رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان 1- مقدمة إذ تمتعنا بنوم الصباح وأشرق النور علينا بدأنا نسأله أن يحدثنا بما وعدنا به. فبدأ الطوباوي موسى يقول: إذ أرى شوقكم الملتهب هذا، فإنني لست أظن بأن ما كنت أرغبه في أن أترككم فترة هدوء قصيرة جدًا بعد المناظرة الروحية، لأجل راحتكم الجسدية، يهبكم راحة لأجسادكم، إنما إذ أتطلع إلى غيرتكم أشعر بالضرورة تلح عليّ لكي ما أفي بما قد وعدتكم به بكل عناية وإخلاص… إنني سأتكلم عن “التمييز الحسن وخصائصه”، الموضوع الذي تطرقنا إليه في مناقشتنا الليلة الماضية. وإني أحسب أنكم تريدون أن أكشف لكم عن بركات “التمييز” حسب فكر الآباء… وأن أحدثكم عن هلاك بعض السابقين والمحدثين وسقوطهم في اليأس بسبب عدم اهتمامهم بالتمييز، ثم أتحدث عن بركات التمييز… هذا كله بعدما نناقش كيف يلزمنا أن نعرف جيدًا كيفية البحث عن التمييز وطريقة الانتفاع به عمليًا، آخذين في اعتبارنا أهميته وبركاته. التمييز نعمة إلهية لا توجد فضيلة واحدة يمكننا أن نحصل عليها بمجهودنا البشري ما لم تعيننا النعمة الإلهية. ونحن نرى في الكتاب المقدس أن التمييز حُسب ضمن مواهب الروح، إذ يقول الرسول: “فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد… ولآخر تمييز الأرواح”… لقد رأيتم إذن كيف أن موهبة التمييز ليست موهبة أرضية، ولا هي بالأمر الهيّن ، إنما هي عطية عظمى تهبها النعمة الإلهية. إن لم يسعى الإنسان[1] بكل حماس نحو التمييز… حتمًا يخطئ ويصير كمن هو في ظلمة الليل وحلكة الظلام، ولا يسقط فقط في الأشراك والأهواء بل ويخطئ حتى في الأمور السهلة. |
18 - 09 - 2014, 02:31 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
2- أهميته
أذكر لما كنت في منطقة طيبة Thebaid حيث يقطن الطوباوي أنطونيوس وأنا صبي جاءه جماعة من الآباء يسألونه عن “الكمال”. واستمرت المناقشة من المساء حتى الصباح، وأخذ هذا السؤال النصيب الأكبر من الليل. وقد نوقش: أيالفضائل أكمل وأقدر على حفظ الإنسان من مصائد الشيطان وحيله، وتحمله إلى الطريق الآمن الحقيقي، وترتفع به بدرجات ثابتة على قمم الكمال؟ تحدث كل واحد على حسب ميول عقله، فقال البعض بأن الجهاد في الصوم والسهر يقوّم الفكر وينقي القلب ويسهل للإنسان التقرب إلى الله. ومنهم من قال بأن المسكنة والزهد في الأمور الأرضية يُمكّنا العقل أن يكون هادئًا صافيًا خاليًا من هموم العالم، متجهًا بالكامل نحو الله، ولا تقتنصه أشراك العدو. وظن البعض أنه بالضرورة الانسحاب من العالم، أيضًا الوحدة والانعزال في حياة التوحد، حتى يُمكن للإنسان بالأكثر أن يتحدث مع الله ويلتصق به. وذكر البعض أعمال المحبة أيضًا فعل الرحمة، لأن الرب يقول لفاعليها كما وعدهم في الإنجيل: “تعالوا إليّ يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جُعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني…” (مت34:25،35). |
||||
18 - 09 - 2014, 02:31 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
بهذا أعلنوا أنه خلال فضائل متنوعة يمكن الاقتراب إلى الله. وهكذا انقضى النصيب الأكبر من الليل في هذه المناقشة، وأخيرًا تكلم الطوباوي أنطونيوس قائلاً:
[حقًا إن كل هذه الأمور التي ذكرتموها نافعة وضرورية، وتعين المتعطشين إلى الله والراغبين في الاقتراب منه. لكن هناك حوادث لا حصر لها واختبارات للبعض تؤكد لنا بأن هذه في (ذاتها) لا تهبنا العطايا العظمى. فالبعض مارسوا الصوم والسهر، وانسحبوا بشجاعة إلى الوحدة بقصد ترك كل شيء تركًا كاملاً، حتى أنهم لم يسمحوا لأنفسهم بأن يكون لديهم أكلة يوم واحد، أو يكون في جيبهم فِلْس واحد مكرسين حياتهم لأعمال الرحمة، ومع هذا وجدناهم يسقطون فجأة ولا يستطيعون القيام بما كانوا يصنعون من قبل... بل تتحول غيرتهم وأعمالهم المُطوّبة إلى نهاية مؤسفة. ويمكننا إذا ما تتبعنا بدقة أسباب انهيارهم وسقوطهم نعرف الأمر الرئيسي الذي يقودنا إلى الله فإذ تتزايد فيهم أعمال الفضائل المذكورة ينقصهم "التمييز"، وهذا منعهم من الاستمرار في الجهاد. وسبب سقوطهم الواضح هو عدم أخذهم بتعاليم آبائهم[2] الكافية التي بها يحصلون على الحكمة والتمييز، فتطرفوا في جانب من جوانب الفضيلة.] يعلم التمييز أن يسير الإنسان في الطريق الملوكي، من غير أن يسمح له بالتطرف اليميني في الفضيلة، أي المغالاة وتجاوز حدود الاعتدال في جسارة ووقاحة، كما لا يسمح له بالكسل… |
||||
18 - 09 - 2014, 02:32 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
هذا هو التمييز الذي يعبر عنه الكتاب المقدس بـ “العين” أو “نور الجسد”، وذلك كقول المخلص: “سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا..” (مت 22:6، 23). لأنها هي التي تميز كل الأفكار والأعمال، وترى كل شيء وتراقب ما سيحدث.
فإذا كانت عين الإنسان “شريرة” أي غير محصنة بصوت الحكمة والمعرفة، مخدوعة ببعض الأخطاء والعجرفة (في العبادة)، فإنها تجعل جسدنا “كله يكون مظلمًا”. تظلم عقولنا وتصير أعمالنا في ظلام الرذيلة ودجى الاضطرابات، وإذ يقول: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!” (مت 23:6). فلا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان “الحكم في الأمور” في القلب خاطئًا، أي كان القلب مملوء جهلاً، تكون أفكارنا وأعمالنا، التي هي ثمرة التمييز والتأمل، في ظلام الخطية العظمى… |
||||
18 - 09 - 2014, 02:32 PM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
3- أمثلة من الكتاب المقدس
(أ) شاول الرجل الذي كان في نظر الله مستحقًا أن يكون ملكًا على شعبه سقط من ملكه بسبب افتقاره إلى “عين التمييز”، وبذلك صار الجسد كله مظلمًا… فظن أن تقدمته مقبولة أمام الله أكثر من طاعته لأوامر صموئيل، حاسبًا أنه بهذا يستعطف العظمة الإلهية… (أنظر 1صم15). (ب) انقاد آخاب الملك لعدم التمييز بعد النصر الرائع الذي وُهب له بغيرة الله، إذ ظن أن عمل الرحمة من جانبه أفضل من تنفيذ وصية الله التي بدت أمرًا قاسيًا فلم ينفذها. بينما رغب في التلطيف من الانتصار الجسدي بصنع الرحمة… |
||||
18 - 09 - 2014, 02:32 PM | رقم المشاركة : ( 6 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
4- التمييز كما جاء في الكتاب المقدس
هذا هو التمييز الذي لا يُدعى فقط “نور الجسد”، بل و”الشمس”، إذ يقول الرسول: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 26:4). وُيدعى أيضًا “سلطانًا”، إذ لا يسمح لنا الكتاب المقدس أن نصنع شيئًا بدونه “مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه” (أم 28:25). وبه تسكن الحكمة ويقطن الفهم والمعرفة، وبدونه لا يُبنى بيتنا الداخلي، ولا نستطيع أن نجمع الغنى الروحي الذي لنا، فقد قيل: “بالحكمة يُبنى البيت، وبالفهم يثبت. بالمعرفة تمتلئ المخادع من كل ثروة كريمة ونفيسة” (أم3:24، 4). وهو “الغذاء الكامل” الذي يقتات به الكاملون في النمو والصحة، إذ قيل: “وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 14:5). وتظهر أهميته وضرورته بالنسبة لنا بمقدار ما لكلمة الله وقوتها من أهمية، إذ قيل: “لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب 12:4). من هذا يظهر بوضوح أنه لا يمكن أن تكون لفضيلة ما كمالها المطلوب، أو تدوم، بدون نعمة التمييز. وكما يقول الطوباوي أنطونيوس كغيره أيضًا من الآباء، بأن التمييز هو الذي يقود الإنسان الشجاع بخطوات ثابتة نحو الله، ويحفظ له دوام سلامة الفضائل المشار إليها بغير سأم، حتى تبلغ أقصى ذروة الكمال. وبدونه لا يمكن الوصول إلى مرتفعات الكمال مهما كان الجهاد بكل رغبة. فالتمييز هو أهم كل الفضائل، وحارسها، ومنظمها. |
||||
18 - 09 - 2014, 02:32 PM | رقم المشاركة : ( 7 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
5- أمثلة: (1) موت الشيخ هيرون Heron
إنني أُعضد ما قاله الطوباوي أنطونيوس وغيره من الآباء بمثال حديث… تذكروا ما قد حدث عن قريب أمام أعينكم، أقصد ما حدث مع الشيخ هيرون الذي منذ أيام قليلة سقط بخدعة شيطانية من العلو إلى الهاوية. ذلك الرجل الذي نذكر أنه عاش خمسين عامًا في هذه البرية محتفظًا بزهده بكل دقة، راغبًا في حياة التوحد الخفية بغيرة عجيبة تفوق كل الساكنين هنا. بعد كل هذا الجهاد انظروا كيف خدعه الماكر مسقطًا إياه سقطة محزنة مهلكة، جعلت كل الساكنين في هذه البرية يبكونه بمرارة! أليس هذا بسبب عدم اقتنائه فضيلة التمييز كما ينبغي، مفضلاً أن يسير حسب حكمته الخاصة دون أن يطيع قوانين الاخوة وأقوال الآباء ونظمهم؟! لقد استمر في زهده، عنيفًا في صومه، مثابرًا في وحدته الخفيَّة وخلوته الرهبانية، حتى أنه لم يحضر مع الاخوة ليحتفل معهم عيد القيامة… خائفًا لئلا يأكل بعض البقول يدفع به إلى التكاسل عن هدفه شيئًا ما. لقد خُدع بهذه الجسارة، إذ أستقبل ملاكًا بخدعة شيطانية بإكرام جزيل على أنه ملاك نوراني، وأطاع أمره في عبودية عمياء، ملقيًا بنفسه في بئر عميقة للغاية. وهو لم يشك في وعد الملاك له، الذي أكد أنه لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، وفي منتصف الليل خُدع، فألقى بنفسه في البئر المذكورة ليتحقق عظمة استحقاقه وفضائله… وفي اليوم الثالث مات، وكانت حالته رديئة، إذ كان ممسكًا بغروره العنيد حتى أن تجربة الموت لم تستطع أن تجذبه إلى معرفة أنه كان مخدوعًا بحيل شيطانية. فبالرغم من جهاده العظيم والسنوات الكثيرة التي قضاها في هذه البرية إلا أن الأب بفنوتيوس اعتبره ضمن المنتحرين الذين لا يستحقون أي ذكرى ولا تُقدم أية تقدمه لراحتهم. |
||||
18 - 09 - 2014, 02:32 PM | رقم المشاركة : ( 8 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
6- (ب) هلاك أخوين
وماذا أقول عن هذين الأخوين اللذين كانا يعيشان في صحراء طيبة Thebaid التي كان يسكن فيها الطوباوي أنطونيوس، ولم يكن لهما روح التمييز الدقيق. فقد قررا ألا يأخذا معهما أي طعام عندما كانا يسيران في منطقة صحراوية بعيدة وواسعة، متكلان أن الله يمدهما بالقوت. وإذ تاها في الصحراء صارا على وشك الإغماء بسبب الجوع. ولما وجدهما الـ mazices[3] قدموا لهما طعامًا، على خلاف طبيعتهم الوحشية، فأخذ أحدهما الخبز بفرح وشكر كما لو أنه مرسل من الله، إذ رأى أنه من قبل السماء أن يقدم لهما سافكو الدم خبزًا وهما في حالة إغماء وعلى وشك الموت. أما الثاني فرفض الطعام لأنه مقدم من بشر ، فمات جوعًا. عرف الأول خطأه، وفهم ما كان قبلاً يفهمه فهمًا خاطئًا، أما الثاني فصمم على جهله بعنادٍ، جالبًا الموت لنفسه، وذلك بسبب نقص التمييز. |
||||
18 - 09 - 2014, 02:33 PM | رقم المشاركة : ( 9 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
7- (ج) سقوط آخر
أتحدث عن آخر[4] تقبّل شيطانًا ظهر له في صورة ملاكٍ نوراني، فانخدع بإعلانات لا حصر لها، معتقدًا أنه رسول للبر. وإذ كان يتقبل هذه الإعلانات كانت قلايته تضيء بغير مصباح، وأخيرًا أمره الشيطان أن يقدم ابنه الذي يعيش معه في الدير ذبيحة لله، حتى يستحق ما استحقه إبراهيم. وقد انخدع حتى كاد أن يرتكب الجريمة، إلا أن ابنه لما رأى والده ومعه السكينة يسنها بطريقة غير عادية ورأى السلاسل التي يعدها لتقييده، شعر بالجريمة المتوقعة وهرب مرتعبًا. |
||||
18 - 09 - 2014, 02:33 PM | رقم المشاركة : ( 10 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
8- (د) سقوط راهب من دير الميصة Mesopotamia
يطول بنا الحديث إن تكلمنا عن ذلك الراهب الذي من دير الميصة (ما بين النهرين)، هذا الذي كان متنسكًا بصورة لا نجد لها مثيل إلا بين القليلين من أهل تلك المنطقة. لقد عمل سنوات طويلة مختبئًا في قلايته، وأخيرًا خُدع بإعلانات وأحلام شيطانية. فبعد عمل كثير وجهاد حسن متخطيًا الكثيرين في هذا الأمر… ارتدّ يائسًا إلى اليهودية وختان الجسد. إذ كان الشيطان الذي عوّده على الرؤى لكي ما يجذبه إلى الضلال والتيه يظهر له في النهاية لمدد طويلة في صورة رسول الحق, أخيرًا أظهر له منظرًا وهو أن جماعة المسيحيين مجتمعين معًا مع قادة ديننا وعقيدتنا مثل الرسل والشهداء في الظلمة والأوساخ والنجاسة والقبح في صراخ وعويل. وفي الجانب الآخر أظهر له الشعب اليهودي مع موسى والآباء والأنبياء يرقصون طربًا منيرين بنور يُبهر العين، مقنعًا إياه بضرورة الاختتان، إن كان يرغب في أن يكون له نصيب في هذه الجعالة. وهكذا لو أنه سعى للحصول على قوة التمييز ما كان قد سقط في ذلك الخداع البائس. هذه المصائب والحيل التي سقط فيها الكثيرون، كشفت عن خطورة عدم وجود نعمة التمييز. |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الترفق بالضعفاء _ يوحنا كاسيان |
يوحنا كاسيان |
القديس يوحنا كاسيان |
القديس يوحنا كاسيان |
أيدي الانسان الداخلي ـ القديس يوحنا كاسيان |