رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الانسان المعاصر وأزمة التواصل مع الآخر أسوأ ما في التطور الواسع النطاق لوسائل الاتصال في عالمنا، والتي يقال إنها جعلت الكون قرية صغيرة، أنها عزلت الانسان بشكل كامل عن اخيه الانسان. الثورات المتتالية، النهضة الأوروبية وما رافقها من حركة ادبية وفنية، الثورة الصناعية وما صاحبها من قيام لطبقة بورجوازية لها فكرها ومجتمعها، الثورة الفرنسية وانهيار الانظمة الملكية والثيوقراطيات، الثورة البلشفية وسيادة مارد الإلحاد، الحربان العالميتان وفقدان قيمة الانسان الذي بات يُباد كالبرغش بعشرات الآلاف، ثم ثورة الطلاب التحررية في فرنسا عام ۱٩٦٨... كل هذه وما آلت اليه من تفلت واتجار بالجنس والقيم، حوّلت العلاقات بين الناس الى آليات لا حياة فيها ولا عافية: مجرد اتجاه الى من نحتاجه أو لنا مصلحة في صحبته. أليس هذا استمراراً لسقطة آدم التي لعنت الارض وكل ما فيها فباتت الحيوانات التي كانت تألف وجهه تفرّ هاربة منه وبات عارياً يسعى بالأغطية الى شيء من الطمأنينة أو راحة البال فلا يجد لأنه فقد محبته وفقد مصدر سلامه واستقرار. لا أشاء أن انقض حاجة الانسان في مجتمعاتنا الى وسائل الاتصال، ولكن ما أود تسطيرَه أن هذه الوسائل باتت ناجحة في تستّر الانسان خلف قناع كاذب: يدّعي الانفتاح بينما هو يعتكف على أناه لعجزه عن تخطّي عقدها. الانسان المعاصر يتصل بالجميع ولكنه لا ينجح في لقائهم الشخصي. لا مجال البتة للقاء الوجوه. قد تشاهد من تعرفه على شاشة الكومبيوتر ولكنك تعجز عن ان تجلس إليه لتنظر في عينيه. تتكلم كثيراً مع الناس ولكنك نادراً ما تفتح قلبك لهم، لأنه لا يمكنك أن تأتمنهم على ما في القلب. العلاقات البشرية في مجتمعاتنا غدت هكذا سطحية هامشية. والانسان بات منغلقاً على ذاته غير قادر على تخطي حدود أنانيتها. حتى فضيلة الحب لم تنجُ من هذا الداء. الحب البشري بات ملوّثاً، حبّاً أنانياً خالياً من أي بذل إلا على صعيد القبيلة أو العائلة الصغيرة. نحن اليوم في قريتنا الكونية التي تطال أطرافها أرجاء الكون بأسره ضيّقون أكثر من اي وقت مضى، فالانفتاح الحقيقي إنما يكون في تخطّي حاجز الخطيئة الذي يعرقل الانسان. كلٌّ منّا رازح تحت أعباء آثامه منكمشٌ عليها، وإن أقرّ بها فهو يقرّ بينه وبين نفسه فقط، لأنها من "خصوصياته"، أو يعترف بها "بينه وبين الله" كما يقول. كلٌ منا يحوّل حياته الداخلية الى قدس أقداس لا يلجه أحد ولا حتى المسيح لأن الباب بات مقفلاً بالخطيئة وحب الذات. "هائنذا واقف على الباب أقرع، يقول الرب، فإن سمع احد صوتي وفتح لي أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي" (رؤ ٣:٢٠) المسيح يشاء بسر التوبة أن يكسر طوق الانعزال الذي يحيط بنا من خلال الخطايا. هو يدعونا الى أن ندخل في سر الكنيسة من جديد إذ نطرح على عتباتها آثامنا ونلج لابسين حلّة جديدة لنشارك الابن بالعجل المسمّن. فإن المؤمن حين يلتجئ الى الكاهن وينحني بعد اعتراف تحت البطرشيل، يدخل في هذا السر الذي به تنفتح القلوب على نعمة الله وعلىكنيسته، فيتصالح مع السماء ومع الناس ويصير من جديد وارثاً لفردوس آدم المفقود. الانسان يستعيد دالته لدى الله فتصير صلاته مسموعة مقبولة بل إحساناً الى الناس. يخرج من ركود الخطايا القابعة في القلب الى نور جدّة الحياة، ويلتقي مجدداً الاخوة. ولعل هذا اللقاء المحبّ خيرُ دواء وسلوة للنفس المتعبة والرازحة تحت الأحمال. لأنه كما يقول فرويد "أجمل شعور لدى الانسان هو أن يحسّ المرء بأنه محبوب ممن هو يحبّه". وهذه المحبّة إن تمكنت من تخطي الأنانية كما يذكّرنا الأب يوحنا رومانيدس، فهي تصير شفاءاً للانسان. وإن رقّت بالأكثر تستحيل إيقونة لمحبة الله التي بها يكون كل بذل وعطاء، وكل "تأنٍ ورفق" (۱كور ۱٣:٤)، حتى تصطلح العلاقات الاجتماعية بخلوّها من الريب، وتتشكل بسر التوبة كنيسة المسيح ملكوت الله على الارض. لأن الكنيسة في بعدها الانساني الأعمق، ما هي إلا كما يعرّفها القديس أفرام السرياني "جماعة الخطأة الذين يتوبون". |
|