|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إلى المنتهى أورشليم مدينة الملك العظيم متألقة على ربوة عالية مثل عروس مزينة لرجلها، تحيطها الأسوار المنيعة، وتتزاحم وتتناثر على أرضها البيوت المنخفضة والتي لا تتعدى الدورين، وشوارعها غالبًا ضيقة، ماعدا بعض الأحياء الراقية التي حوت في أحشائها بعض القصور مثل قصر رئيس الكهنة وبعض الشخصيات الهامة، ولكن ما يُميّز أورشليم عن أي مدينة أخرى أنها ضمت في أحضانها هيكل رب الصباؤوت حيث تقدم الذبائح لله العلي، وخارج الهيكل يستحيل على أي إنسان يهودي أن يُقدم ذبيحة لله، ومن أجل هذا جاء يهود الشتات من مصر وروما وأسبانيا وشتى بقاع الأرض للاحتفال بعيد الفصح وعيد الفطير، فقد حتمت الشريعة على كل ذكر يافع أن يصعد إلى أورشليم ليترآى أمام الله في مثل هذه الأعياد، حتى لو كان يعيش بعيدًا عن أورشليم واحتاج لثلاثة أشهر للوصول إليها، وكان هناك اعتقادًا سائدًا لدى اليهود وهو أن المسيا الآتي إلى العالم سيخلصهم في عيد الفصح، فبالإضافة إلى أن عيد الفصح يحمل ذكرى النجاة من الموت والخلاص من العبودية المرَّة، فهو يحمل أحلام بني إسرائيل في ظهور المسيا الذي يعيد إليهم حريتهم المفقودة ويخلصهم من الاحتلال الروماني، وعيد الفصح هذا العام له طعم خاص لدى بني إسرائيل، لأن البشارة بيسوع نبي الجليل صانع المعجزات العجيبة انتشرت وعمَّت البلاد، فلعله هو المسيا المنتظر؟! ولعله يصنع خلاصًا في عيد هذا العام.. ولم تتسع المدينة للوافدين، ومحظوظة هي الأسرة التي تجد لها حجرة صغيرة أو ركن على أحد الأسطح داخل المدينة، أما الذين ليس لهم مكان فقد أعدُّوا أنفسهم،إذ أحضروا معهم الخيام التي راحوا يقيمونها خارج الأسوار فوق المروج الخضراء، ويقع عبء حفظ النظام والأمن وسط مئات الألوف على بيلاطسوالي اليهودية، الذي اضطر إلى ترك قصره في قيصرية والإقامة في أورشليم، كما أستدعى بعض الكتائب العسكرية للمساعدة في حفظ النظام بالإضافة لآلاف الجنود المعسكرين بأورشليم وبالأخص في قلعة أنطونيا.. كان بيلاطس يقيم كل عام في جناح من قصر هيرودس،أما هذا العام فبسبب الخصام الذي شب بينهما، فقد أقام في قلعة أنطونيا المشرفة على الهيكل. وكان هناك مناجاة من الشعب نحو يسوع نبي ناصرة الجليل.. هل سيأتي إلى العيد؟! لقد أظهر من القوة والقدرة والجبروت ما لم يظهره أحد من قبل حتى البحر والرياح يطيعانه، وبالأمس القريب - منذ عدة أيام - نادى لعازر من مدينة الأموات بعد موته بأربعة أيام، فنفض الميت تراب الموت واستقام مجيبًا النداء وخرج من القبر مربوطًا، فقال للذين حوله من التلاميذ حلوه ودعوه يمضي، واليوم الأحد دخل يسوع المدينة بموكب عجيب وديعًا متواضعًا راكبًا على أتان وجحش ابن أتان ففرشوا ثيابهم على الطريق، وحمل الكثيرون سعف النخيل وأغصان الزيتون وهتفوا له " هوشعنا.. هوشعنا في الأعالي.. مبارك الآتي باسم الرب.. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب.. أوصنا في الأعالي " حتى الأطفال لم يكفوا عن الفرحة والهتاف فارتجت المدينة أورشليم، ولكن عندما دخل الهيكل لم يسرَّ به، لأنه تحوَّل من بيت للتوبة والصلاة والتماس وجه الله إلى مكان لتجارة المواشي والخراف والحمام بحجة تقديمها للذبائح، وجلس تُجار العملة يمارسون عملهم، وبرع حنَّان رئيس الكهنة الأسبق في تقسيم وإدارة المكان، فكل شبر في فناء الهيكل له قيمته، وغضب السيد ورفع سوطه فارتعب الجميع وفروا من أمام وجهه هاربين، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وهو ينتهرهم بشدة " مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص".. لقد طهَّر الهيكل، ولم يدع أحدًا يجتاز بمتاع، وجلس يُعلّم الخراف التي بلا راعٍ لها، ويشفي المرضى. أما حنَّان وقيافا رغم الحقد والغل الذي ملأ قلوبهم مع بقية القيادات الدينية، لكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن يتعرض له أو يراجعه فيما عمله.. كل ما فعلوه أنهم تهامسوا فيما بينهم.. من أين له هذا السلطان..؟! العالم كله ذهب ورائه.. لابد من القضاء عليه في أسرع وقت ممكن. أما يسوع فقد أمضى يومي الاثنين والثلاثاء يُعلّم طوال النهار في الهيكل حتى عاد للهيكل قدره ومجده، وبالليل كان يبيت في قرية بيت عنيا مع تلاميذه، ورغم أن الحاقدين حاولوا أن يصطادوه بكلمة ليحكموا عليه لكن دون جدوى. اليوم الخميس (الكبير) وبالأمس حدثت خيانة في أورشليم لم ترَ المدينة مثلها من قبل.. لقد ذهب يهوذا تلميذ يسوع وأحد الاثني عشر تلميذًا إلى رؤساء الكهنة الذين كانوا قد أصدروا منشور مجمع السنهدريم "من يعرف أين يسوع فليدل عليه".. يا للعار.. لقد ذهب يهوذا من ذاته يعرض عليهم أن يُسلّم إليهم يسوع في المكان المناسب وفي الوقت الملائم، وفي ذات اليوم الذي فاحت فيه رائحة الخيانة فاحت فيه أيضًا في بيت عنيا رائحة الطيب، إذ خلال جلسة هادئة للمعلم وتلاميذه، أذابت مريم أخت لعازر مشاعرها في قارورة طيب كثير الثمن اشترتها بتحويشة العمر، وسكبتها على رأس المعلم الذي أعاد لها أخيها من الموت، وهي لا تعلم أنها بهذا الطيب كانت تُكفّن يسوع وهو مازال حيًّا، بينما عاد يهوذا من حيث كان، ولو سأله المعلم: من أين يا يهوذا؟ لأجاب كذبًا: لم يذهب تلميذك إلى هنا أو هناك.. سألا بطرس ويوحنا المعلم: أين تريد أن نعد لك لتأكل الفصح؟ فالمعلم ليس له أين يسند رأسه، وتلاميذه تشبهوا به، إذ تركوا بيوتهم وأسرهم وتبعوه.. كان الفصح يجمع شمل الأسرة الواحدة، وكوَّن المعلم مع تلاميذه أسرة من طراز جديد لا تقوم على رباط الدم إنما تقوم على وحدانية الروح الواحد، ولهذا حق لهم أن يأكلوا الفصح معًا، ولكن أين وليس لهم مقرًا على هذه الأرض؟ لم يشأ يسوع أن يجيبهم بصراحة أمام يهوذا الذي يتحيَّن فرصة لتسليمه، ولذلك أجابهم بلغز خُفيَّ عن يهوذا، حيث قال لهما: " اذهبا إلى أورشليم وإذا دخلتما المدينة تجدان إنسانًا حاملًا جرة ماء. أتبعاه إلى البيت حيث يدخل.. وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أن وقتي قريب. أين المكان حيث آكل الفصح مع تلاميذي. فيريكما علية كبيرة مفروشة فهناك أعدَّا لنا ". وكانت هذه علامة كافية لأن الذي اعتاد حمل الجرار النسوة والشابات، وقال يهوذا في نفسه: ما معنى قول المعلم أن وقتي قريب..؟! هل يشعر بروحه أن نهايته قد صارت وشيكة.. ربما تكون هذه إرادة الله وعليَّ أن أُتمّمها سريعًا.. ليساعدني الله لإتمام هذه المهمة الشاقة. والآن نحو السادسة مساء وهوذا المعلم العالم بالخفايا يقطع الرحلة مع تلاميذه العشرة من بيت عنيا إلى البيت الذي سيصنع فيه الفصح الأخير.. تقدم يسوع المسيرة طويل القامة، ممشوق القوام، وقد فرقَ شعره من منتصف الرأس، وتدلَّت خصلات شعره على منكبيه، وجهه يشرق بالحبِ كشمس لا تغرب، وعيناه سوداويتان تموجان بالنشاط والحيوية.. إنه حقًا أبرع جمالًا من بني البشر، وسار المعلم في صمتٍ، فالصليب يدق الأبواب، وغدًا ستقطر دمائه على أراضي أورشليم وخارجها. سارت الجماعة في الطريق الترابي من بيت عنيا قاصدة، أورشليم وتعفرت أقدامهم بتراب الطريق، ومروا على الخيام التي تكاد تكون متلاصقة، ورائحة الطعام تتصاعد وتنتشر، والفتيات يلعبن، والنسوة يثرثرن، وجلس الرجال يتسامرون، وأكثر ما شدَّهم هو الحديث عن أمجاد المسيا الآتي، فالنسر الروماني الجاثم على مدينتهم جعلهم أشد ظمأ للحرية وأكثر اشتياقًا للمسيا، ودخلت الجماعة إلى شوارع أورشليم التي رُصفت بالحجارة، وقد ازدحمت جدًا، ورغم أن يهود أورشليم يشعرون بالاستعلاء على يهود الشتات الذين قد يعرفونهم من ملابسهم، ولكن الفرحة بالعيد عمَّت الكل، فصارت القلوب منشرحة والوجوه مستبشرة، ومع أن اليهود قد اعتادوا عدم التحديق في وجوه الغرباء، ولكن شهرة نبي الناصرة لفتت الأنظار فصارت النظرات تلاحقه.. ألعله هو المسيا؟! ولو كان المسيا لِمَ خذلنا يوم الأحد الماضي ولم يُنصّب نفسه ملكًا علينا؟! ونظر المعلم إلى تلك المدينة التي طالما أحبها نظرة الحب والإشفاق، فكم أغدق عليها من حبه وحنانه ولكنها رفضته بجفاء، فأعطته القفا لا الوجه، والتزم المعلم جانب الصمت، فهو لا يريد أن يبيح بمشاعره الخفية لخواصه المحبوبين حتى لا يُحمّلهم ما لا يحتملون، فهو معلمهم وأبوهم ورجاؤهم وكل شيء في حياتهم بعد أن تركوا كل شيء - فعلًا كل شيء - وتبعوه. أما التلاميذ الذين يتابعون الأحداث، وتصلهم الأخبار تباعًا، يعلمون أن غضب القيادات الدينية لن يهدأ حتى يدخل في مواجهة دموية مع معلمهم، وقد يفضل غالبًا التصفية الجسدية كعادتها، وبدأوا يشعرون أن هناك عاصفة عاتية تقف على الأبواب، ولكنهم لم يتصوَّروا أنهم في هذه اللحظات يقفون على أعتاب هذه العاصفة، فهل سيستخدم السيد سلطانه الذي أخضع به من قبل البحر الهائج، وهل سيعصف بهذه العاصفة الهوجاء؟! ولم يكن للتلاميذ القدرة على رؤية سطانئيل وهو يُجيّش جيوش الشر من شياطين ويهود ورومان، في جلبة وضوضاء ومظاهر زيطة وهيصة، يمنُّون أنفسهم بالصيد الثمين الذي أوشك على السقوط بين أيديهم، ولم يسمع التلاميذ الشرير وهو يتنهد قائلًا: متى أقبض على روحه وأُودعها سجن الجحيم؟ لكم أتعبني وأجهدني هذا الإنسان.. هل تصل به الجرأة إلى طرد ملائكتي من سكنى البشر؟! نعم.. لم أنجح للآن في إسقاطه في خطية واحدة بالفعل ولا بالقول ولا بالفكر، ولكن بعد قليل سيكون في قبضتي، ومن يفلت من قبضتك ياسطانئيل؟! ولم يكن للتلاميذ قدرات خارقة تميزهم عن غيرهم، بل كانوا من بسطاء الناس،ولكل منهم ميوله الخاصة، ومعظمهم من صيادي السمك بالجليل، وإن كانوا يفتخرون بمهنتهم في جليلهم، ولكن يهود أورشليم يتأففون منهم إذ يحملون رائحة السمك وأعشاب البحر في ثيابهم المبتلة. أما في هذا اليوم فإنهم جميعًا يرتدون ملابس العيد وتنساب لحاهم على صدروهم، وتنسدل شعورهم على أكتافهم، وغالبًا لكل منهم أكثر من اسم. كان فيهم بطرس وشقيقه أندراوس، ويعقوب ابن زبدي ويوحنا شقيقه، كما إن هناك أسماء مشتركة، فاثنان منهم باسم يعقوب هما يعقوب بن حلفا ويعقوب ابن زبدي، واثنان باسم سمعان هما سمعان بطرس وسمعان القانوي.. وكان من الاثني عشر وأكبرهم سنًا "يهوذا الإسخريوطي" الذي كان يبدو دائمًا قلقًا متوترًا، وهو أمين الصندوق الذي يحتفظ ببعض الأموال في الصندوق ويخفي بعضها في كيس يحفظه بين طيات ملابسه، وللأسف فإن يهوذا صرف جل اهتمامه في الأمور المالية من إيرادات ومصروفات وأرصدة، وفي زحمة اهتماماته لم يهتم بتعاليم المعلم، فبدأت الخطية تزحف نحوه شيئًا فشيئًا.. فلم يشعر بها، أو قل أن الشيطان نسج شبكته حول ذاك التلميذ المهم فتلة فتلة، فصارت الخطية في قلب يهوذا كحيَّة رقطاء رابضة تحت صخرة تفرز سمومها حتى أسودَّ ذاك القلب الأبيض الذي اختاره يسوع تلميذًا له، ولم يسعَ يهوذا للتحرر من تلك الخطية، بل انصرف تمامًا عن تعاليم سيده، وإن سمعها بحكم تواجده في صحبة القديسين فأذن من طين والأخرى من عجين، وصار التلميذ يتحاشى النظر في عيني معلمه. وكان من الاثني عشر أيضًا " بطرس " أكبر الرسل بعد يهوذا، واسمه سمعان باريونا أو سمعان بن يونا، ودعاه المعلم صفا أي صخرة وباليونانية بطرس، وهو دائمًا التلميذ الغيور على معلمه وعلى إخوته، يتمتع بصوت جهوري وقلب متسرع يقوده دائمًا إلى الاندفاع، حتى أن معلمه الرقيق رقة نسمة الربيع اضطر ذات مرة أن يزجره بشدة قائلًا " اذهب عني يا شيطان ". ومن بين الاثني عشر عشارًا يُدعى " لاوي "، وكان مثل أي عشار آخر قاسي القلب مستبيح لأموال الأرامل واليتامى، وعندما التقى به المعلم منذ ثلاث سنين قال له " أتبعني " فترك مكان الجباية وتبعه، وأعطاه اسمًا جديدًا " متى "، ورغم أنه تعلَّم في مدارس الربانيّين فأجاد القراءة والكتابة والرياضيات، إلاَّ أن السيد لم يشأ أن يوكل إليه أمانة الصندوق. أما " توما " فهو قلقًا بعض الشيء، يعتمد على المحسوسات والأدلة الملموسة في أمور حياته، ويتمتع توما بروح المغامرة، حتى أنه عندما سمع أن لعاز قد مات والمعلم سيذهب إلى اليهودية حيث مكمن الخطر قال: لنذهب إلى هناك، لنموت معه. أما أصغر التلاميذ فهو " يوحنا " الذي كان ملاحقًا ملاصقًا لمعلمه في خطواته وفي جلساته، في حركاته وسكناته، ودائمًا عيناه ترنو إلى المعلم فتترأى له الأزلية مع الأبدية، فيقف مشدوهًا أمام السرمدية، وقد يكون يسوع قد كُشف له بعض الأسرار، فسر الله لخائفيه. ووصلت الجماعة إلى بيت أرسطوبولس والد مرقس، وخرج رب البيت مع مريم زوجته وابنه مرقس يلاقون المعلم وتلاميذه بالبشاشة والترحاب، وصعد المعلم مع تلاميذه العشرة إلى العلية الكبيرة المفروشة حيث كان بطرس ويوحنا قد سبقا وأعدَّا كل شيء، وكان من شروط أكل الفصح أن يتراوح العدد بين عشرة وعشرين نفسًا، وهذا ما توفر لهذه الجماعة فهي ليست في حاجة إلى الانضمام لجماعة صغيرة أخرى، وكان الفصح يُذبح بعد غروب شمس يوم 13. نيسان أي في الساعات الأولى لليوم الرابع عشر، لأن اليوم اليهودي يبدأ من غروب شمس اليوم السابق وينتهي بغروب شمس اليوم، وبسبب أهمية عيد الفصح صار شهر نيسان - وكان يُدعى قبل السبي بشهر أبيب - أول شهور السنة العبرية، ويقابل الجزء الأخير من شهر مارس والجزء الأول من شهر أبريل، وفي هذا العام كان اليوم التالي لعيد الفصح هو يوم السبت، لذلك انقسم اليهود إلى قسمين، قسم الفريسيّين المدقّقين الذي حافظوا على ميعاد الفصح ليكون غدًا الجمعة 14 نيسان، وذبحوا الفصح بعد غروب شمس 13 نيسان، وفي هذا الوقت أكل المعلم الفصح مع تلاميذه. أما الصدوقيون ومن بينهم رؤساء الكهنة فقد احتفلوا بعيد الفصح يوم السبت 15 نيسان، وذبحوا الفصح بعد غروب شمس 14 نيسان في الوقت الذي سيملك فيه السيد على عرشه، وكان الفصح يُذبح بين العشائين. والآن هوذا الحمل قد ذُبح ووضع في سيخين متعامدين ويشوى على نار هادئة، ورائحة الشواء تعبق المكان.. رفع بطرس ويوحنا الحمل من على النار ووضعاه على المائدة، وهتفت الجماعة " الرب إلهنا إله واحد "، وجلسوا حوله فجلس يهوذا أكبر التلاميذ سنًا على يمين المعلم طبقًا للطقس السائد حيث كان يجلس الابن الأكبر والممثل الشرعي للأب عن يمينه. أما يوحنا بن زبدي أصغرهم سنًا فجلس عن يسار المعلم، فكان أقربهم إلى نبضات قلبه، ويبدو أنه قد حدثت مشادة بين يهوذا وبطرس عمن هو أحق بالجلوس عن يمين المعلم، ويبدو أن الفضة التي زواها يهوذا في جيبه ثمن الخيانة لم تحرق ضميره ولم تكسر نفسه.. آه لو تأمل ذاك التلميذ في قطعة من الفضة المسبوكة ربما عاد إلى وعيه، فقد نُقش على أحد وجهي العملة غصن زيتون علامة السلام، وعلى الوجه الآخر صورة مجمرة رمز العبادة وأسفلها "أورشليم المقدَّسة".. فأين السلام والعبادة وأورشليم المقدَّسة من الخيانة المرَّة؟! إنه يصبوا إلى مكاسب الأرض ويود لو يحتفظ بنصيبه السمائي، وهيهات له هذا..!! تصوَّر أنه سيتمتع بالمال الحرام مع ميراث السماء، ولم يتصوَّر أن يومه أصبح وشيكًا على المغيب، ونجمه بات قريبًا من الأفول. أما يوحنا فقد رَكَن إلى رُكن وهو مستريح البال، فلا يوجد من ينافسه عليه. وكانوا في القديم يأكلون الفصح وهم وقوف وأحقاءهم مشدودة ليتذكروا لحظات انطلاقهم من أرض العبودية. أما الآن فأنهم يأكلونه وهم متكئون علامة على أنهم مَلكوا أرض الموعد، وكان على المائدة طبق به محلول الملح والخل تُغمس فيه الأعشاب التي تُذكّرهم بعبودية فرعون، وصَحفة بها حساء من فواكه التين والبلح الأحمر وقشور القرفة، وجميعها بلونها الأحمر يذكرهم بالأجر (الطوب الأحمر) الذي كان يصنعونه في مصر تحت وطأة رؤساء التسخير. وهنا، والآن نقطة اللقاء بين الرمز والمرموز إليه، فالرمز الذي ظل نحو خمسة عشر قرنًا منتظرًا رفع صوته أخيرًا ليرحب بالمرموز إليه: أأتيت الآن يا حمل الله الحقيقي؟!.. كم انتظرناك قرون وقرون؟.. كنا أنا وأخوتي نشير إليك، ولكن لم يفلح أحد منا قط أن يؤدي رسالتك في الخلاص ومغفرة الخطايا. وشكر الحمل الحقيقي الحمل الرمز الذي أدى واجبه حتى هذه اللحظة قائلًا: بعد ساعات أجوز نيران الألم وعذابات الصليب، ويُصفى دمي قطرة قطرة فيرضى الآب عن البشرية.. أتدري أيها الحمل.. أنك ذُبحتَ بجرة واحدة من شفرة حادة فما كدت تشعر بالألم، أما أنا فإنني سأتحمل الألم إلى أقصى مداه.. أتعلم أيها الحمل الوديع.. أن كل من يسوقه قدره إلى الصليب يشتهي من كل قلبه أن تُقبض روحه قبل أن يدق مسمار في جسده، أما أنا فسأتحمل عذابات الصلب التي لا تطاق.. النيران التي اختبرتها أيها الحمل وأنت مذبوح سأجوز فيها وأنا حي.. ثم التفت يسوع لتلاميذه وقال لهم: شهوة اشتهيت أن آكل معكم هذا الفصح قبل أن أتألم. إني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى آكله جديدًا في ملكوت الله.. وبحسب التقليد السائد أمسك المعلم بالكأس الأول من عصير الكرم، وشكر الله على ثمار الحقل، وأعطى تلاميذه قائلًا: مبارك أنت الإله الأبدي الذي فديت الشعب. مبارك ملك الوجود، خالق ثمار الكرم. ثم خلط الكأس بالماء، بينما تقدم يوحنا أصغر الموجودين بالسؤال التقليدي للمعلم: لماذا يا معلم تختلف هذه الليلة عن أي ليلة أخرى؟ فقص يسوع قصة التحرُّر من عبودية فرعون والفداء بالدم، ولكنه قصَّها بطريقة جديدة جعلت أندراوس يتذكر قول معلمه يوحنا المعمدان عن يسوع " هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم كله " وسبَّحت الجماعة الجزء الأول من الهاليل (مز 113، 114).. وشكر المعلم، ثم قدَّس الكأس الثانية، وبعد هذا أخذ المعلم كسرتين من الخبز وكسر الأولى ووضعها على الثانية وشكر الله الذي أخرج القمح من الأرض، ثم مرَّر كسرة الخبز على الأعشاب المرة وغمسها في حساء الفاكهة وأكلها، وأخذ قطعة صغيرة من لحم الحمل فأكلها، وتبعه تلاميذه كل منهم ينتزع نصيبًا من لحم الحمل ويأكله، وعظم منه لا يكسر، وبين الحين والآخر يزدرد كل منهم بعض الأعشاب المرة. وكان من المفروض أن يتقدم أحد الخدام أو أصغر الموجودين بطست في يسراه وإبريق في يمينه للجماعة ليغسلوا أيديهم ويستكملوا طقس الفصح، ولكن التلاميذ فوجئوا بالمعلم ينهض من العشاء يخلع ردائه، ويأخذ منشفة يئتزر بها.. أمسك الأبريق وصب الماء في المغسل، وحمل المغسل إلى تداوس أقرب واحد منهم، وركع أمامه يطلب منه مدَّ رجليه، فأطاع تداوس في خجل، وراح يسوع يفك سيور الصندل، وأمسك بالقدمين المتسختين بتراب الأرض وغسلهما بالماء الدافئ وجفَّفهما بالمنشفة، ورغم أن يوحنا حاول القيام بهذا العمل إلاَّ أن المعلم لم يسمح له بذلك قط.. ومن يطيق ومن يحتمل أن السيد يركع أمامه كعبد ليغسل أقدامه؟! كل منهم يأبى هذا ولكن أين المفر؟! ما عدا يهوذا الذي مدَّ قدماه بدون استحياء إذ ماتت فيه الحياة، وأمسك السيد بقدمي يهوذا يربت عليهما في حنان بالغ وكأنه يريد أن يقول له " أقبل قدميك لا تُلقي بنفسك في الهلاك.. يا يهوذا يا إبني.. أنا سائر في درب الموت بإرادتي.. فلماذا تجلب على نفسك حكم الموت يا يهوذا؟!..وغسل يسوع أقدام يهوذا رغم علمه في أي طريق سعت هاتان القدمان الليلة الفائتة..!! آه إنها أقدام ضمير قد مات. أما بطرس الذي فاض قلبه بالحب لسيده فإنه لم يتململ مثل بقية إخوته من الآباء الرسل. بل منع رجليه عن السيد قائلًا: يا سيد أنت تغسل رجلي..؟! هذا أمر مستحيل. يسوع: لست تعلم الآن ما أنا أعمل يا بطرس، ولكنك ستفهم فيما بعد. بطرس: لا أستطيع.. لن تغسل رجلي أبدًا. يسوع: إن كنت لا أغسلك يا ابني فليس لك معي نصيب.. وبسرعة خاطفة مدَّ بطرس قدميه ويديه وأحنى هامته وهو يقول: كلاَّ يا سيد كلاَّ.. ليس رجلي فقط بل أيضًا يديَّ ورأسي وكل جسدي. يسوع: الذي قد أغتسل ليس له حاجة إلاَّ إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله. وإذ كان يسوع عالم بالخفيات قال: وأنتم طاهرون وليس كلكم.. إنه نداء ليهوذا الذي تخلى عن طهارته علَّه يهرب من الظلمة التي غشت حياته، ويفئ إلى نفسه ويتوب فيعتق مما هو فيه.. وبعد هذا أخذ يسوع رداءه واتكأ قائلًا: أتفهمون ما صنعت بكم؟ فصمتوا ولم يجب أحد، وتعلَّقت أعين التلاميذ ببطرس بعد أن تكلم معه المعلم عن ارتباط هذا العمل بالنصيب الصالح، ولكن ولا بطرس أدرك ما يجري، ولهذا لم يكن لديه لا إجابة ولا نصف إجابة. فقال يسوع: أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالًا حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا. فتململ يهوذا قائلًا في نفسه: مالنا وشغل الخدم والعبيد؟ ثم أردف يسوع قائلًا: الحق الحق أقول لكم أنه ليس عبد أفضل من سيده ولا رسول أعظم من مرسله.. الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم، لأن من هو أكبر؟.. الذي يتكئ أم الذي يخدم؟. أليس الذي يتكئ؟ ولكن أنا بينكم كالذي يخدم.. أنتم الذين ثبتم معي في تجاربي. إن عملتم هذا فطوباكم إن عملتموه.. حدث هذا بينما وقف " لوسيفر " مشدوهًا وشياطينه قد اعترتهم الحيرة، لأنه استعصى عليهم فهم فكر الاتضاع، فنظروا باشمئزاز وقال لوسيفر لملائكته: ألم أقل لكم أنه مجرد عبد، ولا يزيد عن كونه عبدًا، ولذلك قام بعمل العبيد.. أليس حسنًا أننا حركنا حبيبنا يهوذا ليبيعه بثمن عبد.. آه أيها العبد.. إنني في لهفة من أمرك.. عندما تقطر دماءك.. دماء العبيد على صليب العار.. لن تستطيع فكاكًا يا يسوع من فخ الصليب الذي أعدَّدته بحكمتي!! واضطرب يسوع بالروح، ولأول مرة يفتح ملف التلميذ الخائن المرائي، ويتنهد قائلًا: الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني.. حقًا كان المعلم يعلم أن يهوذا سارق ولص يسلب الأموال التي تضعها السيدات الثريات في الصندوق، ولكنه ستر عليه طويلًا سترًا يفوق الوصف، وربما همست بعض النسوة في أذن بطرس بما يجري، ولعل بطرس لفحه بنظرات الريبة والشك، حتى توقع الخائن أن المعلم سيطالبه بتسليم حساب وكالته، مع أن المعلم قد مكَّن له الحب إلى درجة تفوق الخيال، وإزاء حديث المعلم صمَّ يهوذا أذناه وكأنه لم يسمع شيئًا، أو كأن الموضوع لا يخصه، وبدا الذئب في ثياب الحملان، وتناسى أنه بالأمس سعى إلى رؤساء الكهنة يعرض عليهم تسليم حمل الله، وهم فرحوا به جدًا وأعطوه ثلاثين من الفضة، فعاهدهم على تسليمه، ولاسيما أنهم أقنعوه بأنه من المستحيل أن يكون يسوع هذا الذي ينادي بمحبة الأعداء هو المسيا.. إنه يود لو يُضيّع الأمة ويخرب الهيكل.. آه لو همست يا يهوذا في أذن سيدك بأنك أنت الذي اتفقت مع القيادات الدينية على تسليمه، لخلصك سيدك من الفخ الذي أمسك بك، ولكن للأسف الشديد فإنك يا يهوذا اتخذت من هيروس مثلًا أعلى لك، ذاك الذي من أجل الأقسام ذبح المعمدان. أما التلاميذ الأطهار فقد وقع عليهم الخبر وقوع الصاعقة، فاغتموا وأصابهم الأسى والأسف والحزن العميق، وكلمات يسوع الرزينة المؤثرة ترن في آذانهم، ففقدوا الثقة في أنفسهم، لأن ثقتهم في معلمهم فاقت ثقتهم في أنفسهم، ونظروا إلى بعضهم البعض نظرات الحيرة والتساؤل، ولم يجرؤ أحدهم على الاعتراض ولا بطرس ذاته، فما دام يسوع قال هذا فلابد أن يحدث هكذا.. تُرى مَن منا سيسلمه؟! ورفع يعقوب بن حلفا إصبعه في مذلة وانكسار قلب قائلًا: هل أنا يا رب؟ وصمت المعلم، وصمته هذا لم يمنع بقية التلاميذ من طرح ذات السؤال: هل أنا يا معلم؟.. هل أنا يا سيد؟!.. هل أنا يا رب؟!.. عجبًا لتلاميذ بسطاء يشكُّون في أنفسهم ولا يشكُّون في أخيهم الذي كان لصًا، وتبًا لك يا يهوذا لأنك وأنت صانع هذا الأمر بعينه تركت أخوتك يتعذبون في شكوكهم، وكان بإمكانك أن تريحهم وتربح نفسك.. لماذا يا هذا دفعت بنفسك في زمرة القديسين وأنت لست بقديس؟! ومالك تضع نفسك في مجمع الأطهار وأنت لستُ بطاهر؟! بل وأكثر من هذا أن يهوذا ظنها تسلية، فكل واحد يقول له: هل أنا يا رب؟ والمعلم صامت لا يجيب، وإذ ملأ الشيطان قلبه وغطى الرياء حياته، قرَّر أن يسأل ذات السؤال مع استبدال كلمة يا رب بكلمة يا سيد، فقال: هل أنا يا سيد؟ ولا عجب فإن الخطاة " يقتلون الأرملة والغريب ويُميتون اليتيم. ويقولون الرب لا يبصر إله يعقوب لا يلاحظ" (مز 94: 6، 7). وكان لابد للسيد أن يجيب، لئلا يظن يهوذا في جهله أن المعلم يجهل أمره، وإذ أراد المعلم أن تصل الإجابة إلى يهوذا فقط دون بقية التلاميذ حفاظًا على مشاعره. صمت قليلًا ثم همس في أذن يهوذا الجالس عن يمينه دون أن يسمعه أحد: أنت قلت. ولم يلحظ أحد من التلاميذ ما قاله المعلم ليهوذا الذي تصنَّع الاتزان والهدوء، وكأنه أصم لم يسمع صوت المعلم، وتساءل يهوذا في نفسه: ألعل أحد رآه بالأمس وهو يدخل إلى قصر قيافا، وأخبر المعلم بما كان؟! وتململ بطرس في جلسته، فهو لابد أن يعرف من الذي سيسلم سيده.. أنه على استعداد تام للفتك به وليكن ما يكن، فأي عار أن يخون التلميذ معلمه؟! ومع انفعالاته هذه، فإنه لم توآته الشجاعة ليسأل المعلم عمن هو، فمنذ قليل أسكته المعلم عندما احتج على غسل الأرجل، فآثر بطرس الصمت كمدًا، ولكنه لم يحتمل، فأومأ للتلميذ الصغير الجالس عن يسار المعلم، وفهم يوحنا وأطاع، وهمس في أذن معلمه: من هو يا رب؟ ولم يشأ المعلم أن يرد ليوحنا سؤالًا، ولم يشأ أيضًا أن يعرف بطرس من هو، ولا يريد أن يفضح يهوذا أمام الجماعة، فبحكمته الإلهية ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، إذ همس في أذن يوحنا دون أن يسمعه أحد: الذي يغمس يده معي في الصَّحفة هو يُسلّمني. وقد كان من أدب التلاميذ أنهم متى لمحوا يد السيد تتجه إلى الصَّحفة رفعوا أيديهم، أما يهوذا إذ سكنه شيطان الكبرياء كان يزاحم معلمه في الصَّحفة، وربما يكون الشيطان قد صوَّر له أنه هو الأحق برئاسة هذه الجماعة، وصمت يسوع حتى ازدرد يهوذا ما في فمه، ولكي يؤكد ليوحنا ذات المعلومة همس في أذنه قائلًا: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه.. وإذ كان الطقس يُفرض أن رب العائلة يغمس لقمة في صَّحفة الفاكهة ويعطيها للابن الأكبر أو أكبر الحاضرين، فعل يسوع هكذا، وغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الذي أنتفخ ونفش ريشه أمام أخوته، وكأنه يقول لبطرس الذي طمع في مكانه منذ قليل: أنظر تقدير ومعزَّة وإحترام المعلم لي.. فمن أنت حتى تطمع في مكاني ومكانتي؟! وكان الشيطان يغوي ويناوش يهوذا من الخارج، أما بعد اللقمة فقال لوسيفر لأحد أتباعه العتاولة: أدخل إلى يهوذا، فهوذا قلبه مكنوسًا مزينًا، فتربع على عرش قلبه، وشكّل فكره، وأجعل نظراته زائغة، وأفقده القدرة على التركيز.. هوذا أنت تعرف مهامك. أما يوحنا ففهم وأدرك.. تأثر جدًا وتأسى في نفسه.. ختم على الأمر ولم يفصح، واجتهد كثيرًا حتى لا تفضحه مشاعره، وقال في نفسه: ياللهول.. يهوذا الذي وهبه السيد سلطانًا على الشياطين، حتى كان يطردها ويزجرها وينتهرها، يبيع نفسه للشيطان، ويصير مأوى للشياطين ولكل روح نجس.. يالحزن النفس وكسرة القلب!! يسوع: ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان. إنها محاولة أخيرة لعل يهوذا يرجع إلى نفسه، ويدرك الأمور على حقيقتها.. إن ابن الإنسان سيمضي كما هو مكتوب، بحسب مشورة الله المحتومة.. نعم هذا سيتم يا يهوذا.. سيتم سواء سلمتني أو لم تفعل، فلماذا تزج بنفسك ياتلميذ في طريق الخيانة البشعة؟!! وإن كان العرف والتقليد يُجرّم اعتداء الإنسان على صاحبه الذي أكل معه في صحفة واحدة، فكم وكم بتلميذ عاش مع معلمه ثلاث سنين يأكل ويشرب وينام معه..؟! لكم جرح يهوذا معلمه!! " لأنه ليس عدو يُعيّرني فأحتمله. ليس مبغضي تعظم عليَّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور" (مز 55: 12 - 14).. " أيضًا رجل سلامتي الذي وثقت به أكل خبزي رفع عليَّ عقبه" (مز 41: 9).. إن رؤساء الكهنة لم يطلبوا منك يا يهوذا أن تسلمني، لأنه لم يخطر على بالهم أن تلميذًا يخون ويبيع معلمه بثمن عبد. ونظر يسوع بعين المستقبل القريب فإذ يهوذا صديقه الذي عاشره أكثر من ثلاث سنوات مُعلقًا مشنوقًا، فتنهد كمن هو في كمدٍ، وكمن أصابته خسارة جسيمة وقال: كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد.. والتقطت أذان يهوذا هذه العبارات التي تذيب الفؤاد، وسمع أبواق التحذير التي دوَّت عاليًا لكيما توقظه قبل فوات الأوان، ولكن مازال يهوذا يراوغ، فقال في نفسه: ربما بلغته أنباء أن أحد المقربين إليه سيسلمه، ولكن لعله لا يعرف من هو بالضبط.. غير أن نظرات يهوذا صارت زائغة، واشتد ارتباكه أكثر مما كان يبدو في أشد المواقف حساسية. ولنا أن نتساءل: مادام يسوع يعلم أن يهوذا سيخونه فلماذا خلقه..؟! لقد خلق الله يهوذا حرًّا مريدًا، ومقابل هذه الحرية عليه أن يتحمل مسئولية تصرفه، فكان يمكن ليهوذا أن يكون تلميذًا مخلصًا مثل بقية أخوته، ولكنه أختار أن يكون خائنًا، وباع سيده. وإن تساءل أحد: مادام تسليم يهوذا لمعلمه قد ساهم في خطة الخلاص.. فلماذا يُدَان؟.. يُدان لأن ما فعله هو شر، وقصد منه يهوذا الإساءة لسيده، ولم يقصد على الإطلاق خلاص البشرية، فهو مسئول عن جرمه. وقال يسوع بصوت مسموع: يا يهوذا.. ما أنت فاعله فأفعله بأكثر سرعة. وقال بطرس في نفسه: أما زال المعلم يُميّزه عنا حتى أنتفخ علينا؟! ألعله قد أرسله في مهمة عاجلة لشراء احتياجات العيد.. وقال تداوس في نفسه: لعل المعلم يكون قد أرسله في مهمة تخص الفقراء. وأدرك يهوذا أن المعلم يعرف الأمر كله، وأن كل أوراقه صارت مكشوفة، فتضايق جدًا، وشعر كأن شيطانه يلف حبلًا حول رقبته، ويخنقه، لذلك أدار ظهره للجالسين وانطلق كالسهم الطائش، بنظرات زائغة ويدان مرتعشتان، وعقل فقد اتزانه، ويده على جيبه تتحسَّس الكيس الجلدي الخفي وبه ثمن الخيانة.. خرج يهوذا وكان الوقت ليلًا، فغاص في ظلمة الليل البهيم منطلقًا إلى بيت قيافا حيث طريق الهلاك - متقولش مركّب في رجليه عجل. |
07 - 07 - 2014, 08:15 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| مشرفة |::..
|
رد: إلى المنتهى
شكرا ربنا يعوض تعب خدمتك
|
||||
07 - 07 - 2014, 09:52 AM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: إلى المنتهى
شكرا على المرور |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يا قصة حب الي المنتهي |
ليس المنتهى بعد |
إلي المنتهى |
إلى المنتهى +_+ |
المنتهى.........تقدم افضل عروض وارخص الاسعار فى مصر لتاجير السيارات.........المنتهى ليموزين |