأرباب ، وأسعى أن تحيا بحسب الوصايا وأن تسلك فيها حسناً ، حتى ننال جميعا - بمسلكنا هذا – الحياة التي لا عيب فيها في تلك المدينة السماوية، بالنعمة والمحبة التي لربنا يسوع الذي له المجد إلى الأبد آمين . |
![]() |
رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() مشاركة جميلة جدا ربنا يبارك حياتك |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 3 ) | |||
..::| VIP |::..
![]() |
![]() ربنا يعوض تعب محبتك
![]() |
|||
![]() |
![]() |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
القديس غريغوريوس النيصي |
أخوتى الأصاغر |
شذا الناردين _ غريغوريوس النيسي |
القديس غريغوريوس النيصي |
يا أبانا السماوي _ غريغوريوس النيسي يا أبويا السماوي القديس غريغوريوس النيسي "متى صلّيتم فقولوا |