النقد الأدنى والنقد الأعلى
س 2: ما المقصود بالنقد الأدنى والنقد الأعلى؟
ج: أفرز لنا النقد الكتابي بمفهومه الإيجابي " مدرسة النقد الأدنى " Lower Criticism وهى التي تقرُّ وتعترف بالوحي الإلهي في الأسفار القانونية، وتهتم بالنواحي الإيجابية مثل دراسة المخطوطات ومدى تطابقها مع الأصل، وتحديد أعمارها، وأيضًا دراسة اللغات القديمة التي كتبت بها الأسفار المقدًّسة وكذلك دراسة البيئة التي وُلدت فيها هذه الأسفار.. إلخ. وقد قدمت لنا هذه المدرسة الكثير من العلم النافع.
ويقول "بول ليتل": "إن فحص الأسفار وأصولها يُسمى علم نقد النص (text criticism ) وهو له علاقة بمدى موثوقية النص، أي كيف يمكن مقارنة النص الحالي مع الأصول وما مدى دقة نسخ المخطوطات القديمة إلى أن وصلت إلينا الآن" (1).
أما "مدرسة النقد الأعلى" Higher Criticism فكل اهتمامها ينصب علي نقض الكتاب المقدَّس، فهي لا تعترف بالوحي الإلهي، وتضع الكتاب تحت ميكروسكوب النقد، وتحكم فيه كما تحكم في أي كتاب بشري، فتنتقده بشدُّة وحدَّة، وتحدد هذا صح وهذا خطأ، وقد طوحت بالتقليد وكتابات الآباء، وسيّدت العقل علي الإيمان، فأخضعت كلمة الله للعقل البشري عوضًا عن إخضاع العقل لكلمة الله المقدسة..إلخ. و"إيخهورن " J. G. Eichern (1752 - 1827م) أستاذ اللغات الألماني، والذي كان والده قسًا هو أول من استخدم مصطلح " النقد العالي " حيث قال في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه " مقدمة العهد القديم " سنة 1787م " لقد وجدت نفسي مضطرًا لبذل هذا القدر الكبير من الجهد في مجال غير مسبوق حتى الآن، وهو فحص التركيب الداخلي لكل سفر من أسفار العهد القديم بمساعدة النقد العالي" (2) وهو يقصد بالتركيب الداخلي للسفر معرفة المصادر التي استخدمها الكاتب لكتابة سفره، وطريقة استخدامه لهذه المصادر، ومعرفة كاتب السفر، وتاريخ كتابته عن طريق ربط الأحداث الواردة في السفر بالتاريخ المدني، ولذلك دُعي إيخهورن أبو نقد العهد القديم.
وقال الدكتور جوزيف موريس فلتس أن لفظتي " الأدنى" و"الأعلى " مستعارتان من صورة النهر الذي تجري مياهه من النبع الأعلى للمصب الأدنى، فالناقد الأدنى يضع نفسه في مستوى أدنى من الكتاب المقدَّس، معترفًا بوحيِّه محاولًا الارتواء منه والتمتع به، ولسان حاله يقول "فهمني يا رب فأفهم"،أما الناقد الأعلى فهو يسعى للتوغل في أعالي النهر أقرب ما يكون من المنبع، مسلمًا نفسه لسطوة العقل فحسب، حاسبًا نفسه أنه هو الحَكم في كلمة الله، وإذ هو يترآى فوق ما ينبغي أن يترآى يتكبر ويسقط.
وقد أفرز لنا النقد الأعلى الهجوم الشرس علي الكتاب المقدَّس بعهديه، فلا تكاد آية تفلت من أيديهم، ولا سيما العهد القديم، فدعوه بشريعة الغاب، وقالوا أن إله العهد القديم إله جزار يأمر بذبح الأطفال وطمر الآبار وقطع الأشجار (راجع كتابنا: مدارس النقد والتشكيك ج 2 ص 165 - 276) ويعتبر الهجوم علي العهد القديم أقدم تاريخيًا من الهجوم علي العهد الجديد، فحتى القرن الثامن عشر لم يكن هناك من يجرؤ علي مهاجمة العهد الجديد وشخصية السيد المسيح علانية إلاّ في القليل النادر، حتى جاء " هيرمان صموئيل ريماروس" (1694 - 1768) الذي اتهم كتَّاب العهد الجديد بأنهم مزوّرون أتقياء (ولا أدري كيف يتفق التزوير مع التقوى؟!) وأنكر الوحي الإلهي، والميلاد العذراوي للسيد المسيح، وقيامته، ولكنه لم يجرؤ علي نشر آراءه هذه، حتى جاء "ليسنج" بعد موته ونشر القليل من آراء ريماروس، فقوبل بمعارضة شديدة، إلاَّ انه فتح الباب للنقد العالي للتطاول علي العهد الجديد أيضًا.
ويقول جوش مكدويل " ولسوء الحظ فإن مدرسة النقد العالي التي نمت في الأوساط الدراسية الألمانية في القرن قبل الماضي استخدمت بعض المناهج الخاطئة التي استندت على بعض الافتراضات المسبقة المثيرة للجدل.. هذه المدرسة التي سيطرت على دراسات العهد القديم منذ البداية معًا بالإضافة إلى المنهج الذي أنتج هذه النتائج المتطرفة، أصبحت تُعرف في بعض الدوائر بأنها " النقد العالي الهدام".." (3).
ونستطيع أن نقول أن "النقد الأعلى" وُلد من أبويين شرعيّين هما:
1 - الحركة العقلانية: التي بدأت تتضح منذ القرن السابع عشر، وهدفت إلي تسيّيد وتأليه وعبادة العقل، ورفع العقل علي النقل (النصوص المقدسة) وعارضوا كل ما هو يرتفع عن مستوي العقل، ولذلك أنكروا الوحي الإلهي، ورفضوا المعجزات الكتابية، والأرواح، والقيامة العامة.. إلخ.
2 - الفلسفة المثالية: فقد أسَّسها " عمانوئيل كانط" (1724 - 1804 م) الذي أسَّس المذهب الأخلاقي إذ أعتبر أن الدين ما هو إلاَّ مجموعة أخلاق ومُثل، والكتاب المقدَّس هو مجرد كتاب أخلاقي، وكل ما يهمنا هو الأخلاق، ولا حاجة لنا للعقيدة، وبما أن مبادئ الأخلاق واحدة في العالم كله، فقد نادي "كانط" بديانة طبيعية تقوم علي الأخلاق دون الحاجة إلى أية أمور عقائدية.