نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح
س3: كيف كانت حياة داروين؟ وكيف أنكر ثبات الأنواع، ونظرية الخلق الإلهي؟
ج: وُلِد شارلز روبرت داروين في 12 فبراير 1809م من أب طبيب وأم من أسرة غنية، وعندما دخل المدرسة كان يهتم بالصيد واقتناص الفئران ومطاردة الكلاب، وجمع الأصداف والأحياء البحرية والحشرات والطيور، وكان شغوفًا بالتجارب الكيميائية مما أثر في دراسته، فاتهمه مدرسوه بأن متبلد الذهن، وعندما ألحقه والده بكلية الطب باسكتلندا ورأى غرف العمليات وجثث الموتى كَرِه الكلية وتركها بعد عامين، فأرسله والده إلى كلية اللاهوت في كامبريدج في أكتوبر 1827م فحصل على المؤهل بعد ثلاث سنوات إكرامًا لوالده، وقال عن هذه السنوات أنها كانت ضياعًا للوقت، وعشق داروين دراسة التاريخ الطبيعي، والتصق بعالِم النبات "جون هنسلو" الذي ذكَّاه ليصحب سفينة الأبحاث البحرية " بيجل " التي أقلعت في 27 ديسمبر 1831م إلى جنوب المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي لمدة خمس سنوات، واشتغل داروين بجمع عظام الحيوانات وأحضرها إلى إنجلترا، وقد انتهت هذه الرحلة في 2 أكتوبر 1836م.
وقد أمضى داروين السنوات الطويلة في بحث النباتات والحيوانات وعظامها، وانتهى إلى نظرية "الانتخاب الطبيعي" Natural Selection أو " البقاء للأصلح " Survival of the fittest فالكائنات التي استطاعت أن تتكيف تلقائيًا مع البيئة هي التي استمرت وعاشت وتكاثرت. أما الكائنات التي فشلت في التوافق مع البيئة فقد ماتت وانقرضت، وعلى مدار ملايين السنين تطوَّرت الأنواع الأدنى، وأن الإنسان هو ثمرة تطوُّر الأنواع الأدنى.
وقد تأثر داروين بالقس الإنجيلي توماس مالثوس الذي قال أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية (2 - 4 - 8 - 16 - 32.. إلخ) أما الغذاء فأنه يتزايد بمتوالية عددية (2 - 4 - 6 - 8 - 1... إلخ) مما يقود للصراع من أجل البقاء، ولذلك نادى القس مالثوس بقانون الفقراء اللاإنساني، حيث قال " لا يستحق البقاء إلاَّ من هم أقدر على الإنتاج. أما أولئك الذين وهبتهم الطبيعة حظًا أدنى لهم أجدر بالهلاك والاختفاء " وأعتبر أن موت الفقراء من الجوع يعتبر قضاء وتدبير إلهي، وبهذا برَّر القس مالثوس الثراء الفاحش ولم يتراءف على الفقراء، وعندما قامت الثورة الفرنسية ونادت بالإخاء والمساواة والحرية هاجمها مالثوس معتبرًا أن هذه أمور خيالية، ونتيجة أفكار مالثوس أوصت بعض الطبقات الحاكمة في أوربا بإهمال الفقراء وتركهم فريسة للجوع والمرض حتى يتخلص منهم المجتمع. بل أجبرت إنجلترا الأطفال في سن الثامنة والتاسعة على العمل لمدة ست ساعات يوميًا في مناجم الفحم في ظروف صحية سيئة مما تسبب في هلاك الآلاف منهم.
وطبق " داروين " فكر " مالثوس " وهو " الصراع من أجل البقاء " على المجتمع الحيواني، وتوصل إلى فكرة الانتقاء الطبيعي، فالطبيعة تختار الأصلح والأقوى للبقاء على حساب الضعفاء، وقال داروين رغم أن التكاثر يتم بمعدل كبير فإن الصراع من أجل البقاء هو الذي يضمن لجزء فقط من هذا النسل البقاء بينما يهلك الجزء الآخر، وبذلك ظهرت نظرية النشوء والارتقاء. وأطلق " هيربرت سبنسر " صديق داروين على نظرية الانتقاء الطبيعية " البقاء للأصلح " وقَبِل داروين هذا الاصطلاح، واعترض على القائلين بأن الله خلق الطيور الجميلة والأسماك البديعة، وأرجع هذا للانتقاء الجنسي، فالذكور القوية الجميلة من الطيور والحيوانات هي التي تستأثر بالإناث وتنجب جيلًا قويًا، أما الذكور الضعيفة فمصيرها للإنقراض.
ورغم أن داروين ألَّف أكثر من عشرة كتب، ولكن كتابه " أصل الأنواع" The Origin of Species الذي أصدره سنة 1859م قد أثار ضجة كبيرة، وقد طبع منه 1250 نسخة، وفي اليوم الأول لصدور الكتاب نفذت جميع نسخه، رغم أن النسخة كانت تقع في 490 صفحة، وهذا يوضح مدى تجاوب المجتمع حينذاك مع فكر داروين.
وقد أنكر داروين في كتابه هذا ثبات الأنواع، أي أن الله خلق كل نوع منفصلًا عن الآخر كقول سفر التكوين " وقال الله لتنبت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بزره فيه على الأرض. وكان كذلك. فأخرجت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه.. فخلق الله التنانين العظام كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 11، 12، 21).
بل أن داروين قال أن لله لم يخلق النباتات ولا الأسماك ولا الطيور ولا الحيوانات ولا الإنسان، ولا أي كائن حي، بل كل ما فعله هو أنه أبدع جرثومة واحدة، وهذه الجرثومة أخذت تتفرع وتتنوع عبر ملايين السنين، وبذلك نسب داروين خلقة الكائنات الحية للطبيعة قائلًا " الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق" (1) لقد أنكرت نظرية التطور حقيقة " الله خالق كل شيء " وحقيقة أن الله خلق جميع الأنواع كما نراها اليوم.
وأقامت آراء داروين العالم ولم تقعده، ففي مؤتمر تقدم العلوم البريطاني بأكسفورد دارت مناقشة حادة بين " هاكسلي " مؤيد داروين، والذي يعتقد أن الإنسان سليل القردة وبين "صموئيل ولبرفورس" أسقف أكسفورد فسأل ولبرفورس هاكسلي قائلًا: هل يسمح السيد هاكسلي أن يخبرنا: هل كان القرد جده لأمه أو لأبيه؟ فاحتد هاكسلي عليه، وختم احتداده بقوله " على أية حال فإني أُفضل أيها السيد أن يكون القرد جدًا من أجدادي عن أن يكون جدي أسقفًا مثلك" (2) (ومن المعروف أن الأسقف الكاثوليكي لا يتزوج، ولكن هاكسلي هنا يتهم الأسقف لبروفورس اتهام غير مباشر بالانحلال الخلقي) ولوَّح " متزوري " ربان السفينة " بيجل " بالإنجيل وسط القاعة لاعنًا اليوم الأسود الذي وافق فيه أن يحمل داروين على ظهر سفينته.
وقد اعتزل داروين في أواخر حياته البحث، وتفرغ لكتابة مذكراته، وقالوا عنه أنه ظل متمسكًا بعقيدته المسيحية، شغوفًا بقراءة الكتاب المقدَّس، حتى أن " الليدي هوب " إحدى شريفات إنجلترا عندما التقت به وجدته يقرأ الرسالة إلى العبرانيين، وتقول الليدي هوب " فلما دخلت عليه وجدته جالسًا على فراشه.. وكان يشخص ببصره إلى الغابات وحقول الحنطة، فسرَّ عندما دخلت عليه وأشار بيده الواحدة إلى النافذة التي كان ينظر منها إلى ذلك المنظر البديع، بينما كان يمسك بيده الأخرى الكتاب المقدَّس الذي كان يطالع فيه على الدوام مدة ملازمته الفراش، فلما جلست بجانب فراشه ابتدرته بالسؤال ماذا تقرأ يا أستاذ؟ فأجابني: العبرانيين وهو السفر الملوكي، ألا ترينه ملوكيًا وعظيمًا بحق؟ ثم وضع إصبعه على بعض الأعداد وأخذ يقرأ ويشرح، فأشرت إلى بعض أفكار الناس عن الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، فظهر عليه الملل والضجر وحرك أصابعه بسرعة وانفعال، وقال بصوت الحزين الآسف {لما كنت صغيرًا لم يكن لي فكر خاص، فنبذت عني كل المباحثات والأسئلة والظنون وكنت أتعجب كل الوقت من كل شيء، ولزيادة دهشتي انطلقت أفكاري هذه كالنار بين الناس وسرعان ما كونوا منها دينًا غير ديني} ثم صمت ونطق بجمل مختصرة عن قداسة الله وعظمة الكتاب المقدَّس وهو ينظر إلى الكتاب الذي بيده ويشير إليه" (3). ثم قال داروين لليدي هوب وهو يشير إلى الحديقة: إنني أملك بيتًا صيفيًا، فأرغب إليك من كل قلبي أن تذهبي إليه، وتعقدي اجتماعا دينيًا لأني أعرف أنك تعقدين اجتماعات دينية في القرى لقراءة الكتاب المقدَّس، فآمل أنك غدًا بعد الظهر تعقدين اجتماعا للعمال الذين يشتغلون هناك، وعندما سألته: هل أخاطبهم عن.. قاطعها قائلًا: يسوع المسيح وعن خلاصه. أليس هذا أفضل موضوع، وطلب منها أن ترتل معهم على الموسيقى، وقال: إذا ابتدأت بالاجتماع الساعة الثالثة بعد الظهر، فإن هذه النافذة ستكون مفتوحة، وتأكدي إني أشترك معكم في التراتيل (راجع الإخاء والسلم بين الدين والعلم ص 60، 61).
ومات داروين يوم 19 أبريل 1882م، وفي 24 أبريل شُيعت جنازته في موكب ضخم من المؤدين والمعارضين، وحمل جثمانه عشرة من كبار العلماء منهم اثنان من العائلة الملكية، ودُفن في مقبرة الخالدين بكنيسة وستمنسر بجوار إسحق نيوتن، وبينما امتدحه الكثيرون، زمَّه الآخرون، وقال عند الدكتور موريس بوكاي، الذي طالما هاجم الكتاب المقدَّس " كان داروين دائمًا وثنًا من أوثان الترسانة الإلحادية، كان دائم الاستعداد لدعم أية أفكار تدعم ما يذهبون إليه" (4).
وذهب الدارونيون إلى أكثر ما ذهب إليه هو، وأصبحوا ملكيّين أكثر من الملك، فيقارن الدكتور كمال شرقاوي غزالي بين داروين وأتباعه قائلًا " ولم يفقد داروين نفسه في سبيل نظرية التطوَّر، ويتنحى عن عقيدته الأصلية المسيحية، كما فعل كثيرون مما أُعجبوا وفتنوا بنظريته.. كان البعض من المفتونين بسحر النظرية يساهمون في تفسير بعض الأمور المتعلقة بها، فعملوا على إدماج الفروض العلمية في هيئة دين، ومن هنا نمت شجرة الكُفر والإلحاد، واستهوى ذلك الكثيرين ليستظلوا بظلها أمثال أبسن، وويلز، وبرجسون، وبرناردشو" (5).
س4: كيف أثرت نظرية داروين على الإيمان بالله، والكتاب المقدَّس، وحياة الإنسان ككل؟
ج: كان لنظرية داروين تأثيرها السلبي الشديد، فجنحت بالإنسان نحو الإلحاد، وطعنت في الوحي الإلهي، وأرست شرعية الصراع والبقاء للأصلح، وساعدت على نشر الفلسفة المادية:
1- إنكار الله الخالق:
يرى " جوليان هكسلي " أن نظرية التطوُّر جعلت الإنسان يشعر أنه ذوي قربة للكائنات الأخرى من نباتات وحيوانات، لأنه عاش هذه الأطوار قبل أن يصل إلى مرحلة الإنسانية، فيقول "أن الإنسان يعرف الآن أنه ليست ظاهرة معزولة منفصمة عن بقية الطبيعة بسبب إنفراده الذي لا مثيل له.. ولكن على الرغم من كل تميزه عن سائر الكائنات إلاَّ أن وشائج (روابط) من الاستمرار الوراثي تربطه بكل سكان كوكبه الأخرى الأحياء، والحيوانات والنباتات، والكائنات الحية المصغرة Micro - organisms هي أبناء عمه جميعًا، وتمُت إليه بصلة قربى أكثر بعدًا وهي جميعًا أجزاء لمجرى واحد متفرع ومتطور من البروتوبلازم" (6).
ويقول "دكتور كمال شرقاوي غزالي": "عندما ظهرت نظرية داروين كانت بمثابة قنبلة فكرية هزت العالم أجمع، وقلبت المفاهيم رأسًا على عقب.. كان الغرض الخفي (من هذه النظرية) هو هدم العقائد المقدَّسة والقضاء عليها، وبالفعل سادت موجة عجيبة من الإلحاد" كما يقول أيضًا " لقد عرف ماركس ولينين ما في افتراضات داروين من اتجاه نحو المادية والإلحاد، ولم يكن ثمة حد لإعجابهما بداروين وأفكاره، فشيَّدوا متحفًا في قلب موسكو للداروينية وتمجيد داروين، ولكي تكون الخطة مُحكمة لانطلاق الماركسية على أساس نظرية داروين.. من هنا كانت أفكار داروين عونًا ومددًا لترسيخ المادية والإلحاد في المواجهة التي كانت دائرة بين العلم والدين" (7).
لقد أنكر الدارونيون خلق الله للإنسان الأول (آدم وحواء) وبالتالي أنكروا سقوط الإنسان في الخطية الجدية، وفساد الطبيعة البشرية، وبالتالي فليس ثمة حاجة للمسيح المخلص الفادي، فمن أي شيء يُخلّص مادام لم يكن هناك خطية ولا سقوط ولا فساد للطبيعة البشرية؟!وأرجع الدارونيون تدني الأخلاق البشرية إلى أصل الإنسان الحيواني، فالإنسان في نظرهم قد ورث عن جده الحيوان الغرائز البهيمية التي تؤثر على سلوكه، كما أرجع التطوُّريون مبادئ الأخلاق والأدب إلى تطوُّر الإنسان من الناحية الأدبية.
ويرى "جوليان هكسلي" أن الإنسان هو الذي صنع الله من خياله، وأضفى عليه صورة الأب والقداسة فيقول: "والإنسان التطوري لم يعد يستطع الفرار من وحدته بالاحتماء نحو مأوى يقيه أحضان إله من صنع الإنسان نفسه، خلقه في صورة أب مضفيًا عليه ألوان القداسة" (8).
2- إنكار الوحي الإلهي:
خالفت نظرية التطوُّر الكتاب المقدَّس في قضيتين مهمتين:
1) قالت نظرية التطوُّر بأن الإنسان وليد النشوء والارتقاء، وبذلك خالفت قول الكتاب بأن الله جبل الإنسان على صورته ومثاله من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة " فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك 1: 27).. " وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيَّة" (تك 2: 7).
2) قالت نظرية التطوُّر أن الأنواع غير ثابتة، بل تتطوَّر وتتغير، وبذلك خالفت قول الكتاب بأن الله خلق الأنواع ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فكل عشب وبقل وشجر " يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بذره فيه" (تك 1: 11).. " كل ذوات الأنفس الحيَّة الدبَّابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 21).
وبذلك أنكرت نظرية التطوُّر وحي وعصمة الكتاب المقدَّس الذي يؤكد على خلق السموات والأرض، وقد أصدر " جوليان هكسلي " كتابه " إطار المذهب الإنساني " سنة 1961م، وشارك في تأليف هذا الكتاب خمسة وعشرون عالمًا، وقال هكسلي في مقدمة هذا الكتاب " أن الأرض لم تُخلق بل تطوَّرت. وهذا هو الحال مع سائر الحيوانات والنباتات التي تسكنها بما فيها نفوسنا البشرية وما فيها من عقل وروح ومُخ وجسد. وهذا هو الحال مع الدين كذلك" (9).
وقال الأسقف " صموئيل ولبرفورس" (1805-1873م) أن " مبدأ داروين للانتحاب الطبيعي لا يتفق مُطلقًا مع (كلمة الله) فلقد أعطت نظرية التطوُّر لأعداء المسيحية في ذلك الحين وقودًا لهجومهم على الكنيسة" (10)..
وقال " نوبل لورييت جاك مونود " Monod في كتابه " الصدفة والحاجة " أنه لا يوجد إله وأن العهد (الميثاق) القديم قد انهار، فقد عرف الإنسان أخيرًا أنه وحيدًا في هذا الكون الشاسع المُوحش، وأنه لم يوجد فيه إلاَّ عن طريقة الصدفة (Jo Monod, Chance and Necessity p. 167).
ويقول "الدكتور كمال شرقاوي غزالي": "وهنا بدا للناس أن النظرية تتعارض مع النصوص الدينية، وبالذات نصوص العهد القديم، التي تقرر بوضوح كامل أن الأنواع ثابتة وأنها غير قابلة للتغيير. ولما كانت للناس في ذلك الوقت كراهية متأصلة للتعاليم الدينية والكنسية، فقد بدأ الاقتناع بصحة النظرية يغلب على الاقتناع بالتعاليم الدينية، وصارت النظرية والدين في طرفي نقيض، وأدى إقناع الناس بالنظرية إلى أن قالوا بثبوت خطأ التوراة ورفض النص الكامل للإنجيل، ودار صراع بين العلم والدين" (11). ولنا عودة لهذا الموضوع في الكتاب الثاني (ثمار الإلحاد).
3- شرعية الصراع:
لقد أدخلت نظرية التطوُّر الإنسان في صراع قاسٍ من أجل البقاء، بدلًا من التعاون بين البشر، مع أن الأصل هو التعاون بين البشر، وما أجمل قول " ألبرت أينشتاين " عن خلق الإنسان، حيث يقول "غريب وضعنا على الأرض وكل منا يأتي في زيارة قصيرة، لا يعرف لماذا؟ ولكن في بعض الأحيان يبدو بأن هناك سببًا مقدَّسًا، من وجهة نظر الحياة اليومية. على كل حال، هناك أشياء نعرفها بأن الإنسان هنا من أجل الإنسان الآخر، وقبل كل شيء لأجل هؤلاء الذين نعتمد على سعادتهم وابتساماتهم لإسعادنا" (12).
وزرعت هذه النظرية فلسفة العنف والاعتداء، فالقوى يجتهد كيما يصعد على أشلاء الضعفاء، وتمخضت النظرية عن فلسفة "نيتشه" التي كان له الباع الأكبر في الفاشية والنازية، وسيادة الجنس الأري على جميع الأجناس، فأثارت هذه النزعة الحروب ونشرت الدمار، وجاء في كتاب علم الأحياء للصف الثالث الثانوي 1990 / 1991م ص 237 " ومما هو جدير بالذكر في هذا المجال الآثار التي أدت إليها نظرية داروين وبخاصة في مجال الفلسفة والسياسة والعلاقات البشرية. فقد ترتبت على نظرية الانتحاب الطبيعي ما يمكن أن يُسمى " فلسفة الاعتداء " أو فلسفة " العنف والاغتصاب " وتجاوبًا واطمئنانًا إلى هذه الفلسفة التي ساعد الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzche (1844 - 1900م) على رواجها فدخل العالم في غمار حروب عامة منها حرب السبعين عامًا والحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد أثارت النزاعات العدائية والحروب وأطلقت الشعارات بسيادة جنس على آخر" (13).
ويقول "أيريل كيرنز": "لقد استخدمت نظرية التطوُّر Evolution لتبرير فكرة سيادة جنس على غيره من الأجناس، وذلك لأن هذه الفكرة تتلائم مع مفهوم داروين عن [البقاء للأصلح] بل وأيضًا استخدمت لتبرير عدم الاعتراف بوجود أساس مُطلق للأخلاق.. بل تم أيضًا استخدام نظرية التطوُّر لتمجيد الحرب باعتبارها ممارسة شرعية لمبدأ البقاء للأصلح" (14).
وقد نجم عن " الداروينية " الشيوعية المُلحدة، وما أكثر ضحاياها!! فيقول "هارون يحيى": "وإذا أعتبرنا المفهوم الشيوعي للنزاع الجدلي الذي قتل نحو 120 مليون شخص طوال القرن العشرين (إله القتل) يمكننا حينئذ أن نفهم بشكل أفضل حجم الكارثة التي ألحقتها الداروينية بكوكبنا" (15).
وقد تأثر أدولف هتلر بفكرة الصراع من أجل البقاء بين الأجناس، واستوحى منها أفكاره في كتابه " كفاحي " وقال عن الصراع بين الأجناس " سوف يصل التاريخ إلى أوجه في إمبراطورية ألفية جديدة تتسم بعظمة لا مثيل لها، وتستند إلى تسلسل جديد للأجناس تقرره الطبيعة ذاتها" (16) كما قال أيضًا أن " الجنس الأعلى يُخضِع لنفسه الجنس الأدنى.. وهو حق نراه في الطبيعة ويمكن اعتباره الحق الأوحد القابل للإدراك" (17).
ويقول "الدكتور كمال شرقاوي": "وانتقلت فكرة التطوُّر لتصبح منهجًا للبعض، وجاء هتلر يومًا فأعلن عن فكرته النازية في استيلاد سلالات بشرية قوية، وإعدام السلالات الضعيفة، واتخذت الفاشية الافتراض المتعلق بالانتقال الطبيعي والبقاء للأصلح مبررًا للقضاء على بعض الأجناس البشرية، وأتخذها تجار الحروب مبررًا لهم لأن الحروب تقضي على العناصر الضعيفة وتستبقي العناصر القوية"