على من تتكل ؟ ٢مل ١٨، ١٩
يرسل عدو الخير رسائل مستمرة ويومية إلى أذهاننا سواء مباشرة او من خلال آخرين. فإذا أرسل عدو الخير لك رسالة، ما هو في إعتقادك يكون محتوى هذه الرسالة؟ ربما "ما عملته من خطايا وشرور لا يمكن وان يغفر أبدا". أو "لا توجد فائدة من صلواتك! الله لا يسمع لك. فلماذا لا تتوقف عن تضيع الوقت؟" أو ربما ان "حالك لن يتغير. بل على العكس سيزداد سوءا". أو أيضا "سينجرف أولادك إلى العالم وشهواته، ولن يقدر أحد من إنقاذهم".
وهذه هي بعض الرسائل والأفكار، من بين أعداد لا حصر لها، يرسلها عدو الخير لك يوميا والتي قد تلمس جوانب هامة جدا في حياتك مثل الصحة، والعمل، والأسرة، وغيرها. المعنى الرئيسي لمثل هذه الرسائل هو "توقع وإنتظار الشر".
لذلك فهذه الرسائل تصنع إحباط ويأس وخوف وفقدان الأمل مما يجعل مستقبل هذه الرسائل فريسة سهلة وجاهزة للإستسلام. أهم شئ يريده عدو الخير من خلال هذا النوع من الرسائل هو تشكيك المؤمن في أمانة الله وقدرته، وأيضا في إيمان الشخص وثقته بالله. بهذه الطريقة يكون قد نجح من تقييد فريسته وتجهيزها كيما ينقض عليها ويهلكها. قال عنه الرب يسوع: "السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك" يو ١٠: ١٠
هذا ما أراد عدو الخير ان يفعله مع حزقيا ملك يهوذا فيستسلم لسنحاريب ملك أشور ويصير حزقيا وشعبه عبيدا له لكي يحيوا.
من هو الملك حزقيا؟
نعرف من سفر الملوك الثاني والأصحاح الثامن عشر أن حزقيا هو ابن آحاز ملك يهوذا. وكان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك، وملك تسعا وعشرين سنة في أورشليم (٧١٥ـ ٦٨٦ ق.م). يقول عنه الكتاب المقدس انه لم يكن قبله ولا بعده ملكا مثله في جميع ملوك يهوذا (٢مل ١٨: ٥) للأسباب التالية:
ـ عمل المستقيم في عيني الرب حسب كل ما عمل داود (١٨: ٣)
ـ أزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى (عد٢١: ٤ـ٩)، لأن بني إسرائيل كانوا يوقدون لها ودعوها نحشتان (١٨: ٤)
ـ إتكل على الرب إله إسرائيل، وإلتصق به ولم يحد عنه، بل حفظ وصاياه التي أمر بها الرب موسى. (١٨: ٥، ٦)
ـ وعصى على ملك أشور ولم يتعبد له (١٨: ٧)
من هو الملك سنحاريب؟
سنحاريب هو ملك أشور ٧٠٥ـ ٦٨١ ق.م. كان الإبن الأصغر للملك سرجون الثاني ملك أشور. أصبح سنحاريب ملكا بعد مقتل ابيه في سنة ٧٠٥ ق.م. كان معروف عن سنحاريب انه رجل حرب، كان لديه جيش كبير وقوي. إستطاع سنحاريب ان يستولى على جميع المدن التي حول يهوذا (والتي تقدر بحوالي ٤٦ مدينة) بدأ من لخيش، الواحدة بعد الأخرى. لذلك ملأه الكبرياء وإرتفع قلبه على الرب إله إسرائيل. و بدأ في الإستعداد للإستلاء على يهوذا وأرسل بعض الرسائل إلى حزقيا الملك.
ما هو مضمون الرسائل التي أرسلها سنحاريب ملك أشور إلى حزقيا ملك يهوذا؟
ـ على من تضع إتكالك؟ (١٨: ١٩)
ـ على نفسك و على جيشك؟ هل تعتقد ان مجرد كلمات تصنع خططا وتعطي قوة في الحرب؟ (١٨: ٢٠)
ـ هل تتكل على مصر؟ هل تعتقد ان مصر ستنقذك من يدي؟ (١٨: ٢١)
ـ هل تتكل على الرب إلهك؟ (١٨: ٢٢)
ـ هل أنقذ آلهة الأمم كل واحد أرضه من يد ملك أشور؟(١٨: ٣٣)
ـ من من كل آلهة الأراضي أنقذ أرضهم من يدي، حتى ينقذ الرب أورشليم من يدي؟ (١٨: ٣٥)
كان الهدف من هذه المحاولات هو ان لا يجد حزقيا امامه أي طريق آخر يلجأ له غير ان يستسلم هو و شعب أورشليم إلى ملك أشور. فيتركوا الرب إلههم ومدينة أبائهم، ويصيروا عبيدا له ويعبدون آلهته:
"إسمعوا كلام الملك العظيم ملك أشور. هكذا يقول الملك: لا يخدعكم حزقيا، لأنه لا يقدر أن ينقذكم من يده، ولا يجعلكم حزقيا تتكلون على الرب قائلا: إنقاذا ينقذنا الرب ولا تدفع هذه المدينة إلى يد ملك أشور: أعقدوا معي صلحا، وأخرجوا إلي، وكلوا كل واحد من جفنته وكل واحد من تينته، واشربوا كل واحد ماء بئره حتى آتي وآخذكم إلى أرض كأرضكم، أرض حنطة وخمر، أرض خبز وكروم، أرض زيتون وعسل وأحيوا ولا تموتوا. ولا تسمعوا لحزقيا لأنه يغركم قائلا: الرب ينقذنا." ٢مل ١٨: ٢٨ـ ٣٢
ولكن ماذا عن تدبير الله للخلاص؟ وأن نسل المرأة الذي سيسحق رأس الحية (تك٣: ١٥)؟ وماذا عن المسيح الذي سيأتي من نسل داود ومن سبط يهوذا (يو٧: ٤٢، مز ٧٨: ٦٨)؟ لقد كان حزقيا واحدا من ضمن أنساب المسيح "وعزيا ولد يوثام. ويوثام ولد أحاز. وأحاز ولد حزقيا" (مت ١: ٩)، وكان على حزقيا ان يستمر في تمسكه بالله كي يستمر التواصل من خلال منسى ابنه ثم آمنون من بعدهما حتى يجئ المسيح من نسلهم.
فماذا كانت الإختيارات عند حزقيا؟
ومن قراءتنا لهذا الأصحاح نقدر ان نفهم ان حزقيا كان يعتقد ان عنده إختيارين فقط:
الإختيار الأول: الإستسلام
و كانت هذه هي رغبة الملك سنحاريب بكل تأكيد حيث انه بمجرد إستسلامهم، سيكونون عبيدا له، و يتركون مدينة أورشليم مدينة أبائهم ويتركون عبادة إلههم وإله أبائهم، ليعبدوا آلهة الشعوب.
الإختيار الثاني: الدخول في حرب
وحيث ان هذه الحرب غير متكافئة، سيكون موتهم محقق تحت أقدام أعدائهم.
وهذه هي أيضا الإختيارات التي نعتقد انها الوحيدة المتاحة لنا، والتي يحاول عدو الخير ان يقنعنا انه ليس هناك أي خيارات اخري "الإستسلام أم الموت"، "السرقة ام الفقر"، "الكذب ام الإحتياج"، الخ. فيكون الإستسلام، والسرقة، والكذب هم افضل الإختيارات.
فإما ان نسير مع إتجاه الريح، ونقبل أفكار العالم وطرقه والتي تضاد فكر إلهنا وقداسته، وننشغل عن رسالتنا وهي إنعكاس نور المسيح للعالم. فنتصالح مع العالم ونعيش فيه، و نحلم أحلامه، نتمتع بمشتهياته، ونخضع لمبادئه، بحيث لا يقدر أحد ان يميز بين المسيحيين وبين غيرهم، او يجد فرقا بين سلوك أبناء الملكوت وسلوك أبناء العالم. فنبتعد تدريجيا عن عبادة الله، إلى أن تأتي أجيال من بعدنا لا يعرفون الرب إلهنا.
او أننا ننعزل في سلبية عن العالم، ونعيش حياة خوف وعداوة له على الرغم من محبة الله للعالم "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كم من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدة" يو٣: ١٦. هذه السلبية و الخوف و الكراهية تفقدنا ان نعيش حياة مسيحية صحيحة، حياة عطاء وبذل من أجل الآخر "كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم" (يو ١٧: ١٨). فالمسيحي هو مرسل إلى العالم لكي يعيش فيه بفكر المسيح حياة المسيح.
لكن ماذا فعل حزقيا وماذا كان إختياره؟
مر حزقيا الملك بأربعة مراحل في طريقه إلى الخلاص والنصرة حيث أنقذه الله من سنحاريب وجعل شعبه يحتفل بالإنتصار، بينما هرب سنحاريب في هلع وخوف شديد ومتكبدا خسائر شديدة في العتاد والأرواح.
المرحلة الأولى: الإتكال على النفس
وهي خطوة في الإتجاه المخالف إتخذها حزقيا معتقدا أنه يقدر ان يخلص نفسه وشعب الله معتمدا على نفسه، و بدون أن يسأل الله ويطلب مشورته. وكانت النتيجة هي انه تعرض للسلب والإبتذاد كما نهب بيت الله أيضا بواسطة سنحاريب الملك. وإن كانت هذه الخطوة هي خطأ شديد، إلا انها كانت خطوة تعليمية تأديبية، فلم يكن حزقيا ليدرك خطأه بعدم إتكاله الكامل على الله، إلا بعد ان يختبر نتيجة تصرفه الخاطئ بنفسه (مثلما حدث للإبن الضال فلم يكن ليدرك محبة أبوه وعظمته إلا بعد ان إبتعد عنه وسلك طريقا مختلفا لو ١٥). فنجد حزقيا يرسل إلى سنحاريب ملك أشور رسالة يقول له فيها:
"قد أخطأت. ارجع عني، ومهما جعلت على حملته. فوضع ملك أشور على حزقيا ملك يهوذا ثلاث مئة وزنة من الفضة وثلاثين وزنة الذهب. فدفع حزقيا جميع الفضة الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك. في ذلك الزمان قشر حزقيا الذهب عن أبواب هيكل الرب والدعائم التي كان قد غشاها حزقيا ملك يهوذا، ودفعه لملك أشور." (١٨:١٤ـ١٦)
فعلى ما أخطأ حزقيا و يريد ان يتوب عنه؟ هل عن عمل المستقيم؟ او عن إلتصاقه بالرب؟ أو على إتكاله على الرب وسجوده له؟
لقد أعطى حزقيا فرصة لعدوه، ليس فقط لكي يسلبه وإنما وأن يسلب بيت الله أيضا. وبالرغم من كل هذا السلب إلا ان سنحاريب لم يشبع ولكنه ارسل جيشا عظيما لمحاربة حزقيا.
ونحن في حروبنا مع العدو مع الأسف عندما نعتمد على انفسنا، نجعل عدو الله يستغلنا ويسلب راحتنا وصحتنا واموالنا واوقاتنا واولادنا، بل وحتى كنيستنا عندما نبخل عليها بعطايانا وأوقاتنا وبخدمتنا فنستهلك كل هذه الطاقات في أمور العالم من أجل السلام والنجاح. ولكن هل نجد السلام؟ هل نعيش في طمأنينة فرحين؟ بكل تأكيد لا فهي كذبة تعود عدو الخير ان يستخدمها منذ ايام آدم وحواء وحتى يومنا هذا لكي يفصلنا عن الله ويشغلنا عنه. لا يوجد سلام او راحة بعيد عن الرب الهنا.
الخطوة الثانية: التوبة والإتضاع
في هذه المرحلة رجع حزقيا إلى نفسه (كما رجع الإبن الضال إلى نفسه). إكتشف حزقيا أنه وبكل جنوده وإمكانياته وخبراته، لا يقدر ان يقف بمفرده أمام سنحاريب الملك العظيم وجيشه الضخم. فجاء بكل إتضاع إلى بيت الله.
"فلما سمع الملك حزقيا ذلك، مزق ثيابه وتغطى بمسح ودخل بيت الرب." (١٩: ١)
وهنا أعلن حزقيا إحتياجه إلى الله وإنتظاره أمام الرب ليرشده ويوجه للطريق التي يسلكها. وهذه هي مرحلة هامة جدا عندما يعلن الإنسان ضعفه ورغبته ان ينتظر تدخل الله وثقته في مشيئة الله وعمله.
الخطوة الثالثة: طلب من أشعياء ان يصلي من أجله
وفي هذه المرحلة يطلب حزقيا من الرسل ان يذهبوا إلى أشعياء النبي ويطلبوا منه ان يصلي إلى الرب إلهه من أجله.
"... لعل الرب إلهك يسمع جميع كلام ربشاقي الذي أرسله ملك أشور سيده ليعير الإله الحي..." ١٩: ٤
كان حزقيا في حالة مذلة ومهانة لدرجة انه لم يجسر ان يقول للرسل ان يذهبوا إلى أشعياء النبي لكي يصلي إلى "الرب إلهي" او "الرب إلهنا"، وانما كان يشعر بالضعف وعدم الإستحقاق لذلك قال أن يصلي إلى الرب "إلهك" أي إله إشعياء (مثل الإبن الضال عندما قال لأبيه أني لست مستحقا ان أدعى لك إبنا، فإجعلني كأحد أجراك).
الخطوة الرابعة والحاسمة: صلاة حزقيا لله
"وصلى حزقيا أمام الرب وقال: أيها الرب إله إسرائيل، الجالس فوق الكروبيم، أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض. أنت صنعت السماء والأرض. أمل يارب أذنك وأسمع. افتح يارب عينيك وأنظر، واسمع كلام سنحاريب الذي أرسله ليعير الله الحي. حقا يارب إن ملوك أشور خربوا الأمم وأراضيهم، ودفعوا آلهتهم إلى النار. ولأنهم ليسوع آلهة، بل صنعة أيدي الناس: خشب وحجر، فأبادوهم. والآن أيها الرب إلهنا خلصنا من يده، فتعلم ممالك الأرض كلها أنك أنت الرب الإله وحدك." (١٩: ١٥ـ ١٩)
بداية علاقة شخصية مع الله. وهنا يرفع حزقيا قلبه لأول مرة ويصلي إلى الله بكلماته. لقد أعلن حزقيا إيمانه بقدرة الله وعظمته، فهو ملك الملوك ورب الأرباب وهو الذي صنع السماء والأرض. أعلن حزقيا ايضا إيمانه بأن الله يسمع ويرى ويسرع بالنجدة والخلاص. نعم كان يريد صلاة أشعياء، ولكن كان لابد له ان يبدأ علاقة مع الله حتى يختبر السلام والنصرة.
إنه أمر كتابي وضروري أن نطلب من آخرين ان يصلوا لنا. فقد قال يعقوب في رسالته "صلوا بعضكم لأجل بعض لكي تشفوا. طلبة البار تقتدر كثيرا في فعلها." (يع ٥: ٩). ولكن لا بد أيضا ان يكون لنا علاقة شخصية و مستمرة معه. وكانت النتيجة ان أشعياء النبي أرسل إلى الملك حزقيا يقول له فيها أن الله سمع إلى صلاتك "هكذا قال الرب إله إسرائيل الذي صليت إليه من جهة سنحاريب ملك أشور..." (١٩: ٢٠). سمع الله إلى صلاة أشعياء النبي، لكنه سمع إيضا إلى صلاة جابي الضرائب "وأما العشار فوقف من بعيد، لا يشأ أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلا: اللهم إرحمني أنا الخاطئ" (لو١٨: ١٣). الله يسمع إلى صلاة أي إنسان مهما كان عندما يأتي إليه بقلب منكسر ومتواضع "وإلى هذا أنظر: إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي." (اش٦٦: ٢).
كانت إستجابة الله لحزقيا فورية وقوية جدا:
"لذلك هكذا قال الرب عن ملك آشور: لا يدخل هذه المدينة، ولا يرمي هناك سهما، ولا يتقدم عليها بترس ولا يقيم عليها مترسة. في الطريق الذي جاء فيه يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل، يقول الرب. وأحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي." ١٩: ٣٢ـ ٣٤
وهذا هو وعد الله لكل إنسان يأتي في إنكسار وتواضع قلب ليحتمي ويتكل على الرب الإله: لن يؤذيك عدو الخير، لن يدخل بيتك، لن يمس صحتك، ولن يضرك في عملك، ولن يؤذي أولادك. أنا بنفسي أحامي عن هذه المدينة، أحامي عن هذه الكنيسة، أحامي عن بيتك، عن أولادك.... لأخلصهم من أجل أسمي.
فإذا كان سنحاريب ملك عظيم، فإلهنا هو ملك الملوك و أعظم منه. وإن كان أعداؤنا اكثر واقوى منا، فإن إلهنا هو رب السماوات والأرض، وهي قادر على حمايتنا من أجل نفسه. إلهنا هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة وهو الذي له السلطان الكامل على أعدائنا. فلنأت إلى الله برسائل العدو وبتهديداته معترفين بضعفنا وخوفنا، طالبين منه قوة وإرشاد ومعونة. و لنعلن دائما إتكالنا الكامل على الله وثقتنا في قوته وقدرته على الحماية والأنقاذ. "ويتكل عليك العارفون أسمك. لأنك لم تترك طالبيك يارب." (مز ٩: ١٠). آمين
القس: نشأت وليم خليل