الفساد بحسب تعليم الكنيسة
منذ كتُب العهد الجديد نجد موضوع الفساد حاضراً. فيوحنا المعمدان الذي كان يعلن، بحسب نبوءة أشعيا، اقتراب ملكوت السماوات وقدوم المسيح، كان يعظ بالتوبة كل من يأتي إليه لينال المعمودية.. وها هو يجيب جباة الضرائب الذين «قالوا له: يا معلِّم، ماذا نعمل؟ فقال لهم: لا تجمعوا من الضرائب أكثر ممَّا فرض لكم» (لو 3/13). وفي الاتجاه نفسه يقول للجنود: «لا تظلموا أحداً ولا تشوا بأحد، واقنعوا بأجوركم» (لو 3/14). وفي الحالتين يمكن إجمال تعليم يوحنا لهؤلاء الموظفين بأن يتجنبوا الفساد وأن يبقوا في حدود ما تتطلبه منهم واجبات وظائفهم: الواجب كل الواجب ولا شيء أكثر من الواجب. وتوبتهم بهذا المعنى تصير قائمة في تحقيق الأمانة لواجباتهم.
يسوع ذاته، ما أن اعتمد من يوحنا، حتى واجه تجربة الفساد.. إنها التجربة الثانية التي يعرضها عليه المجرِّب بعد أن أراه جميع ممالك الدنيا ومجدها: «أعطيكَ هذا كلَّه إن سجدت لي وعبدتني» (متى 4/8-10). يمكن فهم معنى هذه التجربة بإدراك يسوع العميق لما يمثلُّه المال من سطوة على حياة البشر، تجعل منه منافساً حقيقياً لسلطة الله وإرادته الخيِّرة، فنراه يصرِّح بالقول: «لا يمكن لأحد أن يعبد ربين..» (متى 6/24). إلاَّ أنَّ يسوع لم يتردَّد في مخالطة العشَّارين مع علمه بأنَّ جباية الضرائب كان ينخرها الفساد، وذلك لأنَّه كان يؤمن بقدرة الإنسان على التوبة وتغيير أسلوب حياته جذرياً، وهذا ما تؤكده دعوته لمتى (متى 9/9-13) وقبوله دعوة زكا رئيس العشارين وتوبته (لو 19/1-10).
لكنَّ الشكل الأكثر خطراً من أشكال الفساد كما يبدو، هو ذاك الذي يظهر في قلب الجماعة الكنسيَّة وينال من أمور الإيمان ذاتها. يُخبرنا كتاب أعمال الرسل بشيء من التفصيل عن أوائل ظواهر الفساد في الجماعة المسيحيَّة الناشئة، وذلك في رواية "حنانيا وسفيرة"، حيث يعلن بطرس جسامة ما ارتكبه حنانيا، لا بناء على قيمة المال الذي اختلسه، بل على موقفه من الله: «أنتَ كذبتَ على الله لا على الناس» (رسل 5/4). إنَّ الرسالة التي ينقلها لنا أعمال الرسل بشأن الفساد، وإن تمَّ التعبير عنها من خلال أسلوب روائي، لهي بالغة الأهميَّة من الوجهة الأخلاقيَّة. ويمكننا أن نستمدَّ منها القيم الأساسيَّة التي يمكن أن نبني بواسطتها ما ندعوه اليوم "أخلاق الشفافيَّة".
كذلك تشهد رواية "سمعان الساحر" الذي حاول أن يعرض مالاً على الرسولين بطرس ويوحنا لكي يحظى بموهبة استدعاء الروح القدس بوضع الأيدي (رسل 8/8-24)، على النموذج الأول لإحدى أكثر ممارسات الفساد التي ستعاني منها الكنيسة عبر العصور (السيمونيَّة)، والتي لم تفتأ تهدِّد نقاوة حياة الجماعة المسيحيَّة ومصداقيَّة شهادتها للإنجيل. هنا أيضاً يُعلن بطرس بعنف بارز حكماً قاطعاً يتجاوز القاعدة الأخلاقيَّة، لأنَّ الأمر يمسُّ قيمة المواهب الإلهية ذاتها: «إلى جهنَّم أنتَّ ومالك، لأنَّك ظننتَ أنَّك بالمال تحصل على هبة الله!».
لقد عرفت الجماعات المسيحيَّة عبر تاريخها الطويل أشكالاً عديدة من الفساد، بعضها يتعلَّق بالمال، وبعضها بالسلطة، وبعضها بالجنس، وبعضها بحقوق الإنسان الأساسيَّة.. واللائحة طويلة. وهذا ما جعلها شيئاً فشيئاً تكوِّن مجموعة قوانينها وتنظيماتها ومجالسها الخاصَّة، التي تسمح، من حيث المبدأ على الأقل، بالانتباه إلى حالات الفساد ومعالجتها وإصلاحها. فمن الواجبات الأولى الملقاة على عاتق المؤمنين والرعاة على حدٍّ سواء واجب اليقظة والجهد المتواصلين لكي لا تصير القوانين حبراً على ورق، أو تتحوَّل المجالس واللجان (إن وجدت) إلى نوادي.. بل يبقى في الكنيسة متَّسع للتعبير عن الرأي والاعتراض والمراجعة والتقييم والاعتراف بالخطأ.. وكلُّها تضيِّق الخناق على الفساد وتحد من انتشاره أو تناميه في الجماعة المسيحيَّة.
ولا شكَّ بأنَّ الشجاعة التي تبديها الجماعات المسيحيَّة في مواجهة ظواهر الفساد الداخليَّة، سوف تجعلها أيضاً أكثر شجاعة في التصدِّي بموقف نبوي لمظاهر الفساد في المجتمع، وعلى وجه الخصوص الفساد الأكبر، الذي يصعب في أكثر الأحيان على الأفراد التعامل معه أو حتى الإشارة إليه وانتقاده. وسنعرض في ما يلي نموذجاً معاصراً لموقف كنسي من الفساد يمكن الاقتداء به.