رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
العناية الإلهيّة
الأب سامي حلاق حين نرى شقاء البشر، يبدو لنا الله صامتاً ساكناً لا يتحرّك ولا يتدخّل. فأين هي إذاً العناية الإلهيّة؟ الله أب إن أوّل صفة نُطلقها على الله في قانون الايمان هي أنّه أب. إنه أب قبل أن يكون ضابطاً للكل أو خالقاً. وهو يضبط الكل ويخلق انطلاقاً من طبيعته الأزليّة، طبيعة الأب. والأب في جميع الثقافات هو المسؤول عن عيش الأسرة. إنّه يؤمّن لها ما تقتات به. ويصف يسوع الأب البشريّ ويقول إنّه يُعطي الهبات الحسنة لأولاده: الخبز والسمك والبيض. ولا يُعطي أبداً ما هو رديء كالحجر والحيّة والعقرب (لو11/11). فإذا كان الأب البشريّ يتصرّف على هذا النحو، ألا يتصرّف بطريقةٍ أسمى مَن تأخذ منه كلّ أبوّةٍ معناها وجوهرها؟ لهذا السبب نقول في الصلاة التّي تختصر جميع الصلوات: أبانا ... أعطنا خبزنا كفاف يومنا. وعلى هذا الأساس أيضاً، يُعلن يسوع على الملأ في عظته على الجبل: "لا تهتموا فتقولوا: ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ وماذا نلبس؟ ... أبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا كلّه ... لا يهمّكم أمر الغد، فالغد يهتّم بنفسه" (متى 6/31-34). إنّ هذا النصّ يثير الجدل والتساؤل بمقدار ما تثيره عبارة: "مَن لطمكَ على خدّك الأيمن فاعرض له الآخر" (متى5/39). كيف لا نهتمّ للغد وآلاف الأطفال يموتون جوعاً وعشرات الآلاف يجور عليهم الزمن، فيعيشون في ظروف لا إنسانيّة، ويفعلون أبشع الشرور؟ كيف لا نهتمّ للغد ومئات الآلاف من الأُسَر تفلِسُ نتيجة التكاليف الباهظة لعلاج أحد أفرادها ... يقول بعضهم: علينا ألاّ نفهم كلام المسيح هذا حرفيّاً. كيف نفهمه إذاً؟ فما نراه، ما نلمسه، ما نختبره واضح بيّن: إنّ الله الآب يترك الحبل على الغارب. إنّه يترك الأمور تسير على هواها، ولا يتدخّل لعمل المستحيل. صحيح أنّ الناس يكلّمونا على معجزاتٍ تحدث هنا وهناك، ولكنّها تحدث دوماً للآخرين وتُحبَسُ عناّ مع أننّا في أمسّ الحاجة إليها؟ قد يكون الله أباً، لكنّنا نشعر في محنة الألم أنّه تركنا، كما ترك البنه الوحيد يُصلَب. فما اختبره يسوع من ترك الأب يختبره كلّ إنسان، في الماضي أو في الحاضر. وخير برهانٍ على ذلك هو صراخ العبرانيّين في بلاد السبي. والمزامير تنقل لنا صدى هذا الصراخ بأمانةٍ: "قد كان لي دمعي خبزاً نهاراً وليلاً، إذ قيل لي طول يومي: أينَ إلهكَ؟" ... أقول لله صخرتي: لماذا نسيتني. ولماذا أسير بالحداد من مضايقة العدوّ؟ عند ترضّض عظامي عيّرني مضايقيّ بقولهم لي النهار كلّه: أينّ إلهك؟" (مز 42) الآب وشعبه لا يكتفي الكتاب المقدّس بالكلام على العناية الأبويّة لكلّ واحد منّا، بل يتكلّم أيضاً على رعاية الله لشعبه. فحين نقرأ العهد القديم، تظهر لنا صورة إلهٍ يتحكّم بالتاريخ، فيعاقب الشعبَ ابنَه أو يخلّصه بحسب سلوك هذا الشعب. ويبدو أنّ كلّ ما يحدث يصدر من الله. الموت كما الحياة. فنبوخذنصّر الذي أتى ليدمّر أورشليم ويسبي الشعب هو مبعوث من قبل الله. وبعد 70 سنة، يجسّد قورش رحمة الأب ورعايته فيعيد اليهود إلى أرضهم. فهل تاريخنا، تاريخ البشرية، لعبة في يد الله؟ لا! فالانسان لم يفقد قطّ قدرته على ارتكاب الخطيئة أو التوبة. ومع ذلك، ما من شيءٍ يتّم بدون علم الله. ومن هذا المبدأ ينطلق الاحتجاج. احتجاج ضحايا الزلازل، واحتجاج أهل الطفل المُتألّم من المرض العُضال. كم من الناس فقدوا إيمانهم لأنهم لم يستطعوا الجمع بين فكرة الإله المحب القادر على كلّ شيء، وأحداث الحياة التّي تسقط فيها آلاف الضحايا الأبرياء؟ أيّ إلهٍ هذا، أيّ أبٍ هذا؟ يرى أبناءه المسيحيين يُذبَحون في موجات الاضطهاد ولا يفعل شيئاً؟ وإذا كانت هذه المجازر عقاباً، أيّ إثمٍ عظبمٍ ارتكبه المسيحيّون لينالوا عقاباً كهذا؟ إنّ هذه التساؤلات ليست جديدة ولا بنت اليوم أو الأمس. فكاتب سفر الجامعة يلاحظ أنّ مصير البّار والشّرير واحد. وسفر أيّوب صرخة احتجاج على ألم البار، صرخة أمام معضلة لن تجد لها حلاً إلاّ في آخر السفر. وبين الصرخة والإجابة، يقوم السفر بمسح كلّ تصّوراتنا الخاطئة عن الله. فهو أب ولكنّ أبوّته تختلف عن معرفتنا لها. إنّه محبّة لكنّ محبتّه تفوق إدراكنا. كلام فارغ ولكن! " يا بني تحمّل هذا المرض فالله يُجرّبك به ليمتحن محبتك له". " هل مات ابنكما غرقاً، لقد دعاه الله إليه". هل أفلستَ؟ إنّ الله يريد أن يُجرّدكَ من الخيرات الأرضية ليبيّن لك بطلان هذه الدنيا". " هل صليتِ بكل قواكِ كي لا تحلّ بكِ هذه المصيبة، ومع ذلك حلّت بكِ؟ لا بدّ وأنكِ لم تُحسني الصلاة". كلّنا سمعنا أقوالاً كهذه وغيرها من الجمل التّي تتكلّم على العقاب الإلهي. إلاّ أنّ هذه العبارات تتضمّن حكمةً سليمة، حتىّ وإن تمّ التعبير عنها بطريقةٍ خاطئة. والحكمة هي أنّك لستَ وحدك في معاناتكَ. فعندما نقول لشخصٍ: لا علاقة لله بما تعانيه، يشعر بأنّه في عزلةٍ قاتلة لا تطاق. فحين يقول انسان: إنّ الله يعاقبني، يعلن بين السطور أنّ الله هنا، حاضر في ألمي، ويتعامل معي. إنّ الكتاب المقدّس يكشف لنا سرّ هذا اللغز، إي الألم والمعاناة، من خلال الضبابيّة التي نعيشها في أفكارنا ونظرتنا الواهمة إلى الأمور، حتّى يصل بنا إلى الابن الذي يعلن عن نفسه ويقول: "أنا هو الحق". وعلى الرغم من إعلان الابن هذا، فإننا لم نبلغ الحقيقة بعدُ. صحيح أنها أعطيَت لنا بالمسيح، لكن المسيح ظلّ غامضاً بالنسبة إلينا، ولا نستطيع أن ننظر إليه" كما هو" (1يو 3/2). لذلك يقودنا الروح إلى الحق (يو 16/13). وبانتظار أن يساعدنا الروح على اكتشاف الحقيقة، يحقّ لنا، بل لا بدّ لنا، من طرح تساؤلاتنا حول صمت الله وسكونه أمام بؤسنا وشقائنا. كيف لا يغيث الضابط الكل، الكلّي المحبة، إنساناً في حالة خطر؟ أين هو ذلك الأب الذي يعطي الخبز لا الحجر والّذي لا يجعل سائله ينتظر بل يسرع إلى إنصافه (لو 18/7-8 )؟ فالمسألة مهمّة لأنّها تخصّ علاقة الله بالتاريخ وبالعالم وبكلّ واحد منّا. وكلّ هذا ينصبّ في اللاهوت المسيحيّ تحت عنوان: "العناية الإلهية". العناية الإلهية والخلق إنّ العناية الإلهيّة لا تقودنا إلى البداية بل إلى البدايات التّي تصف علاقتنا بالآب. لماذا نقول: "بدايات"؟ لأنّ كلّ ما يفعله الله لأجلنا يصحِّح ويجسِّد يوماً بعد يوم العبارة البدئية التي قالها الله لكلّ واحدٍ منّا: "كن". فأبوّة الله تاريخ. ومن هنا يأتي الالتباس، لأننا لا نستطيع أن نقول أنّ ما يحصل هو من العناية الإلهيّة، أي تمّ بمشيئة الله وفعله. فالله غير مسؤول عن أيّ مسبّب للألم أو الموت. بل لنقل إنّ آلامنا وموتنا تمسّ الله. فهو ضحية، سواء لشرّ سببته آليّة عمياء أو لشرّ ناجمٍ عن فساد البشر. ومع ذلك، يظلّ مصدر الشرّ غامضاً، وكلّ محاولةٍ لشرحه تظلّ ناقصة، لكننا نؤمن بأنّ المحبّة بريئة من "سرّ الظلم". فحين ينجرح قلب انسان ينجرح قلب الله. من جهةٍ أخرى، حين خلق الله العالم، وضع بين يديّ الإنسان كلّ شيء وقال له: "املأوا الأرض وأخضعوها" (تك 1/28). فكلّ شيءٍ يخضع إذاً لحرّيّتنا. وعناية الله تعمل بوساطة الانسان. فعلينا نحن أن نسود ونسيطر على عناصر الشّر والموت. بمعنى آخر، حين خلقنا الله، خلق إنساناً خالقاً. كلّ خير يأتي منه يمرّ من خلالنا إلى الآخرين وإلى الخليقة. وتتمّ الأمور وكأنّ الله لا يتدخّل في عالمنا، وكأنّ تدخلّه مرهون باختيارات الحريّة التي منحنا إيّاها. حين نسعى إلى العناية باختياراتنا الاجتماعيّة والعلاقيّة ... يكون الله عناية. وحين لا نسعى إلى العناية، نمنع الله من أن يكون عناية. فعلى مقولة: المحبة الأبويّة بين يديّ، ومن خلالي أراد آخر أن تكون، يمكننا الإجابة: من خلالي، هناك آخر سيعتني بكَ. ما الذي يعطيه الله؟ لنعد إلى مسألة الأب الّذي يعطي ابنه رغيفاً أو سمكة (لو 11/9-13). هذا المثل تطبيق لصلاة الأبانا. إذا كان الأب الأرضي يعطي الخبز لا الحجر وسمكة لا حيّة ... كم بالحري يعطي الأب السماوي! ما هو هذا الكَم؟ إنّه ليس زيادة في عدد أرغفة الخبز أو كميّة السمك. فعطاء الله لا يهتمّ باحتياجاتنا المادية الدنيويّة لأن أبانا الأرضيّ هو الذي يتكفّل بذلك؛ أبانا الجسديّ وكلّ مَن يعتني بنا ومن خلالهم تأتينا عناية الآب السماوي. أما ما يعطينا أبونا السماويّ إيّاه مباشرة وبدون وسيط فهو الروح القدس. "فما أولى أباكم السماويّ بأن يمنح سائليه الرّوح القدس" (لو 11/13). بمعنى آخر، الله يعطي ذاته، لأنّ الروح القدس هو روح الله. إنّه يعطي الروح المحرّر من الشرّير؛ روح المحبّة. فالروح هو الخبز الواهب الحياة الذّي يتجدّد يوميّاً. وهو السمكة التي ترمز إلى المسيح في الإنجيل كما في زمن الكنيسة الأولى. وهو البيضة التي ترمز إلى الأصل وإلى المبدأ. فحين يعطي الله الروح يعطي نفسه بكاملها لأن الله روح. وما خلا ذلك فهو زيادة. "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا كلّه يُزاد لكم" (متى1/33). يبيّن النصّ الذي ذكرناه من إنجيل لوقا أنّه مهما سألنا الله من أمور، فهو يجيبنا إجابة واحدة: يعطينا روحه. وبالتالي نستنتج ونقول: إنّ العناية الإلهيّة هي إعطاء الروح مراراً وتكراراً. تكراراً لأنّ هذه العطيّة هي كالمنّ، عليها أن تتكرّر بلا انقطاع. فالروح لا يمتلك نفسه، إنّه يهب ذاته في كلّ لحظة، وفي كلّ لحظة علينا أن نستقبله. الروح كالمَن، لا يمكن تخزينه كما نخزّن ممتلكاتنا، فهو للاستهلاك اليوميّ. إذا كان الأمر كذلك، لماذا نسأل الله الصحّة والعمل والنجاح ...؟ اسألوا تعطوا " لا تكونوا في همّ أبداً، بل ارفعوا حاجاتكم إلى الله كلّما صلّيتم وابتهلتم وحمدتم" (غل 4/6). بمعنى آخر، عبّروا عما يجيش في داخلكم من مشاعر حتّى وإن كان الله يعلم ما أنتم بحاجة إليه. قولوا له ما تريدونه. إنّكم لن تخبروه أمراً جديداً، ولكنّكم بكلامكم هكذا تقرّون بأنّه مصدر كلّ خير. وما هي خلاصة ما نطلبه؟ أن نعيش، أن نعيش في حال أفضل، أن نعيش ملء الحياة. ونحن نسأل المحبّة نفسها أن تهبنا ذلك، متخلّين أمام الآب عن كلّ ما فينا من غضب وعنف وطموح وطمع وحتّى عن كلّ ما لدينا من احتياج. علينا أن نكون عراة أمام الآب. وكلّ موقف يخالف ذلك هو رياء. ويستجيب الآب لطلباتنا فيمنحنا الروح القدس. إنّه لن يتدخّل بطريقة معجزيّة ليحرّك المقود كي نتفادى حادث سيارة. وسيستمرّ المستبّد في استبداده، ولن تختفي المجاعة ولن يزول الظلم. إلاّ أنّ المصلّي ينال روحاً بحسب احتياجه. روح يجعلنا قادرين على التعامل مع حياة طويلة أو قصيرة، صحّة أو مرض، نجاح أو إخفاق ... فعمل الروح لا يقتصر على تدبير الأمر، بل استعمال الأوضاع الكارثيّة التّي نجد أنفسنا فيها كي نعيش انطلاقاً منها محبّة أعظم، انطلاقاً من وضعنا وحالنا، بما فينا من قوّة وضعف. فالروح يُعطى لنا كي نبني أنفسنا أكثر فأكثر لنكون على صورة الله ومثاله. فلننظر إلى المسيح القائم من بين الأموات. فقد استعمل كلّ شرّ الإنسان ووحشيّته وكبرياءه ونزواته وعماه ... ليحعل المحبّة التي تحرّرنا برّاقة. إنّه محرّرنا. حتىّ الموت أزاحه فبرزت الحياة. لم يتدخّل الآب ليوقف كارثة الصليب. بل نُبِذَ هو بأبوّته. لكنّ المحبّة أقوى من الموت، والعناية الإلهية قيامة |
16 - 08 - 2014, 06:27 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| مشرفة |::..
|
رد: العناية الإلهيّة
|
||||
16 - 08 - 2014, 06:53 AM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: العناية الإلهيّة
شكرا على المرور
|
||||
|