في مجال الرهبنة
نظرًا لأن مصر كانت مهد الرهبنة المسيحية، فقد قصد برية الإسقيط وصحراء نيتريا (وادي النطرون حاليًا) بالذات عدد غير قليل من الرهبان الأجانب. وبالتخصيص بالنسبة للرهبان الأرمن، فقد قصد عدد منهم البراري المصرية للتعبد، وللتعلم من آباء الرهبنة الأقباط. وقد سجلت لنا المراجع التاريخية ذلك، وخصوصًا خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين[6]. وفي القرن الحادي عشر الميلادي يذكر لنا التاريخ خبر مجيء راهب أرمني قديس يدعى "ماناكيس" إلى برية شيهيت، وكان يعيش مع القديس بسوس بدير القديس يحنس كاما، وذلك في عهد البابا كيرلس الثاني البطريرك الـ67 (1078-1093م)[7].
ولكن هذا الراهب لم يكن هو الوحيد من جنسه الذي قصد البرية بمصر، فلقد كرم الأرمن هذه البرية كما كرمها الأقباط، ويظهر ذلك جليًا من زيارة البطريرك غريغوريوس الثاني للبرية سنة 523 للأرمن (أي سنة 1074- 1075م) حيث مسكن الآباء القدامى (كما سوف نأتي بالشرح فيما بعد).
كما سكن بعض الرهبان الأرمن بالدير الأبيض[8]، وزخرفوا كنيسته بالفن الأرمني من قبل فنان أرمني يدعى ثيوتوروس كيسوني [9]، فضلًا عن ثلاث كتابات أرمنية ذكر فيها اسم كاثوليكوس الأرمن كريكور الثاني فكاياسير (1066- 1105م) واسم المطران كريكور الذي رسمه ذلك الكاثوليكوس في أثناء زيارته لمصر[10].
ومما هو جدير بالذكر أن بعض الرهبان الأرمن قد سكنوا دير أبو مقار، والدليل على ذلك تلك القطع الجرافيتية الثلاث باللغة الأرمنية الموجودة بذلك الدير، ولكن للأسف غير ممكن معرفة تواريخها ولا محتوياتها[11].
ومما سبق كله نفهم أن الرهبان الأرمن عشقوا وادي هبيب، وكانوا يتمنون أن يكون لهم مسكنهم الخاص به أسوة بإخوانهم الرهبان السريان. وتحققت أمنيتهم هذه في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
دير الأرمن بالأسقيط:
ذكرنا فيما سبق الوجود الأرمني بالأسقيط، ولكنه كان وجودًا متبعثرًا وغير منظم حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، ثم وقعت بعض الأحداث التي مهدت لتحويل منشوبية[12] الأرمن إلى دير خاص بهم في القرن الحادي عشر بصحراء وادي هبيب: فلقد زار الأسقيط الكاثوليكوس كريكور الثاني بهرام سنة 523 للأرمن (1074- 1075م) بعد أن تخلى عن كرسي البطريركية قاصدًا زيارة البرية التي كان يسكنها الآباء القدامى[13]. وهناك في البرية أسس كرسي المطرانية بمصر، ورسم لها المطران كريكور (ولعل هذا هو سبب تسجيل الرهبان اسمي الكاثوليكوس والمطران على جدران دير الأنبا بيشوي كما سبق وأشرنا). كما تميزت هذه الفترة في تاريخ مصر السياسي بنمو النفوذ الأرمني بتولية بدر الدين الجمالي (الأرمني الجنسية) وزيرًا للخليفة الفاطمي. وأخيرًا الزيارة التي قام بها الكاثوليكوس الشاب كريكور فكاياسير في أبيب سنة 803ش (يوليو سنة 1088م) لمصر حيث التقى في هذه الزيارة بقداسة البابا كيرلس الثاني البطريرك الـ67 (1078- 1093م) واعترف له بالإيمان الأرثوذكسي الصحيح[14] ثم زيارته للبرية المقدسة ليتناول مع الرهبان الأقباط، ولكي يلاحظ أسلوب حياتهم وقوانينهم وأنظمتهم ويجمعها ليطبقها مع رهبانه[15]. زمن تأسيس الدير ومؤسسه:
رغم ما سبق عرضه من عوامل تأسيس الدير إلا أننا لا نستطيع على وجه الدقة تحديد زمن تأسيس الدير ولكن لعله كان بعد سنة 1088م على الأقل لسببين هما:
1- أن زيارة الكاثوليكوس كريكور فكاياسير لم يذكر فيها ذلك الدير بصورة واضحة.
2-أن المؤرخ القبطي منصور بن موهوب قام في نفس السنة بزيارة لوادي هبيب، وكتب تقريرًا مفصلًا عن عدد الأديرة بهذا الوادي وعدد رهبان كل دير، ولم يذكر دير الأرمن في هذا التقرير.
غير أنه من المرجح أن تأسيس هذا الدير قد تم مباشرة بعد زيارة الكاثوليكوس كريكور فكاياسير لمصر كرمز للاتفاق بين الجنسيات المتعددة التي لها نفس الإيمان الأرثوذكسي. ولكن تأخر الأرمن في تنفيذ ذلك نوعًا ما إذا ما قورنوا بالسريان، وربما يرجع ذلك إلى انه حتى هذا التاريخ لم يكن لهم اتفاق واضح مع الكنيسة القبطية.
وبالتالي كون الكاثوليكوس الشاب كريكور فكاياسير (ويساعده بلا شك الراهب مانا كيس) هو مؤسس دير الأرمن بالإسقيط[16].
خراب الدير:
كتب المؤرخ العربي المقريزي في خططه التي وضعها بين عامي 1417- 1436م عن الكنائس والأديرة القبطية بمصر وعن وادي هبيب فذكر ديرًا للأرمن بالقرب من دير القديس يحنس كاما، ولكنه قال عنه إنه خرب[17]. ومما يؤكد ذلك الكلام ايضًا عدم ذكر هذا الدير في خبر زيارة البابا بنيامين الثاني البطريرك الـ82 (1327- 1339م) للبرية سنة 1330م لتكريس الميرون[18]. أي أن دير الأرمن بالإسقيط كان مرتبطًا تقريبًا بالنفوذ السياسي الأرمني بمصر. فتأسس في أوج هذه الفترة واختفى من الوجود مع تقلص هذا النفوذ أو بعده بقليل.
ومع ذلك فقد كشفت مصلحة الاثار المصرية حديثًا عن أطلال هذا الدير ومعظم مبانيه، وهى بقايا كنيسة الدير الواضحة ومائدة الرهبان وعشرات القلالي، وإن كانت تحتاج للترميم والصيانة[19].
_____
[6] عزازيان، المرجع السابق الذكر.
[7] هوايت، إيفيلين، تاريخ الرهبنة القبطية في الصحراء الغربية، ج3، تعريب الأب الراهب بولا ساويروس البراموسي، طبعة خاصة للدارسين بمعهد الدراسات القبطية، مارس 1997م، ص94.
[8] المقصود به دير الأنبا شنوده رئيس المتوحدين بسوهاج.
[9] عزازيان، المرجع السابق الذكر، ص 134، نقلًا عن البطريرك (طوركوم كوشافيان)، كنائس الأرمن القديمة والحديثة في مصر (باللغة الأرمنية)،ص244- 245.
[10] عزازيان، المرجع السابق، ص134، نقلًا عن ماتيوس أورهايستي، حوليات (باللغة الأرمنية)، ص 139.
[11] هوايت، تاريخ الرهبنة، مرجع سابق الذكر، ص 101.
[12] منشوبية ma`n]wpi: أصلها كلمة قبطية mansope معناها: مسكن، راجع: 477 2, p. René-Georges Coquin, “Cell”, The Coptic Encyclopedia, vol.
[13] هوايت، مرجع سابق الذكر، ص 81.
[14] المرجع السابق، ص 94.
[15] Solomon A. Nigosian, op. cit., p. 234-235.
[16] هوايت، مرجع سابق الذكر، ص97.
[17] المرجع السابق، ص95.
[18] المرجع السابق، ص 95.
[19] صموئيل (الأنبا)، الآثار القبطية التي اكتشفت في عصر البابا شنودة الثالث، بالقاهرة دون تاريخ، ص 13.