كرازة يوحنا المعمدان بمعمودية التوبة
بحث أبائي
+ «جاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن، يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا» (لو 3: 3).
بين همهمات الواقفين المنتظرين دورهم في المعمودية، انفتحت السماء (لو 3: 21) وانشقَّت، ونزل الروح القدس على الرب يسوع، وهو في نهر الأردن.
والأردن يعني النزول. إنه ”نزول“ نهر الله، نزول بقوة. إنه الرب مُخلِّصنا، وفيه ننال معموديتنا بالماء الحقيقي والماء المُخلِّص. والمعمودية هي أيضاً «لمغفرة الخطايا» (مر 1: 4)(1).
الإيمان بالمسيح هو أعلى غاية للتوبة:إن ثمار التوبة هي في غايتها العظمى ”الإيمان بالمسيح“. وبجانبها الحياة الإنجيلية الحقَّة، وأعمال البرِّ والتقوى على أساس أنها المضادة لحياة الخطية. وأعمال البر هي الثمار اللائقة بالتوبة التي ينبغي على التائب أن يحياها(2).
والعلاَّمة أوريجانوس، يعتبر أن التوبة هي إعدادٌ لمعمودية يوحنا. اسمعه يقول:
[الصوت الصارخ في البرية، السابق للمسيح، كرز في برية النفس التي لم تكن تعرف السلام. ولم يكن في ذلك الزمان فقط؛ بل أيضاً الآن، نور بهيج وملتهب يأتي أولاً ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا، ثم يتبعه النور الحقيقي، مثلما قال يوحنا نفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يو 3: 30). فقد جاءت البشارة إلى البرية وانتشرت إلى كل الكور المحيطة بالأردن](3).
أما القديس يوحنا ذهبي الفم، فيرى أن إعداد الطريق هو أن نطلب ثمار التوبة. ففي عظاته على إنجيل القديس متى يقول:
[هكذا كتب النبي (إشعياء) أنه سوف يأتي قائلاً: «أَعِدُّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإلهنا» (إش 40: 3). حتى يوحنا نفسه قال حين جاء: «اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» (لو 3: 8)، والتي توازي «أَعدُّوا طريق الرب» (لو 3: 4). انتبهوا، أنه من خلال كلمات النبي، ومن خلال بشارته هو نفسه؛ استُعلِن الأمر نفسه. فقد جاء يوحنا صانعاً طريقاً ومُمهِّداً وليس مُعطياً العطية - أي الغفران - ولكن مُرشداً تلك النفوس التي ينبغي أن تؤمن بإله الكل](4).
إعداد الطريق لاستقبال المسيح:أما القديس كيرلس الكبير، فيُرشد أولاده في طريقهم الروحي قائلاً:
[كان يوحنا آخر الأنبياء، وقد اختير أيضاً لكي يكون رسولاً. ولأجل هذا، حيث لم يكن الرب قد أتى، قال: «أَعدُّوا طريق الرب». وما معنى ذلك؟ تعني: استعدُّوا لاستقبال أيِّ شيءٍ يريد المسيح أن يصنعه. اسحبوا قلوبكم من ظل الناموس، استبعدوا الصور الغامضة، ولا تُفكِّروا بانحراف. اصنعوا طُرُق الله مستقيمة، لأن كل طريق يؤدِّي إلى الخير هو مستقيمٌ وسويٌّ، ولكن المُعْوَجَّ يؤدِّي بمَن يسيرون فيه إلى الهلاك](5).
ويصف العلاَّمة أوريجانوس الطريق الذي يعدُّه يوحنا المعمدان بأنه في القلب، فيقول:
[«أَعدُّوا طريق الرب»، ما هو هذا الطريق الذي ينبغي أن نعدَّه للرب؟ بلا شكَّ أنه ليس طريقاً مادياً. وهل يمكن أن يَعْبُر كلمة الله مثل هذه الرحلة؟ أَلاَ ينبغي أن يُعَدَّ الطريق للرب في الداخل؟ أَلاَ ينبغي أن تُبنَى الطُرُق المستوية والسهلة في قلوبنا؟ هذا هو الطريق الذي دخل به كلمة الله. هذا هو موضع الكلمة: في أماكن القلب الإنساني](6).
مجيء الخلاص:ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أنَّ إشعياء النبي يتنبَّأ أن التغيُّر في الطبيعة يشير إلى مجيء الخلاص. اسمعه يقول:
[حينما يقول: «كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأَكَمَة ينخفض، والشعاب تصير طُرُقاً سهلة»، فإنه يُشير إلى ارتفاع المتضعين واتضاع الواثقين في أنفسهم، فغلاظة قلب الناموس تغيَّرت إلى يُسْر الإيمان. لأنه يقول لا يكون بعد تعب ومشقة، ولكن نعمة وغفران الخطايا، مُتحمِّلاً تكلفة الطريق إلى الخلاص. ثم يذكر أسباب هذه الأمور: «يُبصر كل بشرٍ خلاص الله»، ليس فقط يهود ودخلاء؛ بل كل الأرض والبحر وكل جنس البشر سوف يخلصون. ويقصد بكلمة ”الأشياء المُعْوجَّة“ كل حياتنا الفاسدة، العشَّارون والزواني، اللصوص والسَّحَرة، وكل مَن انحرف من قبل، كلهم يعودون إلى الطريق الصحيح. مثلما قال الرب يسوع نفسه: «إن العشَّارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله» (مت 21: 31)، لأنهم آمنوا](7).
لا يزال حتى الآن يعمل:ويُشير العلاَّمة أوريجانوس إلى أنَّ بشارة يوحنا المعمدان في الإعداد لمجيء المسيح ما تزال تعمل حتى الآن، فيقول:
[إني أومِن أن سرَّ يوحنا لا يزال يعمل في العالم اليوم. إن كان أحد سيؤمن بالمسيح يسوع، فإنَّ روح يوحنا وقوته تأتي أولاً إلى نفسه، و”تُعدُّ شعباً مستعدّاً للرب“، فتجعل طُرُق القلب الخشنة سهلة، وتُعدِّل طُرُق القلب](8).
أما القديس أُغسطينوس أسقف هيبُّو، فيصف ”خلاص الله“ بأنه ”مسيح الله“، فيقول:
[انتبه إلى النص: «ويُبصر كل بشرٍ خلاص الله». ليست هناك أية صعوبة أن يكون المعنى: ”ويرى كل بشر مسيح الله“. على كلٍّ، لقد رأينا المسيح في الجسد، وسوف نراه في الجسد حين يأتي مرة أخرى ليدين الأحياء والأموات.
والكتاب المقدس يحوي نصوصاً كثيرة تبيِّن أنه «خلاص الله»، خاصةً كلمات الرجل الشيخ الوقور سمعان، الذي أخذ الصبي بين يديه وقال:
«الآن، تُطلِق عبدك، يا سيِّد، حسب قولك، بسلام. لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك» (لو 2: 30،29)]