رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تجسد صاحب الصورة _ أثناسيوس تجسد صاحب الصورة القديس أثناسيوس الرسولي إن نعمة مماثلة الصورة الإلهية كانت كافية في حد ذاتها لكي تجعلنا نعرف الله الكلمة، ونعرف الآب بواسطته. غير أن الله إذ كان يعرف ضعف البشر، وضع في اعتباره أيضًا إهمالهم لمعرفة الله حتى اذا لم يهتّموا أن يعرفوا الله من تلقاء أنفسهم استطاعوا بواسطة المخلوقات أن يتجنبوا الجهل بخالقها. ولأن إهمال البشر انحدر قليلاً قليلاً نحو السُفليات فقد أعدّ الله مرة أخرى علاجًا لضعفهم هذا، فأرسل لهم ناموسًا وأنبياءً معروفين لديهم، حتى أنهم إذا لم يرفعوا عيونهم إلى السماء ليعرفوا الخالق استطاعوا أن يتعلّموا (عن الله) ممّن يعيشون بينهم، وذلك لأن البشر يستطيعون أن يتعلموا من البشر أمثالهم عن الأمور العليا بطريقة مباشرة. وهكذا كان متاحًا لهم إذا رفعوا عيونهم إلى عظمة السماء وأدركوا تناسق الخليقة أن يعرفوا مدبرها كلمة الآب، الذي بتدبيره لكل الأشياء يعرِّف الآب للجميع، وهو الذى يحرِّك كل الأشياء لهذه الغاية عينها حتى يستطيع الجميع أن يعرفوا الله بواسطته. أو لو صعب عليهم هذا لكان في مقدورهم على الأقل أن يلتقوا بالرجال القديسين، وبواسطتهم أن يعرفوا الله خالق الكل، أبا المسيح، وأن عبادة الأوثان هي كفر بالله ومملوءة بكل جحود وفساد. أو كان متيسرًا لهم بمعرفتهم للناموس أن يكّفوا عن كل تعدٍ. وأن يعيشوا حياة الفضيلة لأن الناموس لم يكن فقط لليهود، ولا أُرسِل الأنبياء إلى اليهود فقط. ولكن، وإن كانوا قد أُرسِلوا لليهود ومن اليهود اضطهدوا إلاّ أنهم كانوا معلّمين مقدسين للمسكونة كلها، يُعلّمون عن معرفة الله وعن سلوك النفس. وبالرغم من عِظمْ صلاح الله ومحبته للبشر فإن البشر إذ انغلبوا من شهواتهم الزائلة ومن الضلالات والغوايات التى أرسلتها الشياطين فإنهم لم يقبلوا الحق بل ثقّلوا أنفسهم بالشرور والخطايا إلى الحد الذي يجعلهم لا يظهرون بعد كخلائق عاقلة، بل من طريقة تصرفاتهم يُحسبون مجردين من العقل. وإذ صار البشر هكذا كالحيوانات غير العاقلة، وسادت غواية الشيطان فى كل مكان حتى حُجِبت معرفة الإله الحقيقي، فما الذى كان على الله أن يفعله؟ أيصمت أمام هذا الضلال العظيم ويَدَع البشر يضلون بتأثير الشيطان ولا يعرفون الله؟ وما هي الفائدة من خلق الإنسان أصلاً على صورة الله؟ كان من الأفضل له لو أنه خُلق مثل مخلوق غير عاقل من أن يُخلق عاقلاً ثم يعيش كالحيوانات غير العاقلة. أو هل كانت هناك ضرورة على الإطلاق أن يُعطَى فكرة عن الله منذ البداية؟ لأنه إن كان حتى الآن هو غير جدير أن ينالها، فكان الأولى ألاّ تُعطى له من البداية. وما الفائدة التى تعود على الله الذي خلقهم وكيف يتمجّد إن كان البشر الذين خلقهم لا يعبدونه بل يظنون أن آلهة أخرى هي التي خلقتهم؟ لأنه بهذا يظهر أن الله قد خَلَقَهم لا لنفسه بل للآخرين. ومرة أخرى نقول: أي ملك، وهو مجرد إنسان بشري، إذا امتلك لنفسه بلادًا يترك مواطنيه لآخرين يستعبدونهم؟ وهو لا يدعهم يلتجئون لغيره، لكنه ينذرهم برسائله ثم يُرسل إليهم أصدقاءه مرارًا، وإن اقتضى الأمر يذهب اليهم بشخصه، لكى يوبخهم بحضوره، كآخر وسيلة يلجأ إليها. وكل ذلك لكى لا يصيروا خدامًا لغيره فيذهب عمله هباءً. أفلا يشفق الله بالأولى على خليقته كى لا تضل عنه وتعبد الأشياء التي لا وجود لها، وبالأكثر عندما يظهر أن هذه الضلالة هي سبب هلاكهم وخرابهم؟ وليس لائقًا أن يهلك هؤلاء الذين قد كانوا مرّة شركاء في صورة الله. إذن فما هو الذى كان ممكنًا أن يفعله الله؟ وماذا كان يمكن أن يتم سوى تجديد الخليقة التي وُجدت على صورة الله، مرّة أخرى، ولكي يستطيع البشر أن يعرفوه مرّة أخرى؟ ولكن كيف كان ممكنًا لهذا الأمر أن يحدث إلاّ بحضور نفس صورة الله ـ مخلّصنا يسوع المسيح؟ كان ذلك الأمر مستحيلاً أن يتم بواسطة البشر لأنهم هم أيضًا خُلِقوا على مثال تلك الصورة.(وليس هم الصورة نفسها)، ولا أيضًا بواسطة الملائكة لأنهم ليسوا صورًا (لله) ولهذا أتى كلمة الله بذاته لكي يستطيع ـ وهو صورة الآب ـ أن يجدّد خلقة الإنسان، على مثال الصورة. وإضافة إلى ذلك فهذا لم يكن ممكنًا أن يتم أيضًا دون أن يُباد الموت والفساد. ولهذا فقد كان من اللائق أن يأخذ جسدًا قابلاً للموت حتى يمكن أن يُبيد فيه الموت ويجدّد خلقة البشر الذي خلقوا على صورته. إذن فلم يكن كفؤًا لسد هذه الحاجة سوى صورة الآب. وكما أنه لو كانت هناك صورة لشخص مرسومة على قماش مثبّت على لوحة خشبية وتلطّخت هذه الصورة من الخارج بالأقذار، مما أدى إلى اختفاء ملامحها، ففي هذه الحالة لابد من حضور صاحب الصورة نفسه ثانية لكي يمكن إعادة تجديد الصورة على نفس قماش اللوحة، فلا يلقى بالقماش، لأن صورته رسمت عليه ، بل يُجدِّد الرسم عليه مرّة أخرى. وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كلّي القداسة ابن الآب، إذ هو صورة الآب، لكى يجدّد الإنسان الذي خُلِق مرة على صورته، ويخلّص ما قد هلك بمغفرة الخطايا، كما يقول هو في الأناجيل "جئت لكي أطلب وأخلّص ما قد هلك". ولأجل هذا أيضًا قال لليهود " إن كان أحد لا يولد ثانية" وهو لا يقصد بهذا ـ كما ظنوا ـ الولادة من امرأة، بل قصد التحدث عن إعادة ميلاد النفس وتجديد خلقتها بحسب الصورة . ولكن إن كانت العبادات الوثنية والمعتقدات الإلحادية قد سيطرت على المسكونة، وإن كانت معرفة الله قد أُخفيت، فمن ذا الذي كان قادرًا أن يقوم بتعليم المسكونة عن الآب؟ وإن قال أحد إن هذه هى مهمة إنسان أجبناه أنه لم يكن في استطاعة إنسان أن يطوف المسكونة كلها وليس من طبيعته أن تكون لديه القدرة على الركض لمثل هذه المسافات الشاسعة، ولا هو يستطيع أن يدّعي القدرة على القيام بهذا العمل. كما أن البشر لا يستطيعون من تلقاء أنفسهم أن يقاوموا غواية الأرواح الشريرة وحيلها. لأنه طالما أن الجميع ضلوا واضطربت نفوسهم بسبب غواية الأرواح الشريرة وأباطيل الأوثان فكيف كان ممكنًا لهم أن يغيّروا نفوس البشر (الآخرين) وعقولهم وهم أنفسهم عاجزون عن رؤية النفس والعقل؟ وكيف يمكن لأى كائن أن يغيّر النفس وهو لا يراها أو يعرفها؟ وقد يقول أحد إن الخليقة كانت كافية. لكن لو كانت الخليقة كافية لما حدثت كل هذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلال عن الله. فإلى مَنْ إذن كانت الحاجة الاّ إلى كلمة الله الذي يبصر (ويعرف) النفس والعقل، وهو المحرك لكل ما في الخليقة، والتي من خلالها يجعل الآب معروفًا؟ لأن ذلك الذى ـ بأعمال عنايته وتدبيره لكل الأشياء ـ يعلّم عن الآب هو الذى يستطيع أيضًا أن يجدّد ذلك التعليم عينه. وكيف كان ممكنًا أن يحدث هذا؟ ربما قال امرء إن هذا كان ممكنًا أن يحدث بنفس الطريقة السابقة، حتى أنه مرة أخرى ـ عن طريق أعمال الخليقة ـ يمكن أن يعلن معرفة الآب. لكن هذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة، وبالتأكيد هى غير مضمونة، لأن البشر قد أهملوها سابقًا، بل أنهم لم يعودوا يرفعون أعينهم إلى فوق بل صاروا يشخصون إلى أسفل. ولهذا كان من الصواب، إذ أراد منفعة البشر، أن يأتى الينا كإنسان آخذًا لنفسه جسدًا شبيهًا بجسدهم من أسفل. حتى يستطيع الذين لا يريدون أن يعترفوا به، من خلال أعمال عنايته وسلطانه على كل الأشياء، أن يبصروا الأعمال التي عملها بجسده ـ هنا على الأرض ـ ويعرفوا كلمة الله الحال في الجسد ومن خلال الكلمة المتجسد يعرفون الآب. وكما أن المعلّم الصالح، الذي يعتني بتلاميذه، إذ يرى أن بعضًا منهم لا يستفيد من العلوم التي تَسموا فوق إدراكهم، فإنه يتنازل إلى مستواهم ويعلّمهم أمورًا أبسط، هكذا فعل كلمة الله كما يقول بولس " إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة". ولأن البشر قد تركوا التأمل في الله وانحطت نظراتهم إلى أسفل كأنهم قد غاصوا في الأعماق باحثين عن الله في عالم الحسيّات، صانعين لأنفسهم آلهة من البشر المائتين ومن الشياطين، لهذا فإن مُحّب البشر ومخلّص الجميع كلمة الله أخذ لنفسه جسدًا ومشى كإنسان بين البشر، وجذب أحاسيس كل البشر نحو نفسه، لكي يستطيع أولئك الذين يظنون أن الله له جسد مادى، أن يدركوا الحق عن طريق الأفعال التي يعملها الرب بواسطة جسده، وعن طريقه يعرفون الآب. ولأنهم بشر، ويفهمون كل شيء بطريقة بشرية، فعندما يستخدمون إحساساتهم الجسدية لتفسير هذه الأفعال ويحاولون فهمها بدقة فإنهم يرون أنفسهم قد قوبلوا في منتصف الطريق، وهكذا يتعلمون الحق من كل ناحية. فإن نظروا إلى الخليقة وعبدوها عن خوف فإنهم يرون مع ذلك أنها تعترف بالمسيح ربًا. وإن اتجهوا بأفكارهم إلى البشر، ظانين أنهم آلهة وجدوا ـ رغم ذلك ـ أن أعمال المخلّص إن قورنت بأعمال البشر فإنها تُظهره هو وحده أنه ابن الله دون سائر البشر، لأنه لم يقم بينهم قط مَنْ استطاع أن يعمل الأعمال التي عملها كلمة الله. أو إن انحرفوا وراء الأرواح الشريرة، فعندما يرون الكلمة يطردها يجب أن يدركوا أن كلمة الله وحده هو الله وأن تلك الأرواح ليست آلهة. أو إن كانت عقولهم قد هبطت إلى الأموات، فعبدوا الأبطال والآلهة التى تحدّث عنها شعراؤهم، فإنهم بعد أن رأوا قيامة المخلّص فيجب عليهم أن يعترفوا أن تلك الآلهة كاذبة، وأن الرب وحده هو الإله الحق، كلمة الآب، وهو الذي يسود على الموت أيضًا. ولأجل هذا السبب وُلِد وظهر كإنسان، ومات، وقام. وهو قد أظهر بأعماله التي غطّت على أعمال كل من سبقوه من البشر، أن أعمالهم ضعيفة. وحتى إذا انحرفوا إلى أية ناحية فإنه يستردهم من هناك ويعلّمهم عن أبيه الحقيقي، كما يقول عن نفسه: " أنا قد جئت لكى أطلب وأخلّص ما قد هلك". |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
لا تحسد صاحب الذاكرة القوية |
تجسد الكلمة _ أثناسيوس الرسولي |
من صاحب الصورة |
تجسد الكلمة - البابا أثناسيوس الرسولى |
عرض مختصر لكتاب تجسد الكلمة للقديس أثناسيوس الرسولي |