من جهة المواد نذكر الاختلافات في الأناجيل الثلاثة على سبيل المثال:
1. كُتب ميلاد السيّد المسيح في إنجيل متّى بطريقة تختلف عما جاء في إنجيل لوقا، أمّا إنجيل مرقس فلم يشر إليه قط.
2. النسب كما ورد في إنجيل متّى (1: 1-17) يختلف عما ورد في إنجيل لوقا (3: 23-38).
3. التجارب الثلاث التي واجهها السيّد ذُكرت في إنجيل متّى (4: 3-12) وفي إنجيل لوقا (4: 3-12)، مع اختلاف في الترتيب.
4. أحداث القيامة وردت في كل إنجيل بطريقة متباينة، فمعلّمنا متّى تحدّث عن ظهورات السيّد في الجليل، أمّا معلّمنا لوقا فتحدّث عن ظهوراته في اليهوديّة.
5. وردت العظة على الجبل في إنجيل متّى (5-7) ولم ترد في إنجيل معلّمنا مرقس.
حلول المشكلة
في العصور الأولى اهتم الآباء بكل حدث على انفراد، موضّحين اتفاق الإنجيليّين، أمّا ما حدث في الغرب فهو دراسة المشكلة ككل، وقد ظهرت عدة نظريّات لحلّها ليست متضاربة بل كل منها تمهّد للأخرى، أهمها:
1. نظريّة الاستعمال Utilization Theory: تتلخّص في أن كل إنجيل يعتمد على الإنجيل السابق أو الإنجيليّن السابقين له، أي يستخدم ما قد سبقه. لعلّ هذه النظريّة اعتمدت على ما ورد في القدّيس أغسطينوس أن متّى البشير كتب أولًا، اعتمد عليه مار مرقس، وجاء لوقا الإنجيلي يعتمد على الاثنين، لهذا جاء ترتيب الأناجيل التقليدي: متّى ومرقس ثم لوقا. اقترح Griesbach نظريّة مماثلة، وإنما رأى أن لوقا يسبق مرقس، وبالتالي استخدم مار مرقس إنجيلي متّى ولوقا معًا. عدّل Lachmann النظريّة عام 1835م، وWilbe عام 1838م، وقد دافع B. Buttler عنها[21]. المرجع: موقع كنيسة الأنبا تكلاهيمانوت
2. نظريّة الإنجيل البدائي The Primitive Gospel Theory: لعلّ هذه النظريّة جاءت كتطوّر لما ذكره بابياس في القرن الثاني أن متّى وضع "أقوال يسوع" باللغة العبريّة، استخدمها الإنجيليون. فقد افترض البعض وجود أصل آرامي (عبري) ترجم إلى اليونانيّة استخدمه الإنجيليّون[22] كل على انفراد، هذا الأصل مفقود. ارتبطت هذه النظريّة بـ G. E. Lessing عام 1778م، وعدلها J. Eichhorn عام 1804م. ويسمى أصحاب هذه النظريّة هذا الإنجيل الأولى الذي عنه أخذت الأناجيل الثلاثة "Q"، ولما كان رأي الكثيرين منهم أنه أقرب إلى إنجيل مار مرقس لذا دعاه البعض Proto-Mark. ورأى البعض في قول القدّيس أبيفانيوس[23] ما يوافق هذه النظريّة، وهو أن الأناجيل (أخذت عن ذات المصدر). غير أن القدّيس لا يقصد بهذا مصدرًا معينًا مكتوبًا أو شفاهًا، إنّما يقصد بالمصدر الروح القدس واهب الوحي للإنجيليّين، المصدر المشترك لكل الإنجيليّين.
على أي الأحوال هذه كلها مجرّد افتراضات تقوم على وجود مصدر مفقود، عليه اعتمد الإنجيليّون، وبالغ الدارسون في افتراض وجود تعديلات في الأصل مستمرّة، حتى افترض الأسقف Marsh[24] وجود ثماني وثائق:
أ. الأصل العبري.
ب. ترجمة يونانيّة للأصل العبري.
ج. ظهور نسخة عن الأصل العبري مع تعديلات وإضافات.
د. نسخة أخرى للأصل العبري مع مجموعة أخرى من التعديلات والإضافات.
هـ. نسخة تضم كل التعديلات والإضافات التي للنسخة (ج) مع إضافات جديدة استخدمها مار متّى البشير.
ز. نسخة تضم النسخة رقم (د) مع إضافات استخدمها مار لوقا البشير، هذا وقد استخدم أيضًا النسخة (ب).
ح. نسخة عبريّة متمايزة تمامًا تحوي وصايا السيّد وأمثلته ومقالاته مسجّلة بطريقة غير تاريخيّة استخدمها الإنجيليّان متّى ولوقا.
ويعترض على هذه النظريّة بالآتي:
أ. إن كان كل معلومة جديدة يمكننا القول بأن مصدرها الوثيقة الأصليّة مضافًا إليها تعديلات جديدة، فإنه يمكننا افتراض عشرات النسخ وليس فقط ثمانيّة نسخ، دون وجود دليل يؤكّد شيئًا من هذا.
ب. لو أنه يوجد مصدر أصيل أخذ عنه الإنجيليّون الثلاثة لاحتفظت الكنيسة بهذا المصدر الأوّلي. إن كانت الأناجيل غير القانونيّة قد اُحتفظ بها فبالأولى كان يجب حفظ هذا المصدر.
3. نظريّة القصص: تتلخّص في وجود مصدر يوناني يحوي قصصًا عن أحداث الآلام والمعجزات مع تجميعات لأقوال السيّد المسيح، اعتمد عليها الإنجيليّان متّى ولوقا بجانب اعتمادها على إنجيل مرقس. اهتم بهذه النظريّة Schleiermacher عام 1817م.
4. نظريّة التقليد الشفهي، ترجع إلى Herder عام 1797م، بحسبها سلك الإنجيليّون حسب التقليد العام الشفهي (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ويلاحظ أنه بالرغم من عدم تجاهل أغلب الدارسين لأهمّية الدور الذي قام به التقليد الشفهي لكن وجود متشابهات كثيرة ودقيقة حتى في العبارات جعل البعض يؤكّد الاعتماد على مصدر مكتوب بجانب التقليد الشفهي.
5. نظريّة المصدرين، اهتم بها Holtzmann عام 1863م. وهي أكثر النظريّات انتشارًا، حيث تربط بين النظريّتين الأولى والثانية، فترى أن متّى ولوقا اعتمدا على إنجيل مار مرقس كل منهما على انفراد، إذ الأخير هو أقدّم الأناجيل، هذا مع وجود مصدر آخر مفقود يحوي تجميعًا لكلمات السيّد المسيح (لوجيا) يشار إليه بالحرف Q.