رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الله الآب في سرّ المعمودية المعمودية والتثبيت هما سرّان من أسرار التنشئة المسيحية (أي: المعمودية، التثبيت والافخارستيا). وكلمة تنشئة تعني هنا أنه من خلال هذه الأسرار يدخل الإنسان في باب الحياة المسيحية وإذ نشترك من خلالها بسرّ موت المسيح وقيامته من بين الأموات ويصبح ابناً مع الابن يسوع، الله الآب بواسطة الروح القدس. من خلال هذه الأسرار تبدأ المسيرة الايمانية مع يسوع المسيح وينمو الانسان في الملكوت بهدف الوصول الى الآب. لا نريد أن نتوقف على كلّ رتبة المعمودية بل نحصر هذه الدراسة الموجزة في حسّاية المعمودية في الطقس الماروني. لا بدّ أوّلاً من أن نلفت الانتباه الى أنّ "الحساية" أو صلاة الغفران في الطقس الماروني، هي من الصلوات الأكثر أهميّة لما تتضمنه من غنى على صعيد البنية اللاهوتية التي تحمل من جهة بعداً ثالوثياً ومن جهة أخرى بعداً كريستولوجياً، متوقفة على المعاني اللاهوتية للمناسبة أو للعيد أو للحدث التي تحتفل به الكنيسة. انّ حساية رتبة المعمودية هي بالواقع "تحفة لاهوتية"، تتمحور حول حدث الأردنّ أي معمودية السيّد المسيح على مياه الأردنّ من يوحنا المعمدان. فلنحاول شرح وتحليل هذا النصّ تباعاً. أ.المعمودية والصليب. يرفع النص آيات التسبيح والشكر الى "رئيس الكهنة الذي بدأ فعلّمنا التنقية بنفسه على مياه الأردنّ". هذه الصفة "رئيس الكهنة"، هي الأولى التي يبدأ فيها النصّ وصفه للسيّد المسيح. الصورة الأولى التي ترسم أمامنا من خلال هذا التعبير هي صورة الصليب. فالمسيح، رئيس كهنة العهد الجديد، قدّم ذاته للآب السماوي على الصليب وهذا ما يميّز المسيح - الكاهن عن كهنة العهد القديم وعن كلّ أنواع الكهنوت الماضية اذ كانت تقدمة خارجة عن ذات الانسان، كانت تقدمة الحيوانات والقرابين والبواكير والعشور وغيرها. أمّا تقدمة المسيح، فكانت "الذات" بكليّتها لأبيه من أجل الانسان. وحياة يسوع كلّها كانت حياة كهنوتية؛ وحدث الصليب الذي هو التتويج الكبير لرسالة يسوع التي كانت قد استُهلّت في معموديته على مياه الأردنّ؛ يقول النصّ في هذا السياق: "رئيس الكهنة الذي بدأ فعلّمنا التنقية بنفسه على مياه الأردنّ، ونهج سبل الحياة أمامنا، لأجل تنقيتنا من خطايانا". نشدد هنا على اللحمة اللاهوتية والحياتية بين حدث الأردن وحدث الصليب. على الأردن أُعلِن أنّ المسيح هو الابن الحبييب والمسيح والكاهن وعلى الصليب توّجت رسالة الابن والمسيح والكاهن. فحياة يسوع كلّها كانت تسليماً مطلقاً لارادة الآب و تتميماً لمشيئته القدّوسة، هذا التسليم تُوّج عندما أَسلم الابن ذاته كليّاً للآب، لقد ارتفع المسيح ورفع معه العالم. فحياة يسوع هي مثال لحياة كلّ معمّد. ب.المعمودية وحياة يسوع التبشيرية. نقرأ في النصّ: "ونَهج سبل الحياة أمامنا". هذه الصورة التّي نراها في النصّ تشير الى أنّ معمودية يسوع هي النموذج والمثال لمعمودية كلّ مسيحيّ. كيف؟ كما أنّ المسيح تعمّد ومُسح بالروح وأُعلن عنه أنه الابن الحبيب وانطلق بعد المعمودية ليبدأ بمشروع الكرازة في ملكوت الآب، هكذا كلّ معمّد يُمسَح بالروح ويعلن عنه أنّه ابن الآب الحبيب مع الابن يسوع، ويدعى كي ينطلق بعد المعمودية ويبدأ رسالته التبشيرية اذ يعلن من خلال حياته وكرازته عن ملكوت الآب وعن الانجيل ويكون شاهداً له في قلب العالم. بهذا المعنى يكون قد نهج السيّد المسيح سبل الحياة أمامنا، اذ كان مثالنا بمعموديته وبحياته، والمقياس الجوهريّ لكلّ معمّد هو: حياة يسوع، رسالته، تبشيره، صلاته، تردّده بين الناس، آلامه، موته وقيامته. وهكذا يدعى كلّ مسيحي أن يواصل بعد المعمودية رسالة المسيح فيكون: نبياً مثل المسيح يشهد للحقّ؛ راعياً مثل المسيح يقود بمثله وحياته الناس الى مراعي الحياة والسلام والمحبة؛ وكاهناً مثل المسيح يقدّم ذاته مع المسيح القربان تقدمة روحية وعقلية الى الله الآب من أجل سلام العالم وخلاصه. ج.المعمودية والتجسد. نقرأ في النص: "أيّها الاله الذي صار إنساناً بمحبّته، واتّلد في الجسد، بدون زواج، اتّلاداً لا يدرك، من البتول القديسة، لكي يقرّب البشر من التبني لوالده، فجعلهم أبناء لأبيه بالماء والروح". أوّل ما يسترعي انتباهنا في هذه الفقرة هو حدث ميلاد الربّ بالجسد؛ و هنا نجد الرباط أيضاً بين حدث المعمودية وحدث التجسّد. ان مشروع التجسّد هو في بادىء الأمر التعبيرَ الأكبر عن محبة الله الانسان اذ صار انساناً، و اتّلد في الجسد... من البتول القديسة. وهدف هذا التجسد هو التبني. فمن خلال المسيح الابن المتجسّد تحقَّقَ مشروع تبني الانسان أي رَجَعْنا إلى حالة الأبناء بعد أن كنّا في حالة العبيد والعبودية. أين تحقّق فعلياً هذا المشروع؟ طبعاً بمعمودية الماء والروح التي نشترك فيها و التي حقّقها المسيح بمعموديّته الأولى على الأردنّ والتي قادته الى المعمودية الثانية على الصليب. فبموته وقيامته اكتمل مشروع التبني وبمعمودية الكنيسة يدخل الانسان مباشرةً في هذا المشروع ويصبح ابن الله. د.المعمودية والخلق. نقرأ في النصّ: "يا مصوّر الأجنّة في الأحشاء، الذي صار جنيناً بإرادته ليجدّد صورة آدم التي شاخت و بَليَتْ بفساد الخطيئة تجديداً بنار الكور السليم الروحاني الذي هو المعمودية". في سياق العلاقة بين المعمودية ومحطات التدبير الإلهي الخلاصيّ، وبعد أن ذكر النصّ العلاقة مع الصليب وحياة يسوع والتجسّد، نصل الآن الى اللحمة بين المعموديّة والخلق. هنا تتوجّه الصلاة الى الخالق من خلال هذا التعبير: "يا مصوّر الأجنّة في الأحشاء". هذا الخالق ومعطي الحياة، صار جنيناً – إنساناً بهدف أن "يجدّد صورة آدم" التي شاخت وبَليَتْ بفساد الخطيئة "هذا التجديد تمّ ويتمّ بالمعمودية. في الواقع نحن أمام نص هو من أجمل وأعرق وأقدم الصلوات المسيحية على الاطلاق: هذا التعبير "تجديد صورة آدم" يشير بطريقة صريحة إلى الخلاص الذي حقّقه آدم الجديد يسوع المسيح. فصورة الله المطبوعة في الإنسان وهي ميزة الخلق الأول، هذه الصورة قد "شاخت وبليت" بسبب معصية آدم. أتى المسيح آدم الثاني وأعاد إلى هذه الصورة جمالها ورونقها؛ المسيح الذي يمثّل البشرية الكاملة والألوهة الكاملة قد رمّم هذه الصورة بتجسّده ومعموديّته وحياته وموته وقيامته؛ ومع المسيح وفي معموديّته يشترك الإنسان في حالة آدم الجديد، آدم النعمة، آدم القيامة والحياة الجديدة وعدم الموت. ه.المعمودية و حدث الأردن. نقرأ في النصّ: "أيّها الغير المحتاج الذي أتى وتعمّد ليقدّس مياه الأردنّ بحنانه، يا ابن العظمة الذي حنى رأسه أمام يوحنا المعمدان، والآب يصرخ من العلاء كالرعد: هذا هو ابني الحبيب الذي به ارتضيت، والروح القدس قد نزل وحلّ على رأسه بشبه جسد حمامة، والقوات الروحانية قائمة بالخوف والرعدة". نصل هنا إلى حدث معمودية يسوع على مجاري الأردنّ وهو المحور الرئيسي في هذه "الحساية" وعليه ترتكز كلّ الأبعاد اللاهوتية التي أوردناها والتي تتعلق من جهة بالمسيح وبعمله الخلاصي: صليب – حياة يسوع – تجسّد – خلق؛ وتتعلّق من جهة ثانية بالانسان الذي يتهيّأ للمعمودية كما سنرى في المقطع التالي. في هذه الفقرة نجد وصفاً لما جرى على الأردنّ مع التركيز على تواضع المسيح. "الغير المحتاج، أتى و تعمّد" والهدف أن يُقدِّس المياه بحنانه. تلتقي هذه الصورة مع عمل ليتورجي رمزيّ نجده في رتبة تبريك المياه في عيد الغطاس وهو رمي ثلاثة جمرات نار في حوض المياه للاشارة الى حلول السيد المسيح في مياه الأردن ليقدّس مياه الكون بأسره ويقدّس الطبيعة بشخصه وفعل الاتحاد هذا يعبّر عن رحمة الربّ وحنانه الذي بتجسّده وعماده وحلوله المثلث في الزمن قد قدّس الزمن والكون وأعاده الى جماله الأول. انّه مشروع الخلق الجديد الذي تقدّس بالمسيح وعلى رأس هذه الخليقة الانسان الذي افتُديَ وخُلِّص وعاد الى الفردوس مع يسوع المسيح بقوّة الماء والروح. و.المعمودية و طالب العماد. نقرأ في النصّ: "انت أيّها الربّ الاله، أحلّ يمين رحمتك على عبدك هذا الذي تأهّب للمعمودية المقدّسة. قدّسه و طهّره ونقّه بزوفاك الغافرة، وبارك واحفظ شعبك وميراثك. وكما ألبستنا بمعموديتك الالهية حلّة المجد ووسم الروح القدس المحيي، ودعوتنا لنكون بنيناً روحانيين بالمولد الثاني من المعمودية المقدّسة المبررة الخطأة، هكذا أهّلنا بقوتك العزيزة الغير المغلوبة لأن نمجّدك بوجوه طلقة وبدالّة الأبناء الأحبّاء، ونمجّد أباك الذي أرسلك لخلاصنا وروحك الحيّ القدوس الآن وكلّ آن الى الأبد. آمين". هنا يبدأ القسم الثاني من الحسّاية أي ما نسميه قسم الطلب وهذه الجملة "أنت أيّها الربّ الاله" أو ما يشابهها مثل: "أنت الآن" أو "الأن" هي التي تنقل توجّه الصلاة من تمجيد وتسبيح وذكرِ الأعمال الخلاصية عبر التاريخ إلى الحاضر الاحتفاليّ أي واقع الكنيسة التي تحتفل الآن، أي في مكان وزمان محدّدين ومع أشخاص مدعوين للاشتراك بروح الاحتفال أي بالخلاص الذي يبغيه كلّ احتفال ليتورجي. في هذا المناخ تأتي الصلاة على الإنسان الذي يتهيّأ للمعمودية وتطلب أن يتقدّس ويتطهّر ويتنقى وهذه الأفعال لا تحمل فقط بعداً أدبياً وأخلاقياً بل هي أفعال خلاصيّة تدخّل الإنسان في دينامية الخلاص. وتشير الصلاة إلى الجماعة المحتفلة. فمفاعيل المعمودية هي الانتماء إلى شعب الله المفتدى. وهذا الأمر هو مهم جداً وهو يشكّل ربّما مُعضِلةً هي من أهمّ المعضلات في الإيمان المسيحيّ اليوم وهي عدم حسّ الانتماء الى الجسم المسيحيّ والى كنيسة المسيح؛ هذا الانتماء يتحقّق بالمعمودية وتكمن ثماره في كلّ أبعاد الشركة مع الله ومع البشر. و من مفاعيل المعمودية أيضاً هي: أن يَلْبس الانسان حلّة المجد ويوسم الروح ويصبح ابناً و يمجّد بدالّة الأبناء الآب والابن والروح القدس. خلاصة نستنتج من هذا التحليل الموجَز للحسّاية ما يلي: 1.على صعيد الاحتفال وتلاوة النصوص: عدم التعاطي السطحي مع نصوصنا الليتورجيّة واعتبارها نصوصاً مرَّ عليها الزمن والتعاطي معها بروح غير جديّة فنحذف بطريقة عشوائية ما نريده دون أن نعي الترابط الأدبي واللاهوتي لهذه النصوص التي تحمل روحانية جميلة وعميقة واذا استعملناها بطريقة جيّدة، تكون مصدر غذاء إيماني وروحي للكاهن وللشعب في آنٍ واحد. 2.على الصعيد اللاهوتي نرى أنّ الحساية المارونية تركّز على حدث الأردنّ. يعكس هذا الأمر تقليد الكنائس السريانية التي ربطت المعمودية المسيحية بمعمودية يسوع المسيح على الأردنّ أكثر منها اشتراكاً في موته وقيامته. فمعمودية المسيح هي المثال والنموذج لمعمودية المسيحيّ، بمعنى أنّ المسيح انطلق بعد المعمودية إلى العالم وبدأ البشارة بملكوت الآب وهكذا كلّ معمّد دُعي كي ينطلق ويكرز بالإنجيل بعد المعمودية. اذاً المعمودية لها بُعد تبشيري، كرازي دون أن تنفي البُعد اللاهوتي وهو الموت والحياة مع المسيح. السؤال العملي والرعوي يطرح هنا حول معمودية الأطفال. فكيف ينطلق الطفل لكي يبشّر؟ من هنا رأت الكنيسة ضرورة وجود عرّاب وعرّابة مع الأهل، يرافقون الطفل في النموّ الإيماني حتّى يبلغ النضج الإنساني والروحي ويصبح مسؤولاً مباشراً في مشروع الشهادة للإنجيل من خلال التبشير والكرازة في الحياة اليومية وفي الممارسة المسيحيّة. 3.هذه "الحسّاية" تمحورت على حدث الأردنّ ومنه ربطت معمودية المسيح بأهمّ المحطّات الخلاصية؛ فبدأت بالصليب من خلال ذكر "رئيس الكهنة" ومن ثمّ توقّفت على حياة يسوع التبشيرية من خلال: "نهج سبل الحياة أمامنا" ووصلت إلى ميلاد الربّ بالجسد والى الخلق حتّى وصلت إلى الإنسان الذي يتهيّأ اليوم إلى المعموديّة. في الواقع هذه الحسّاية هي "تحفة لاهوتية" إذ أنّها لخّصت كلّ مراحل التدبير الخلاصيّ ومحورتها حول حدث الأردنّ، هذا الحدث الذي يتواصل في الكنيسة وفي معمودية كلّ إنسان، إذ يتوشّح حلّة الأبناء ويوسم بالروح وبدالّة الأبناء هذه ينادي الأب: أبّاً |
|