الله يتوقّع الشّر ويُفاجأ بحدوثه
تُطلعنا الفصول الستة الأولى من سفر التكوين على عدّة قصصٍ لشّرٍ حصل من دون أن يكون متوقّعاً. ففي الفصول الثلاثة الأولى، يبدو أنّ الله خلق خليقةً حسنة. ثمّ تأتي حيّة غامضة "هي أحيل جميع حيوانات الحقول التّي صنعها الربّ الإله" (تك3/1)، وتبلبل النظام القائم. ويسقط آدم وحوّاء في التجربة. وفي اليوم التالي:"نادى الربّ الإنسان وقال له: أين أنت؟ قال: إني سمعتُ وقع خطاكَ في الجنّة فخفتُ لأنيّ عريان فاختبأتُ. قال: فمَن أعلمكَ أنّكَ عريان؟ هل أكلتَ من الشجرة التي أمرتكَ ألا تأكل منها؟..." (تك3/9-11)
يبدو من هذا الحوار أنّ الله فوجئ بعصيان آدم. لكنّه كان يتوقّع ذلك وإلاّ، لماذا منع الأكل من شجرة معرفة الخير والشر؟ (تك2/16-17). ألا نمنع ما نتوقّع احتمال حدوثه؟ أو أقلّه ما يمكنه أن يغوي؟ لذلك يمكننا القول، إنّ الله كان يتوقّع الشّر، واتخذ كافّة الإجراءات المتاحة له ليمنعه، لكنّه فوجئ بأنّه حصل. تماماً كما يربّي الأهل أولادهم تربية حسنة، ويحمونهم بشتى الوسائل من الانحراف. لكنّ هذا لا يلغي حريّة الابن في فعل الشر. فإذا فعله، يُفاجأ الأهل.
وتأتي المفاجأة الثانية في قصّة قايّين وهابيل."فقال الربّ لقايين: أين هابيل أخوك؟ قال: لا أعلم. أحارس لأخي أنا؟ فقال: ماذا صنعتَ؟ إنّ صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض" (تك4/9-10). والمفاجأة الثالثة أقسى."ورأى الربّ أنّ شرّ الإنسان قد كثُر على الأرض، وأنّ كلّ ما يتصّوره قلبه من أفكار إنماّ هو شرّ طوال يومه. فندم الربّ على أنّه صنع الإنسان على الأرض وتأسّف في قلبه.
فقال الربّ:"أمحو عن وجه الأرض الإنسان مع البهائم والزحّافات وطيور السماء...." (تك6/5-7). فالمفاجأة غير سارّة، وخيبة الأمل شديدة. إلاّ أنّ الله لم يُبِد البشرية. فقد "نال نوح حظوة في عينيّ الرب". وحافظ الله على نوحَ البار وعائلته، أملاً في خلقٍ جديد. وتتكرّر المفاجأة. فقصّة سُكرِ نوح وسلوك ابنه حام تجاهه تبيّن أنّ "الإنسانيّة الجديدة" المولودة من نوح ليست أشرف من الأجيال السابقة. فالله لم يستبدل بعملٍ فاشلٍ تحفةً ناجحة، والإنسان هوهو، خاطئ وضعيف.وتأتي أحداث برج بابل لتعيد مأساة خطيئة آدم. فالله يغيب أو يتغيّب، ليفسح المجال أمام الانسان كي يمارس حريّته. وكلما غاب الله عن الإنسان، برزت الرغبة الجامحة في قلب كلّ بشر بأن يصبح شبيهاً بالله، معه، بدونه، ضده، فيرتكب الشر.
وعندما رأى الله أنّه كلّما غاب ضلّ الإنسان، أبرم عهداً أبدياً مع إنسانيّة ناقصة وخاطئة."لن أعود إلى لعن الأرض بسبب الإنسان، لأنّ ما يتصوّره قلب الإنسان ينزع إلى الشرّ منذ حداثته" (تك8/21). منذ ذلك الحين، زال عنصر المفاجأة. وعزم الله على تشكيل الإنسان وإعادة تشكيله كما يصنع الخزّاف (إر12). وعزم على أن يأخذ الخطيئة والشر في عين الاعتبار، أثناء تشكيله هذا، وأن يُدخلها في مخطّطه الخلاصيّ. وعلى الإنسان الذّي يريد أن ينضمّ إلى مشروع الله الخلاصيّ أن يقبل بوجود الشرّ والخطيئة، لا أن يعيش في وهم الحماية الإلهيّة التي تمنع عنه المرض والألم والموت. وبفضل كشفٍ إلهيّ مدهش، يدرك بيقينٍ راسخ "أنّ آلام هذه الدنيا لا توازي المجد الذّي سيتجلّى فينا ... فقد نلنا الخلاص، ولكن في الرجاء ... وإذا كنّا نرجو ما لا نشاهده، فبالصبر ننتظره" (روم 8/18-25).